وإليكم بعض ما قاله المؤرّخون الثقات حول هذه المسألة .
يقول الدكتور أبو القاسم سعد الله شيخ المؤرخين في الجزائر(وهو ليس من المتصوفة) : ((.. لقد ملّ كثير من الناس ظُلْمَ الأتراك العثمانيين وجمودهم على حالة واحدة ، ونظرتهم الأرستقراطية ـ الدكتاتورية ، وابتزازهم للمال دون تقديم البديل من علم وفكر وتقنيات، برغم أنهم في قرارة قلوبهم يعرفون أنهم يشتركون معهم في الدين ، ولو لم يبق من هذا الدين المشترك إلا القشور))
وفي معرض حديثه عن الباي حسن والي وهران قال : (( ولم يكن التقدم في السن هو السبب الوحيد في انسحاب الباي حسن . فقد كان يحس بأنه حاكم لا تربطه بالمحكومين أيّة رابطة ماعدا التسلط والإرهاب والفائدة المالية . وقد ظلّ في الحكم طيلة سنوات فلم يصلح الأوضاع المعاشية للناس ولم يجعل نفسه حاكمًا محبوبًا أو قريبًا من المواطنين ..... يُضاف إلى ذلك أنه خيّرهم بين الوقوف معه أو تسليم نفسه للفرنسيين ، ولم يخيرهم بين الجهاد والاستسلام . ولو فعل لوجدهم ، كما كانوا في الماضي ، سبّاقين لدعوة الجهاد والدفاع عن الوطن ضد العدو الفرنسي ..... ولكن الباي حسن فضّل أن يسلّم مفاتيح المدينة إلى العدو بعد أن ضمن له هذا الخروج سالماً من وهران ثم من الجزائر إلى حيث يريد))
ثم قال : ((أما أهل المدن فقد فكّروا في حل ديني وسياسي يضمن الأمن والاستقرار وذلك بالدخول في طاعة حاكم مسلم يمنحونه البيعة التي كانت في أعناقهم للباي حسن .... لقد فكّروا في السلطان العثماني (انتبه أخي القارئ) فإذا هو بعيد كلّ البعد عاجز كل العجز عن توفير ما يرغبون فيه ما دام قد عجز عن إنقاذ مدينة الجزائر ، وإذا هو مشغول بحروبه في البلقان وفي غيره))
إلى أن قال : ((وها هو حصار وهران (حصار ضربه المجاهدون على الجيش الفرنسي) لا يقوده الموظفون الإداريون في حكومة الباي حسن ، الذين حنّكتهم التجارب وعرفوا أسرار المدينة ، ولا يقوده أعيان الحضر من أمثال ابن نونة أو حمادي الصقال الذين امتلأت جيوبهم بالمال وبطونهم بالشحم ، ولا يقوده أيضًا أولئك "الأتراك" الطامعون في السلطة والاستبداد أمثال إبراهيم بوشناق ومصطفى المقلش ، ومحمد المرصالي ، ومصطفى بن عثمان ، وإنما قاده رجلٌ خرج من زاوية القيطنة، يقرأ القرآن ويدعوا إلى الجهاد (يقصد الحاج محيي الدين الحسني والد الأمير) .)).انتهى
وخلال حديثه عن مبايعة الشعب للأمير قال الأستاذ سعد الله : ((فالرجل شريف من آل هاشم ومن آل البيت ؛ أو المَحْتِدُ العربي والنَّسَبُ النَّبوي.... وهو المتعبّد في مسجد القيطنة والعاكف في مكتبة الوالد : يذكر الله ويتأمل في خلقه ويقرأ كتابه ، ويحفظ أشعار وآثار الأقدمين ، وهو الواقف على ما كان في الشرق من تخلّف وتحوّل ، وما كان في الغرب من تقدم وتسلط ....وتجمهر الفقراء والفلاحون والجنود في سهل غريس يؤمّنون على البيعة ويدخلون في حزب الجهاد تحت راية أمير المؤمنين الجديد ....وجلس الأمير يضع الخطط للمستقبل ، فعيّن كتابه ووزراءه ، وقوّاده وولاته، ولم يراعِ فيهم إلا الكفاءة والإيمان وتحرير البلاد..... ولكي يُسْكِتَ الأصوات التي قد تنتقده ، اعتمد على الشريعة الإسلامية في أحكامه وجعل دستوره هو القرآن ، مستعينًا بسيرة السلف الصالح))
وكان د. سعد الله قال قبل ذلك في وصف الأمير والفَرْق بينه وبين البايات التركية : ((إنه بطل كأبطال اليوم يرجع إلى الشعب ويحسّ بنبضاته ، ويتقمص آماله ، ويحتكم إلى القرآن والسنة وآثار السلف ، وينفتح على الحضارة والعلم والعقل ، ويستمد طموحه من الشرف والجهاد والوطنيّة)).انتهى[من كتاب الحركة الوطنية الجزائرية ص157إلى 173]
وفي ص122 قال الأستاذ سعد الله يصف الأمير في معرض الحديث عن القيادة الدنيوية والقيادة الروحية : ((ولكن الحاج عبد القادر(الأمير) تقمّص القيادتين معًا ، ولذلك أصبح أميرًا للمؤمنين وليس شيخ زاوية (مرابطا) أو شيخ عرش (قائد أو آغا ..)).انتهى
وقال عنه ص400 : ((الأمير عبد القادر فوق الطرق الصوفية كلها ، أي إنه كان يعمل من أجل فكرة أشمل وهي الدين والوطنية)).انتهى
وكان الأخ محمد المبارك في (فك الشيفرة) قد أتحفنا بنقل كلام للأمير فقال : وقد وجّه خطابه الأول إلى كافة العروش قائلاً: "… وقد قبلت بيعتهم (أي أهالي وهران وما حولها) وطاعتهم، كما أني قبلت هذا المنصب مع عدم ميلي إليه، مؤملاً أن يكون واسطة لجمع كلمة المسلمين، ورفع النزاع والخصام بينهم، وتأمين السبل، ومنع الأعمال المنافية للشريعة المطهرة، وحماية البلاد من العدو، وإجراء الحق والعدل نحو القوي والضعيف، واعلموا أن غايتي القصوى اتحاد الملة المحمدية، والقيام بالشعائر الأحمدية، وعلى الله الاتكال في ذلك كله".انتهى
وأنا أسوقه للتذكير به ،
ثم ساق الأخ الكاتب ظاهرةً ، فقال إن الأمير قد اعتمد عَلَمًا مغايرًا للعلم العثماني الخاص بالجزائر، ثم راح يصف العَلَم ، ثمّ خرج منها بتحليل عجيب ،فقال :"ولم يكن ظهور هذا العلم بمحض الصدفة في هذه الفترة بل كان يرمز إلى استقلال سياسي عن الدولة العثمانية، فكانت بذلك من أوائل الحركات الانفصالية التجزيئية التي أعلنت الخروج على الخلافة الاسلامية العثمانية".انتهى
أقول : لقد كانت المقاومة في الجزائر على أقسام ، أهمها : قسم الشرق وقسم الغرب ، وكان هناك أشخاص مازالوا متمسكين بالولاية التركية في الجزائر كالباي أحمد في قسنطينة مثلاً ، وهم رافضون للاتحاد مع الأمير أو مبايعته ، وكانوا يوجهون له الضربات من الخلف خلال معاركه مع فرنسا ، فليس من الحكمة في شيء أن يرفع الأمير علمًا مماثلاً لِعَلَمهم فتختلط الأمور على الجند والمجاهدين ، والأمير مع أنه لم يتفق مع أولئك الأشخاص إلاّ أنه لم يحاربهم أبدًا ، ولم يَكِدْ لهم مع فرنسا كما فعلوا هم به ، فهؤلاء الأتراك أو الموالين لهم في النهاية قد سلّموا البلاد للفرنسيين ومنهم من تعاون مع فرنسا وطعنوا المجاهدين من الخلف .[والكلام للأستاذ سعد الله]
ولكن أغرب ما في كلام كاتب (فك الشفرة) هو قوله عن جهاد الأمير والبيعة له :"فكانت بذلك من أوائل الحركات الانفصالية التجزيئية التي أعلنت الخروج على الخلافة الاسلامية العثمانية".انتهى
إذا كان جهاد الأمير للفرنسيين ، ومقاتلته للصليبيين الغزاة يُعد عند الكاتب خروجًا على الخلافة ، فماذا سيقول عمن كان واليًا للسلطان ثمّ انقلب عليه وتفرّد بالحكم؟ وماذا سيقول عمّن كان مسلمًا فقاتل الجيش العثماني المسلم ، وخرج على الخليفة؟ كل هذا وليس هناك أي وجود لا للصليبيين ولا لأي محتل أجنبي!!
لقد انفصل الوالي محمد علي باشا عن الخلافة العثمانية وانفرد بحكم مصر ووجه جيوشه إلى الشام ووصل إلى مشارف اسطنبول . وكذلك الحال في بلاد "نجد" حيث قام محمد بن سعود وحارب العثمانيين وأسس الدولة السعودية الأولى التي وصلت حتى حوران في الشام ، وهذا قبل ولادة الأمير عبد القادر!!
فإذا كان الكاتب مقتنعًا بأنّ الأمير خرج على الخلافة!! ، فكيف ساغ له أن يقول عن جهاده إنه من أوائل الحركات الانفصالية التجزيئيّة التي أعلنت الخروج على الخلافة ، وهناك من سبقه إلى ذلك بعقود بل قبل ولادته؟!! مع أن تلك القناعة هي من الغرائب حقًا ، إذ كيف يسمى المجاهد للجيش الفرنسي الصليبي خارجًا عن الخلافة؟!
وأين أعلن الأمير الخروج عن الخلافة؟ ومن روى هذا الخبر؟ وأعجب من ذلك أننا نتحدث عن بلاد تابعة للخلافة العثمانية سقطت تحت الاحتلال الفرنسي الصليبي فتخلّت عنها الخلافة فقام الشعب يجاهد هذا المعتدي ، فإذا بكاتب (فك الشفرة) يصف مقاومة الأمير للغزو الصليبي بأنها من أوائل الحركات الانفصالية التجزيئيّة التي أعلنت الخروج على الخلافة!!!!
والله كلام عجيب غريب.
ولم يكتف الكاتب بذلك ، فتابع يقول :"وقد عاد الأمير ليكمل ذلك الدور في بلاد الشام ، فقد كانت الجمعية الماسونية قد أخذت على عاتقها محاربة الخلافة العثمانية لكونها كانت تقف سداً منيعا أمام الأطماع العالمية في العالم العربي والاسلامي ، ولذلك فقد حاولت الجمعية آنذاك بتدبيرٍ من الأمير عبد القادر الجزائري رئيس المحفل السوري الماسوني آنذاك اغتيال متصرف جبل لبنان العثماني للاستقلال عن الدولة العثمانية".انتهى
أقول : عن أي دور يتكلم الكاتب؟ طبعًا هو يقصد الخروج عن الخلافة ، وقد رأيتم بطلان هذا الادّعاء ، وأمّا اتهامه الأمير بأنه دبّر لاغتيال متصرف جبل لبنان ، نزولاً عند رغبة الجمعية الماسونية التي يرأس أحد محافلها!
فنقول له : {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}[النمل : 64]
لم يكن هناك متصرف لجبل لبنان إلاّ بعد حادثة 1860م ، وكان أول متصرف هو داود باشا الأرمني ، ولم يقتله أحد! فمن أين أتى الكاتب بهذه الأخبار؟!
وأُعيد ما قاله المؤرخ الكبير أبو القاسم سعد الله لمناسبة الحال : ((إنّ دولة الأمير الوليدة لم تحاربها فقط جيوش فرنسا حباً في التسلط والبطولة وطمعاً في إنشاء إمبراطوريّة ، ولم يقف ضدّها فقط "الكولون" (يعني المستوطنين الأوربيين) بمحاريثهم وأموالهم لكي يستغلوا الأرض المغتصبة ويستثروا على حساب الجزائريين ، بل حاربتها أيضاً ظاهراً وباطناً ، الكنيسة والماسونية (الصهيونية) ، كما حاربها سلاطين المسلمين وحتى بعض علمائهم النائمين .
حاربتها الكنيسة لأنها اعتبرتها حركة جهاد إسلامي متوثب فيه انتعاش ونهضة للإسلام الراكد إذا انتصرت ، واعتبرت الكنيسةُ نفْسُها عمَلَها ذلك استمراراً للصليبية التي خاضت في الشرق والغرب حروباً ضارية ضد الإسلام والمسلمين ، بما فيها الأندلس ووهران ، وتآمرت عليها الماسونية خصوصًا في الدوائر المحيطة بالحكومة الفرنسية وحاشية الملك وقطعان التراجمة والمستشرقين الذين توافدوا على الجزائر ، لأنّ دولة الأمير كانت دولة عربيّة سلفيّة ، شريفة ، لو انتصرت لكانت خطراً عظيماً على مخططات الماسونية ـ الصهيونية في الشرق!!، ولكانت أول دولة توحّد العرب على كلمة الجهاد كما وحّدتهم عليها زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وزمن الخلفاء الراشدين)).انتهى [الحركة الوطنية الجزائرية ص274ـ275].
لقد أفشل الأمير مخططات الكنيسة والماسونية في الجزائر وكذلك في الشام ، ولكن كاتب (فك الشيفرة) للأسف ؛ يعتمد فيما يبدو على ما يروّجه بعض الحاقدين على الأمير.
تنبيه : بعد هزيمة الأمير عبد القادر وغدر الحكومة الفرنسية به وسجنه في فرنسا ، اعترفت الدولة العثمانية على لسان سلطانها بالسيادة الفرنسية على الجزائر وذلك سنة (1847م) ، وبعد ذلك حدث تقارب بين الفرنسيين والعثمانيين ، وشاركت قوات جزائرية فرنسية في حرب القرم إلى جانب الدولة العثمانيّة !!![انظر الحركة الوطنية ص342،ص373]فما رأي الكاتب في هذا؟!
والحديث عن الماسونية سأتناوله في الحلقات القادمة إن شاء الله .
وختامًا أنبه إلى مسألة هامّة وهي أنّ الخلافة العثمانيّة حفَّت الأمير عبد القادر برعاية كاملة وحفاوة مطلقة منذ قدومه إلى الآستانة إلى أن مات ، وخصصت له الأموال والامتيازات وكان مسموع الكلمة عند السلاطين والولاة ، وعُيّن أبناؤه في مناصب حكومية عليا في اسطنبول وحصلوا على أعلى الأوسمة والألقاب ، وكذلك أبناء إخوته كانوا مقرّبين جداً من الخليفة وأوكل إليهم العديد من الوظائف الدينيّة كالإفتاء ونقابة الأشراف على كامل الممالك العثمانية ؛ وغيرها من الوظائف ، وفَرَضَ لهم الخليفة بعد وصولهم إلى بلاد الشام مرتبات شهريّة ، وعندما مات الأمير شيَّعته فِرَقٌ من الجنود العثمانيين ، واستمرّت الدولة العثمانية على هذا الاحترام والإكرام للأمير وأهله إلى أن خُلِع السلطان عبد الحميد وبدأت جماعة الاتحاد والترقي بالحكم .
فهل كاتب (فك الشفرة) مقتنع بأنّ الخلافة العثمانية بكل رجالاتها وسلاطينها لم تشعر بخطط ونيّات الأمير المعادية لها ، سواء عندما كان الأمير في الجزائر أو بعد قدومه إلى دمشق إلى أن مات؟! مع العلم أن السلاطين العثمانيين كانوا بمجرد ظهور بعض الشبهات حول أي شخص وسوء نيّتِه تجاههم يسرعون لاستئصاله .
لتحميل الحلقة الخامسة بصيغة الوورد : الرد على الشبهات ح 5
ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله
خلدون مكي الحسني
للبحث صِلَة إن شاء الله