ـ وقد تنازع العلماء أيضاً في نسبة الاشتقاق على أقوال كثيرة أرجحها:
1ـ ما رجَّحه شيخ الإسلام ابن تيمية وابن خلدون وطائفة كبيرة من العلماء من أنها نسبة إلى الصُّوف حيث كان شعار رهبان (*) أهل الكتاب الذين تأثر بهم الأوائل من الصوفية، وبالتالي فقد أبطلوا كل الاستدلالات والاشتقاقات الأخرى على مقتضى قواعد اللغة العربية، مما يبطل محاولة نسبة الصوفية أنفسهم لأهل الصُّفَّة من أصحاب رسول (*) الله صلى الله عليه وسلم، أو محاولة نسبة الصوفية أنفسهم إلى علي بن أبي طالب والحسن البصري وسفيان الثوري رضي الله عنهم جميعاً، وهي نسبة تفتقر إلى الدليل ويعوزها الحجة والبرهان.
2ـ الاشتقاق الآخر ما رجحه أبو الريحان البيروني 440هـ وفون هامر حديثاً وغيرهما من أنها مشتقة من كلمة سوف sophاليونانية والتي تعني الحكمة. ويدلِّل أصحاب هذا الرأي على صحته بانتشاره في بغداد وما حولها بعد حركة الترجمة النشطة في القرن الثاني الهجري بينما لم تعرف في نفس الفترة في جنوب وغرب العالم الإسلامي. ويضاف إلى الزمان والمكان التشابه في أصل الفكرة عند الصوفية واليونان حيث أفكار وحدة الوجود والحلول (*) والإشراق (*) والفيض (*). كما استدلوا على قوة هذا الرأي بما ورد عن كبار الصوفية مثل السهروردي ـ المقتول ردة ـ بقوله: (وأما أنوار السلوك في هذه الأزمنة القريبة فخميرة الفيثاغورثيين وقعت إلى أخي أخميم (ذي النون المصري) ومنه نزلت إلى سيارستري وشيعته (أي سهل التستري) وأضافوا إلى ذلك ظهور مصطلحات أخرى مترجمة عن اليونانية في ذلك العصر، مثل الفلسفة (*)، الموسيقا، الموسيقار، السفسطة (*)، الهيولي.
• طلائع الصوفية: ظهر في القرنين الثالث والرابع الهجري ثلاث طبقات من المنتسبين إلى التصوف وهي:
• الطبقة الأولى: وتمثل التيار الذي اشتهر بالصدق في الزهد إلى حد الوساوس، والبعد عن الدنيا والانحراف في السلوك والعبادة على وجه يخالف ما كان عليه الصدر الأول من الرسول (*) صلى الله عليه وسلم وصحابته بل وعن عبّاد القرن السابق له، ولكنه كان يغلب على أكثرهم الاستقامة في العقيدة، والإكثار من دعاوى التزام السنة ونهج السلف، وإن كان ورد عن بعضهم ـ مثل الجنيد ـ بعض العبارات التي عدها العلماء من الشطحات، ومن أشهر رموز هذا التيار:
ـ الجنيد: هو أبو القاسم الخراز المتوفى 298هـ يلقبه الصوفية بسيد الطائفة، ولذلك يعد من أهم الشخصيات التي يعتمد المتصوفة على أقواله وآرائه وبخاصة في التوحيد والمعرفة والمحبة. وقد تأثر بآراء ذي النون النوبي، فهذبها، وجمعها ونشرها من بعده تلميذه الشبلي، ولكنه خالف طريقة ذي النون والحلاّج و البسطامي في الفناء (*)، حيث كان يُؤْثر الصحو (*) على السكر (*) وينكر الشطحات، ويؤثر البقاء على الفناء، فللفَناءِ عنده معنى آخر، وقد أنكر على المتصوفة سقوط التكاليف (*). وقد تأثر الجنيد بأستاذه الحارث المحاسبي الذي يعد أول من خلط الكلام (*) بالتصوف، وبخاله السري السقطي ت 253هـ.
وهناك آخرون تشملهم هذه الطبقة أمثال: أبو سليمان الداراني عبد الرحمن بن أحمد بن عطية العني ت205هـ، وأحمد بن الحواري، والحسن بن منصور بن إبراهيم أبو علي الشطوي الصوفي وقد روى عنه البخاري في صحيحه، والسري بن المغلس السقطي أبوالحسن ت253هـ، سهل بن عبد الله التستري ت273هـ، معروف الكرخي أبو محفوظ 200هـ، وقد أتى من بعدهم ممن سار على طريقتهم مثل: أبي عبد الرحمن السلمي 412هـ محمد بن الحسين الأزدي السلمي، محمد بن الحسن بن الفضل بن العباس أبويعلى البصري الصوفي 368هـ شيخ الخطيب البغدادي.
ـ ومن أهم السمات الأخرى لهذه الطبقة: بداية التمييز عن جمهور المسلمين والعلماء، وظهور مصطلحات (*) تدل على ذلك بشكل مهَّد لظهور الطرق من بعد، مثل قول بعضهم: علمُنا، مذهبنا (*)، طريقنا، قال الجنيد: (علمنا مشتبك مع حديث رسول (*) الله صلى الله عليه وسلم) وهو انتساب محرم شرعاً حيث يفضي إلى البدعة (*) والمعصية بل وإلى الشرك أيضاً، وقد اشترطوا على من يريد السير معهم في طريقتهم أن يَخرُجَ من ماله، وأن يُقلَّ من غذائه وأن يترك الزواج مادام في سلوكه.
ـ كثر الاهتمام بالوعظ والقصص مع قلة العلم والفقه والتحذير من تحصيلهما في الوقت الذي اقتدى أكثرهم بسلوكيات رهبان (*) ونُسَّاك أهل الكتاب حيث حدث الالتقاء ببعضهم، مما زاد في البعد عن سمت الصحابة وأئمة التابعين. ونتج عن ذلك اتخاذ دور للعبادة غير المساجد، يلتقون فيها للاستماع للقصائد الزهدية أو قصائد ظاهرها الغزل بقصد مدح النبي (*) صلى الله عليه وسلم مما سبَّب العداء الشديد بينهم وبين الفقهاء، كما ظهرت فيهم ادعاءات الكشف (*) والخوارق وبعض المقولات الكلامية. وفي هذه الفترة ظهرت لهم تصانيف كثيرة في مثل: كتب أبو طالب المكي قوت القلوب وحلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني، وكتب الحارث المحاسبي. وقد حذر العلماء الأوائل من هذه الكتب لاشتمالها على الأحاديث الموضوعة والمنكرة، واشتمالها على الإسرائيليات وأقوال أهل الكتاب. سئل الإمام أبو زرعة عن هذه الكتب فقيل له: في هذه عبرة ؟ قال: من لم يكن له في كتاب الله عز وجل عبرة فليس له في هذه الكتب عبرة.
• ومن أهم هذه السمات المميزة لمذاهب (*) التصوف والقاسم المشترك للمنهج (*) المميز بينهم في تناول العبادة وغيرها ما يسمونه (الذوق)، والذي أدى إلى اتساع الخرق عليهم، فلم يستطيعوا أن يحموا نهجهم الصوفي من الاندماج أو التأثر بعقائد وفلسفات (*) غير إسلامية، مما سهَّل على اندثار هذه الطبقة وزيادة انتشار الطبقة الثانية التي زاد غلوها (*) وانحرافها.
• الطبقة الثانية: خلطت الزهد بعبارات الباطنية (*)، وانتقل فيها الزهد من الممارسة العملية والسلوك التطبيقي إلى مستوى التأمل التجريدي والكلام النظري، ولذلك ظهر في كلامهم مصطلحات: الوحدة، والفناء (*)، والاتحاد (*)، والحلول (*)، والسكر (*)، والصحو (*)، والكشف (*)، والبقاء، والمريد، والعارف، والأحوال، والمقامات، وشاع بينهم التفرقة بين الشريعة والحقيقة، وتسمية أنفسهم أرباب الحقائق وأهل الباطن، وسموا غيرهم من الفقهاء أهل الظاهر والرسوم مما زاد العداء بينهما، وغير ذلك مما كان غير معروف عند السلف الصالح من أصحاب القرون المفضلة ولا عند الطبقة الأولى من المنتسبين إلى الصوفية، مما زاد في انحرافها، فكانت بحق تمثل البداية الفعلية لما صار عليه تيار التصوف حتى الآن.
• ومن أهم أعلام هذه الطبقة: أبو اليزيد البسطامي ت263هـ، ذوالنون المصري ت245هـ، الحلاج ت309هـ، أبوسعيد الخزار 277ـ 286هـ، الحكيم الترمذي ت320هـ، أبو بكر الشبلي 334 هـ وسنكتفي هنا بالترجمة لمن كان له أثره البالغ فيمن جاء بعده إلى اليوم مثل:
ـ ذو النون المصري: وهو أبو الفيض ثوبان بن إبراهيم، قبطي (*) الأصل من أهل النوبة، من قرية أخميم بصعيد مصر، توفي سنة 245 هـ أخذ التصوف عن شقران العابد أو إسرائيل المغربي على حسب رواية ابن خلكان وعبد الرحمن الجامي. ويؤكد الشيعة (*) في كتبهم ويوافقهم ابن النديم في الفهرست أنه أخذ علم الكيمياء عن جابر بن حيان، ويذكر ابن خلكان أنه كان من الملامتية (*) الذين يخفون تقواهم عن الناس ويظهرون استهزاءهم بالشريعة (*)، وذلك مع اشتهاره بالحكمة والفصاحة.
ويعدُّه كُتَّاب الصوفية المؤسسَ الحقيقي لطريقتهم في المحبة والمعرفة، وأول من تكلم عن المقامات والأحوال في مصر، وقال بالكشف (*) وأن للشريعة (*) ظاهراً وباطناً. ويذكر القشيري في رسالته أنه أول من عرَّف التوحيد بالمعنى الصوفي، وأول من وضع تعريفات للوجد والسماع، وأنه أول من استعمل الرمز في التعبير عن حاله، وقد تأثر بعقائد الإسماعيلية الباطنية (*) وإخوان الصفا (*) بسبب صِلاته القوية بهم، حيث تزامن مع فترة نشاطهم في الدعوة إلى مذاهبهم (*) الباطلة، فظهرت له أقوال في علم الباطن، والعلم اللدني، والاتحاد (*)، وإرجاع أصل الخلق إلى النور المحمدي، وكان لعلمه باللغة القبطية (*) أثره على حل النقوش والرموز المرسومة على الآثار القبطية في قريته مما مكَّنه من تعلم فنون التنجيم (*) والسحر والطلاسم الذي اشتغل بهم. ويعد ذو النون أول من وقف من المتصوفة على الثقافة اليونانية، ومذهب (*) الأفلاطونية الجديدة، وبخاصة ثيولوجيا أرسطو في الإلهيات، ولذلك كان له مذهبه الخاص في المعرفة والفناء (*) متأثراً بالغنوصية (*).
ـ أبو يزيد البسطامي: طيفور بن عيسى بن آدم بن شروسان، ولد في بسطام من أصل مجوسي (*)، وقد نسبت إليه من الأقوال الشنيعة ؛ مثل قوله: (خرجت من الحق إلى الحق حتى صاح فيّ: يا من أنت أنا، فقد تحققت بمقام الفناء في الله)، (سبحاني ما أعظم شأني) ، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يعده من أصحاب هذه الطبقة ويشكك في صدق نسبتها إليه حيث كانت له أقوال تدل على تمسكه بالسنة، ومن علماء أهل السنة والجماعة (*) من يضعه مع الحلاج والسهروردي في طبقة واحدة.
ـ الحكيم الترمذي: أبو عبد الله محمد بن علي بن الحسين الترمذي المتوفى سنة 320ه أول من تكلم في ختم الولاية وألف كتاباً في هذا أسماه ختم الولاية كان سبباً لاتهامه بالكفر وإخراجه من بلده ترمذ، يقول عنه شيخ الإسلام ابن تيمية: "تكلم طائفة من الصوفية في "خاتم الأولياء" وعظَّموا أمره كالحكيم الترمذي، وهو من غلطاته، فإن الغالب على كلامه الصحة بخلاف ابن عربي فإنه كثير التخليط). [ مجموع الفتاوى [1/363] وينسب إليه أنه قال: "للأولياء (*) خاتم كما أن للأنبياء (*) خاتماً"، مما مهد الطريق أمام فلاسفة الصوفية أمثال ابن عربي وابن سبعين وابن هود والتلمساني للقول بخاتم الأولياء (*)، وأن مقامه يفضل مقام خاتم الأنبياء (*).
• الطبقة الثالثة:
وفيها اختلط التصوف بالفلسفة (*) اليونانية، وظهرت أفكار الحلول (*) والاتحاد (*) ووحدة الوجود، على أن الموجود الحق هو الله وما عداه فإنها صور زائفة وأوهام وخيالات موافقة لقول الفلاسفة، كما أثرت في ظهور نظريات الفيض (*) والإشراق (*) على يد الغزالي والسهروردي. وبذلك تعد هذه الطبقة من أخطر الطبقات والمراحل التي مر بها التصوف والتي تعدت به مرحلة البدع العملية إلى البدع العلمية التي بها يخرج التصوف عن الإسلام بالكلية. ومن أشهر رموز هذه الطبقة: الحلاج ت309هـ، السهروردي 587هـ، ابن عربي ت638هـ، ابن الفارض 632هـ، ابن سبعين ت 667 هـ.
ـ الحـلاَّج: أبو مغيث الحسين بن منصور الحلاج 244 ـ 309هـ ولد بفارس حفيداً لرجل زرادشتي، ونشأ في واسط بالعراق، وهو أشهر الحلوليين والاتحاديين، رمي بالكفر (*) وقتل مصلوباً لتهم أربع وُجِّهت إليه:
1ـ اتصاله بالقرامطة.
2ـ قوله "أنا الحق".
3ـ اعتقاد أتباعه ألوهيته.
4ـ قوله في الحج، حيث يرى أن الحج إلى البيت الحرام ليس من الفرائض الواجب أداؤها.
كانت في شخصيته كثير من الغموض، فضلاً عن كونه متشدداً وعنيداً ومغالياً، له كتاب الطواسين الذي أخرجه وحققه المستشرق الفرنسي ماسنيون.
• يرى بعض الباحثين أن أفراد الطائفة في القرن الثالث الهجري كانوا على علم باطني واحد، منهم من كتمه ويشمل أهل الطبقة الأولى بالإضافة إلى الشبلي القائل: (كنت أنا والحسين بن منصور ـ الحلاج ـ شيئاً واحداً إلا أنه أظهر وكتمت)، ومنهم من أذاع وباح به ويشمل الحلاج وطبقته فأذاقهم الله طعم الحديد، على ما صرَّحت به المرأة وقت صلبه بأمر من الجنيد حسب رواية المستشرق الفرنسي ماسنيون.