السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
المحاضرة الخامسة:
القرآن الكريم رسالة الله إلى الإنسان
" في المبدإ، والمعاد، والمعاش"(1)
الدكتور معروف الدواليبي
الأستاذ بجامعة الرياض – المملكة العربية السعودية
1 – أن خير طريقة لوصل طلاب المعرفة بالقرآن الكريم هو أن نجرد لهم القرآن [الكريم] أولا من جزئياته وتفصيلاته، وأن نردهم إلى كلياته العامة، ومقاصده المحدودة في ثلاث، وهي تلك التي حملتها رسالة القرآن [الكريم] منذ أيامها الأولى ثم ما لبثت هذه الرسالة أن أخذت بالتأكيد عليها في صور مختلفة، بالإيجاز تارة وبالتفصيل تارة أخرى، وذلك حسب ظروف المخاطب، ومقتضيات الأحوال وأساليب التربية العلمية الناجحة، وفي خلال ثلاث وعشرين سنة.
2 – أما هذه الكليات والمقاصد فهي:
أولا: العقيدة في "مبدإ" هذا الكون وأنه هو "الله".
ثانيا: العقيدة في "معاد" هذا الكون أيضا، وأنه إلى " الله".
ثالثا: الالتزام بشريعة " معاش" الإنسان في حياته العرضية القصيرة على هذه الأرض، وذلك من أجل سعادته في " معاشه ومعاده"
وإلى هذه الكليات والمقاصد الثلاثة يشير الله سبحانه في قوله في القرآن الكريم : { إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } (يونس: 4).
3- هذا وقد انطلق القرآن الكريم في كل ذلك من منطلقات حية واقعية لا تصنّع فيها، وهي تحيط بكل إنسان من وجوده بعد العدم إلى عدمه من جديد، وتدعوه إلى التفكير الجدي في مصيره، وقد بصره القرآن [الكريم] في كل ذلك وألح عليه في صور مختلفة بوجوب استخدام عقله وتفكيره، وبحثه العلمي من اجل سعادته في الدارين.
4 – إنه لمن المفيد أن نتناول موضوعنا ضمن الفقرات الموجزة التالية:
أولا: مقدمة في التعريف الموجز بشخص محمد صلى الله عليه وسلم، تعريفا يلقي الضوء عليه، وعلى جملة الرسالة التي جاء يدعو إليها البشرية كلها.
ثانيا: معلومات عامة وموجزة أيضا عن القرآن الكريم ومقاصد الرسالة القرآنية الثلاثة.
ثالثا: مكان التربية القرآنية العلمية في تحقيق مقاصد القرآن [الكريم] الثلاثة.
مقدمة في التعريف بمحمد صلى الله عليه وسلم:
5 – أما محمد صلى الله عليه وسلم فهو:
- ابن مكة واليتيم في أبويه منذ طفولته الأولى.
- ولقد نشأ وترعرع في كفالة عمه أبي طالب الحليف للفقر.
- ونشأ أميا كما جاء في القرآن [ الكريم] نفسه، وهو يتلى على الجميع في حياته، ويعرفه كل إنسان حينذاك من مؤمن به وكافر.
- ولم يبلغ الخامسة والعشرين من عمره حتى أطلق عليه أبناء قومه لقب " الأمين" كأبرز صفة من صفاته التي جعلته محببا إلى الناس ومحمودا لديهم في سلوكه.
- وأن أمانته هذه، وصدق حديثه ، وحرمة بني قومه له قد جعلت منه مستودعا لأمانات الناس من مسلمين وغير مسلمين، وكذلك جعلت منه قبل الإسلام الحكم الذي أرتاح له سادات قريش لحل أعظم مشكلة كادت تعصف بهم يوم تجديد بناء الكعبة.
- وأن عقله وتفكيره النيرين قد حملاه منذ أيام شبابه الأولى على الابتعاد عن عبادة آلهة قومه من الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، وعلى الاعتزال من وقت لآخر في بعض كهوف الجبال تصفية للنفس، وبحثا عن الحقيقة، حتى جاءه الوحي بتكليفه بالبدء بدعوة بني قومه إلى ترك عبادة الأصنام، وإلى عبادة الله خالق السموات والأرض ومن عليها، مع أمر الله بالتزام أوامره في العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وفي النهي عن كل ما هو قبيح فاحش، وما هو مستنكر، وما فيه عدوان وظلم.
6- ولقد دعاه سادات قومه المشركين إلى ترك شتم أصنامهم، وإلى ترك دعونه لعبادة الله وحده ، على أن يعلنوه ملكا عليهم لما عرفوا فيه من نجابة وخلق نبيل، فأجابهم: " (والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك فيه).
7- وحينما هدده أعداء دعوته بالقتل، تحداهم القرآن الكريم علنا وقال: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ ... وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ - (( أي يحميك)) - مِنَ النَّاسِ} (المائدة:70)، وقال القرآن الكريم أيضا:{ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (التوبة:32).
وكذلك كان، وقد أتم محمد صلى الله عليه وسلم دعوته بكل اطمئنان إلى وعد الله بحمايته، وبانتصار دعوته على الرغم منا قد مر به من حالات ضعف واضطهاد وتهديد ما كانت تبشر بانتصار.
8- هذا وقد ميز القرآن الكريم ما بين شخصيتين لمحمد [ صلى الله عليه وسلم]: فهو في الأصل رسول الله إلى الناس فيما يبلغهم عن الله من ناحية، ثم هو من ناحية ثانية وتبعا للأولى ولي أمرهم للنظر في شؤونهم مدة حياته معهم، على أن يبايعوه البيعتين: بيعة على الإسلام، وبيعة على الطاعة له.
9 – أما شخصية محمد [ صلى الله عليه وسلم] الأولى فلا تخضع أعمالها إلى أية مشورة مع الناس وذلك مصداقا لما جاء في القرآن [ الكريم]: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } ( المائدة:67).
10- وأما شخصية محمد [ صلى الله عليه وسلم] الثانية التابعة باعتباره ولي أمر المؤمنين عملا بما جاء في القرآن [ الكريم ] من قوله: { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } ( الأحزاب: 6)، فقد أمره الله بمشاورتهم كما جاء في القرآن الكريم أيضا:{ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ } (آل عمران: 159)، وذلك لتكون سيرته معهم أسوة حسنة لمن بعده ممن يتولى أمرا من أمورهم بموجب الشورى بينهم أيضا، عملا بما جاء في القرآن الكريم: { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (الشورى: 38) حيث اعتبرت الولاية بعده من شؤونهم، ولذا تركت في ذاتها وإشكالها لاختيارهم، وتبعا لظروفهم المتطورة، ووفقا لمصالحهم الزمنية المتغيرة، حتى لا يكون هناك كل ثابت فيما لا يمكن تجميده على شكل منذ ذلك الزمن، كما هي سياسة التشريع القرآني في كل ما قد سكت عنه، على أن لا يخرج عن روح الشريعة العامة في تلمس الخير والمصلحة للأمة، وعلى أساس المفهوم الشرعي القائل: " أينما كانت المصلحة فثم حكم الله وإن لم ينزل به الوحي، ولا قال به الرسول [ صلى الله عليه وسلم]".
11 – وأخيرا فإن محمدا [ صلى الله عليه وسلم] قد مات بعد أن أمر أهل بيته ساعة وفاته بأن يتصدقوا بجميع ما بيته مما كان من الدراهم القليلة، وحرم عليهم أن يرثوا عنه شيئا مما قد تركه، وقال في ذلك: " نحن معاشر الأنبياء لا نورث".
12 – وهكذا نشأ محمد [ صلى الله عليه وسلم] فقيرا، ومات فقيرا، وبشر بانهيار دولتي فارس والروم بعده أمام دعوة الإسلام، وكذلك كان، وترك ذريته وأهل بيته لا يرثون عنه شيئا من متاع الدنيا، على الرغم من سيادته الشاملة التي وضع فيها المسلمون جميع أموالهم وأرواحهم تحت تصرفه، ولم يعط أحدا من ذريته وأهله مهما قرب منه أي امتياز للخلافة عنه، أو الإمارة على الناس.
13- وأخيرا ختم رسالته مودعا وهو لا يفكر بغير سلام الإنسان، والعمل لخيره على اختلاف الأعراق والأجناس والأديان [؟]، وقال في ذلك كله: " لا تَرجِعوا بعدي كفَّارًا يَضرب بعضكم رقابَ بعض" كما قال: " الخلق كلهم عيال الله، فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله" [ضعيف جدا كما في ضعيف الجامع ( حديث رقم 2946)].
معلومات عامة عن القرآن الكريم ومقاصد الرسالة القرآنية
14- أما القرآن الكريم فهو:
خاتم الرسالات السماوية السابقة، وقد قامت رسالته على اعتبار أن الإنسان منذ خلق على الأرض قد مر في تجارب كثيرة، وأن هذه التجارب قد أكسبته معرفة وخبرة كافية، وأنه لذلك لم يعد الإنسان عملا بشريعة القرآن [ الكريم] في حاجة إلى قيادته عن طريق المعجزات وخوارق العادات، بل قد آن الأوان لتحريره وعدم قيادته إلا عن طريق خطاب العقل والتشجيع للعلم، والتعمق في الفكر والملاحظة...وقد كان في ذلك أول تكريم لهذا الإنسان في رسالة القرآن [ الكريم].
ولذلك جهر القرآن [ الكريم] بأن دعوته الشاملة لجميع بني الإنسان إنما يتفهمها منه أهل العقل والعلم والفكر، وقال في ذلك تارة:{ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (يونس: 5) ... وتارة:{ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } (الروم: 28)، وتارة أخرى:{ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }(يونس: 24).
15- وانطلاقا من ذلك فإن دعوة القرآن [ الكريم] للإنسان قد اقتصرت على وجوب تعميق معرفته العلمية، والعقلية، والفكرية في مقاصد القرآن [ الكريم] الكلية الثلاثة التالية:
أولا: في "مبدإ" هذا الكون والإنسان، وإنه هو "الله".
ثانيا: في "معاد" هذا الكون والإنسان وإنه إلى " الله".
ثالثا: في الالتزام بشريعة " معاش" الإنسان في حياته العرضية القصيرة على هذه الأرض "بعمارتها"، والمسؤول عن " عبادة الله فيها"، وذلك من أجل ضمان سعادته فيها فردا وجماعة أولا، ثم ضمان سعادته الأبدية بعدها ثانيا، وقد تضمنت شريعة القرآن [ الكريم] " الإرشادات " إلى كل ذلك بصورة كلية، وقد بين الرسول [ صلى الله عليه وسلم] ما لا بد من بيانه، وترك للمؤمنين "حق الاجتهاد" في جميع ما يجّد لهم مما قد سكت عنه القرآن [ الكريم] والرسول [ صلى الله عليه وسلم].
16- ولقد تناول القرآن [ الكريم] تلك المعارف الثلاثة في مجموعة من الآيات بلغت (6342) آية، وقد تناولها جميعا على أسس تربوية علمية كما سنشير إليها مرة ثانية في مبحث " التربية العلمية" ، وربط فيها لذلك ما بين الإيمان بالله وبين أوامر الله وبالالتزام بشريعة " معاش الإنسان" من أجل خيره وسعادته في المعاش والمعاد.
غير أن ما قد خصص للمعرفة حول شريعة " معاش" الإنسان مدة حياته العرضية القصيرة على هذه الأرض لم يتجاوز "خمسمائة" [500] من آيات الإحكام الشرعية، أي أنها كانت دون العشر من مجموع آيات القرآن [ الكريم]، وذلك تقديرا لتطور الإنسان واختلاف وقائع الحياة، ورغبة في مساهمة الإنسان باستنباط الأحكام وفقا لقواعد القرآن [ الكريم] العلمية العقلية الثابتة في كل ما قد يجّد له من وقائع حيوية حديثة لم يتناولها القرآن [ الكريم] ولا الرسول [ صلى الله عليه وسلم].
17- وقد كانت كل آيات القرآن [ الكريم]، وفي جميع المعارف الثلاثة الواجبة، هي آيات كلية إرشادية لجميع رجال العلم، من غير كهنوت أو احتكار للعلم في الإسلام، وكما ترك للإنسان ، تبعا لتغير الظروف وتقدم العلم، حرية النظر والتعمق العلمي والتفنن فيه حول حقائق المبدإ والمعاد، فكذلك كانت آيات الأحكام حول "شريعة معاش الإنسان" كلية مثلها، واشتملت على قواعد وأحكام عامة واجبة العمل بها على مثل الأحكام العامة في الدساتير العالمية اليوم. غير أن هذه الأحكام الكلية في القرآن [ الكريم] هي مما لا يقبل التغيير والتبديل وذلك بسبب طبيعتها الثابتة علما وعقلا ومصلحة، كالأمر بوجوب العدل بين الناس، وكتحريم البغي والظلم، وكإيجاب الشورى في أمور الأمة.
18 – هذا وقد ترك للرسول [ صلى الله عليه وسلم] بنص القرآن [ الكريم] بيان جميع ما قد كانوا في حاجة إلى بيانه حسب الوقائع مدة حياته، كما ترك للمسلمين حرية الاجتهاد فيما قد سكت عنه بيان الرسول [ صلى الله عليه وسلم]، بل وكذلك فيما سكتت عنه نصوص القرآن [ الكريم]، وذلك في كل ما قد ما يجّد لهم من وقائع مع تغير الظروف والأزمان، وقد ألحق بالشريعة كل ما جاء به الاجتهاد، كما هو ثابت ومعروف لدى كل دارس لشريعة الإسلام، وهكذا فإن الاجتهاد في إصدار الأحكام كان وما يزال حقا ثابتا للفرد والجماعة بإقرار وتشجيع من رسول الإسلام [ صلى الله عليه وسلم]. وليس من حق أحد إيقاف هذا الاجتهاد، بل قد ندب الرسول [ صلى الله عليه وسلم] أحيانا إلى الشورى في الاجتهاد، فقال جوابا لسائل عن أحكام مسائل لم يأت لها ذكرا في القرآن [ الكريم] ولا في السنة فقال: "
اجمعوا له العالمين، ولا تقضوا فيه برأي واحد " [ ( ضعيف منكر ): السلسلة الضعيفة الحديث رقم 4854 ].
وبذلك تسقط دعوى من زعم من المستشرقين بأنه لا حق لأحد من الأمة بالمساهمة في استحداث الأحكام عملا بشريعة القرآن [ الكريم]، وأن ذلك "... قد نزع نهائيا من أيدي المؤمنين على الأرض واختص بها الله وحده"
19- وتتميما للتعريف بمقاصد الرسالة القرآنية حول " المبدإ والمعاد" فقد أوجبت هذه الرسالة على الإنسان النظر العلمي العميق فيما في السماء والأرض وما بينهما، وخاصة في التكوين العجيب الدقيق في خلق الإنسان نفسه، وفتحت بذلك لكل إنسان آفاق السموات والأرض للبحث العلمي من غير تخوف من نتائج الكشف العلمي، ومن غير حجر عليه فيها، بل قد فرضت رسالة القرآن [ الكريم] ذلك فرضا على الإنسان، وقالت: { قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ } (يونس: 101)، وقالت أيضا: { وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ () وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (الذاريات: 20- 21)، وفي ذلك شجب صريح لمن يتوقف عن البحث العلمي الذي أوجبه القرآن [ الكريم].
20- وهكذا فقد كلفت رسالة القرآن [ الكريم] الإنسان باكتشاف قوانين الكون وأسرار الخليقة العلمية المحكمة والدالة على قدرة صانعه وحكمته فيها، وقالت في إرشاد الإنسان إلى ذلك كله: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } (آل عمران: 190)، كما قالت أيضا: { الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ }( الرحمن: 5)، وكما قالت أيضا في الأرض: { وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ }( الحجر: 19)، داعية بصراحة إلى استكشاف أسرار الطبيعة من نبات وجماد وإنسان، ومؤنبة كل من يقف عن هذا البحث العلمي، وكان هذا هو سر التقدم العلمي العجيب في عصور الإسلام الذهبية.
21- وتشير رسالة القرآن [ الكريم] فوق ذلك فيما يتعلق بمعاش الإنسان على الأرض إلى ما القي على عاتقه مدة حياته من وجوب عبادة الله فيها، ووجوب عمارته لها، وفي ذلك يقول القرآن [ الكريم]: { يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (هود: 61) ((اسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا: أي طلب منكم عمارتها)).
وقد زاد الرسول [ صلى الله عليه وسلم] في بيان ذلك فقال: " إن قامت الساعة وفى يد أحدكم فسيلة – أي شجيرة صغيرة- فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها" وفي ذلك تأكيد على الواجب الملقى على الإنسان في الاستمرار في عمارة الأرض، وشجب للتقاعس عن العمل وزيادة الإنتاج لمصلحة الأجيال حتى ولو لم يكن للجيل العامل فيه حظ منه.
22 – وقبل ختام هذا المبحث حول مقاصد القرآن [الكريم ] الثلاثة في " المبدإ والمعاد والمعاش" وتبسيطا لرسالة القرآن [الكريم ] لدى طلاب المعرفة للقرآن [الكريم ] نوصي الراغبين في ذلك:
أولا: إذا أرادوا التعرف على حقائق الرسالة القرآنية حول " المبدإ والمعاد " فليرجعوا إلى استعراض أية سورة في ذلك من "السور المكية" المشار إليها في عنوانها والبالغة (86) سورة من أصل (114) من سور القرآن الكريم، حيث يجدون الموضوع في كل ذلك واحدا، ولكنه مختلف في العرض وفي الصورة وفي الأسلوب من سورة إلى أخرى، بشكل جذاب وتحت شعار الدعوة إلى استعمال العقل والفكر والعلم بأحدث ما يستطيع الإنسان ابتكاره من وسائل البحث العلمي والتكنولوجيا الحديثة.
ثانيا: وإذا أرادوا التعرف على قواعد السلوك الإنساني، ومبادئ " الشريعة " العامة في سياسة الفرد والمجتمع ، والممزوجة في آن واحد مع حقائق المبدإ والمعاد المهذبة للنفوس، فليرجعوا إلى استعراض أية سورة في ذلك من "السور المدنية" البالغة فقط (28) سورة، والخاضعة أيضا إلى استعمال العقل والفكر والعلم من أجل الكشف عن أسرار الحكمة فيها.
مكان التربية القرآنية العلمية في تحقيق مقاصد القرآن [الكريم] الثلاثة:
23- إننا هنا لا بد من التأكد على مكان التربية القرآنية العلمية العقلية على " العقيدة الإسلامية" وذلك بصورة خاصة حول:
- "مبدإ" هذا الكون، وأنه هو "الله".
- و"معاده " وأنه إلى " الله"، وأن الناس مبعوثون ليوم عظيم.
24- وإنه منذ أصبحت هذه العقيدة إرثا وتقليدا وهجرت في ذلك " آيات القرآن [ الكريم] التربوية العلمية العقلية" المهذبة للنفوس، والداعية إلى تقوى الله، لم يعد في الإمكان أن يكون مسلمنا اليوم كالمسلمين الأولين الذين قال الله فيهم سبحانه وتعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } [(آل عمران: 110)] خاصة وأن كتب التربية في البرامج الرسمية عندنا هي نسخة عن كتب التربية كما تدرس في جميع برامج الثقافة العالمية المادية من شرقية وغربية، وهي متعارضة مع قواعد التربية الإسلامية من ناحيتين أساسيتين:
أولا: أنها تحدد " المعرفة العلمية " بأنها ما خضع للحس والتجربة، ولما كان القول بوجود الله لا يخضع للحس والتجربة، فإن القول بوجود الله ليس من العلم بشيء.
ثانيا: أنها تجعل من علم التربية علما ماديا قاصرا على تعلم الحياة من أجل الحياة.
25- ولذلك فإن الإيمان بالله قد أقصي نهائيا من علم التربية وكتبها، وأرجعوا إليها إن شئتم فيما يدرس منها في برامج علم التربية، وقد أصبح من واجب المسلمين الاخصائيين في علم التربة أن يسارعوا اليوم إلى استدراك هذا النقص في الناحيتين، لأن تقدم العلوم اليوم أصبح يرفض هاتين الناحيتين، وعليهم أن يصححوا تعريف " المعرفة العلمية" بما يشمل الاستدلال بالمشاهد المحسوس على الغائب، وبما يرفع من مستوى الإنسان في تربيته وكرامته عن مستوى الحيوان في حياته وغريزته.
28- هذا، ويلاحظ فيما سبق في مبحث " مقاصد القرآن [ الكريم]" أن آيات القرآن [ الكريم] في جملتها حول مقاصد القرآن [ الكريم] في " المبدإ والمعاد والمعاش" قد بلغت (6342) آية، في حين أن آيات التشريع لم تتجاوز الخمسمائة آية منها، وهي في ذلك دون العشر من مجموع آيات القرآن الكريم ، وقد اختص " المبدإ والمعاد " بباقي الآيات وهي (5842) آية، وفي ذلك دليل إلى ما قد أعطاه القرآن [ الكريم] من الأهمية لعقيدتي " المبدإ والمعاد " من أجل صلاح الإنسان وسلوكه في " معاشه".
27- وهكذا فقد ربى المسلمون الأولون علميا وعقليا وفكريا على الإيمان بالله، خلال واحد وعشرين عاما من نزول الوحي، وعلى أن الله هو الذي بدأ الخلق، وأنه هو الذي يعيده بعد الفناء، وأنه سبحانه وتعالى لم يخلقهم عبثا وأنهم إليه راجعون، وإلى غير ذلك من النصوص القرآنية التي يجملها قوله سبحانه وتعالى: { إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } ( يونس: 4)، وكذلك قوله: { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } (المطففين: 1-6).
28- وهكذا فإن من تربى علميا وعقليا وفكريا على هذه العقيدة القرآنية في
" المبدإ والمعاد " وتأكد في ذلك من نصوص القرآن الكريم، ومن واقع الحال: أن الحياة الدنيا بالنسبة للحياة الآخرة ما هي إلا كلمح البصر، وإنها دار مرور لا دار استقرار، { وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ } [( العنكبوت:64 )] أي الحياة الحقيقية، وأن مصير الإنسان في الدار الآخرة إنما هو تبع لسلوكه في الفترة القصيرة في الحياة الدنيا، إن خيرا فخير وإن شرا فشر... نقول أنه من تربى هذه التربية القرآنية في عقيدته في الله علما وعقلا وفكرا، صحت عندئذ صلته بالقرآن [ الكريم] على نحو الصلة فيما بين القرآن [ الكريم] وبين المسلمين الأولين، وعندئذ أصبح الإنسان سويا، وواحدا من الأمة التي قال فيها سبحانه وتعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [(آل عمران:110)].
وفي ذلك فليتسابق المتسابقون.
الهوامش:
(1)- اعتمدنا هذا التقسيم أخذا من الحديث الشريف الوارد في سورة { قل هو الله أحد...} وسورة (الفاتحة)، فقد قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم]: ( " قل هو الله أحد" تعدل ثلث القرآن)) وقال في سورة (الفاتحة) أنها: " أم القرآن" أي الجامعة لجميع مقاصد القرآن [الكريم]، وبالتأمل في سورة { قل هو الله أحد...} نجدها لا تتجاوز ذات الله باعتباره " المبدئ للكون" ثم بالتأمل في الفاتحة نجدها تناولت " المبدأ" في { رب العالمين } ثم تناولت " المعاد" في { مالك يوم الدين } ثم تناولت المعاش في باقي السورة.