التواصل وفلسفة الفعل التواصلي 2
عمر كوش- يعتبر الفيلسوف الألماني يورغن هابرماز أحد كبار الفلاسفة في عصرنا الراهن، ومن المنشغلين بشكل كلّي بالشأن العام، وينهل، في فلسفته، من التراث النقدي لفلاسفة مدرسة فرانكفورت.
وتتجلى أهميته في أنه فتح الفلسفة المعاصرة على نظرية التواصل، بشكلها المتميز، ثم سار بها قدماً، كي تمس السلوك الاتصالي، سعياً منه إلى تشخيص حال العالم بشكل عام، والمجتمعات الأوروبية بشكل خاص، ومحاولاً تحليل أسباب ونتائج ما يهدد الحياة الإنسانية، وبالأخص محاولات تحطيم بنيات الاتصال في خصوصياتها الإنسانية التي ترتبط بالقوى اللاعقلانية في عالم اليوم.
التواصل
يُعرّف التواصل بعملية نقل معلومة أو خطاب من مرسل إلى مستقبل أو من باعث إلى متلق، الغاية منها تبليغ معلومة أو رسالة معينة إلى متلق معين، وتتم بواسطة قناة اتصال معينة. وهي عملية بسيطة، لكنها تحمل مركبات ومفارقات واختلافات، نظراً لأن الرسالة التي يراد تبليغها ليست على الدوام واضحة ودقيقة وتحمل المعنى المتفق عليه أو المراد تبليغه، حيث تميل جميع الرسائل باتجاه التعدد والاختلاف والتنوع، وبالرغم من أهمية مستوى المتلقي فإنه لا يسجل على الدوام معطى الرسائل بشكل سلبي، بل يحاول الفهم وإصباغ الرسالة بدلالة معينة. كما أن قناة الاتصال تقوم بدور مؤثر في محتوى ومضمون الرسالة، وذلك تبعاً لكونها وسيلة سمعية أم بصرية.
ولا يهدف التواصل إلى الإخبار فقط، بل إلى التأثير والإيهام والإغراء، لذا فإن العملية التواصلية تتصف بخاصية التعقيد، وتستلزم السؤال والاستفهام والتحليل والدراسة وحتى البحث.
وباعتبار أن التوصل يهدف إلى نقل معلومة أو رسالة بين طرفين، فإنه يرتبط باللغة وفلسفتها، الأمر الذي جعل علماء اللغة يعتبرون التواصل الوظيفة الأولى والأصلية والأساسية للغة، فيما اعتبر هابرماز أن التواصل هو مجموع الترابطات التي يتفق حولها المشاركون بغية تحقيق مخطط أعمالهم بطريقة فعالة. ويظهر التواصل، بالنسبة إليه، في شكل الفعل الذي يخرج الوعي من باطنه نحو الانفتاح على الآخر.
وقد أسس هابرماز نظريته في مجال التواصل على نتائج نظرية أفعال الكلام والألسنية والتداول، وأعطاها تفسيرات اجتماعية وسياسية وقانونية. ونقطة الانطلاق في تناوله مجال التواصل هي الفضاء العام وكيفية تشكل الرأي العام، حيث يرى بأن الفضاء العام كان مجالاً أو ميداناً للتعبير عن الرأي الفكري والنقدي، ثم جاءت وسائل الإعلام لتحتله وتشوهه، وتسيطر على مضمونه، كي تجعله دعامة للإيديولوجيا والمصالح. وبات من الضروري، مع تحول العلم والإيديولوجيا إلى أدوات للهيمنة، مساءلة الفضاء العام والتفكير في التواصل من جديد، وذلك من خلال تأسيس نظرية اجتماعية وثقافية في التواصل تسمح بالشروع في تفكير عقلي ونقدي جديد ومستقل لقضايا عصرنا، وهو أمر لا ينهض إلا بواسطة نظرية الفعل التواصلي حسب هابرماز.
الفعل التواصلي
يعدّ الفعل التواصل الإطار النظري والفلسفي لنقد العقل عند هابرماز، القائم على مفهوم تداولي للغة، حيث يماهي ما بين اللغة والعقل، من جهة النظر إلى اللغة بوصفها مبدأ العقل، وتمثل العقل بالفعل أو هي العقل في حالة فعل، لذلك يمكن اعتبار العقل التواصلي عقل لغوي، حيث تشكل اللغة الأساس والمحتوى لكل مجتمع إنساني، وتحقق ذلك بشكل تداولي.
غير أن فعل التواصل بين الأفراد والجماعات هو منطلق هابرماز لفك إسار علم الاجتماع من الأطروحات التقليدية، القائمة على الوعي، ويريده هابرماز أن ينهض على الفعل التواصلي، نظراً لتميزه بطابع محدد للعلاقات التواصلية التي لا ترجع أو تختزل إلى مجرد تبادل الأخبار أو المعلومات أو المعطيات بواسطة اللغة، حيث لا يقوم الفعل التواصلي فقط على تبادل المعلومات ضمن سياق أو ظروف اجتماعية معينة، بل يقوم بتأويل ما يحدث، لأنه يسهم في بناء العالم المعاش.
والفعل التواصلي هو فعل يستلزم المحاججة والمناقشة النقدية، إلى جانب الحق في الرفض أو القبول، وقد وضع هابرماز مفهوم أخلاق المحادثة الذي يعتمد على اللغة العادية، بوصفه مبدأ معيارياً نموذجياً في البلدان الديموقراطية، معتبراً أن الإنسان ما أن يبدأ في الحديث أو الحوار أو في فعل التواصل حتى يكون قد قبل بالاحتكام إلى معيار أخلاقي يخضع جميع الاختلافات للحجج والأدلة التي تحقق الإجماع، لذلك تنهض المحادثة على قاعدة الكونية والديموقراطية.
التواصل الديموقراطي
يعتبر هابرماز الفرد والجماعة مبدأين أساسيين، لا يجوز مقابلتهما ضدياً، بل يجب النظر إليهما بوصفهما ثنائية أصلية في الديموقراطية. وبهذا يتجاوز هابرماز الفكرين: الليبرالي الذي يعلي من شأن الفرد على حساب الجماعة، والماركسي الذي يعلي من شأن الجماعة على حساب الفرد. ويشترط القبول بمبادئ المساواة والاستقلالية، بوصفها مبادئ مؤسسة للمجتمع الديموقراطي. غير أنه إذا كان التوافق يتيح قيم الاندماج والاستقرار بين مكونات الجماعة، فإن ذلك لا يعني التسليم بأن التراضي شرط لشرعية الجماعة أو شرط لوجودها. ومن هنا لا يجوز وضع الأمة أمام الدولة ولا الدولة أمام الأمة.
والتصور الديموقراطي التواصلي الذي يقترحه هابرماز يؤكد على المؤسساتية في دولة القانون الديموقراطي وإجراءات التداول التي تُلزم تقديم الحجة لتبرير شرعية القرارات. فضلاً عن أن التصور التفاعلي يتمركز فيه التواصل ما بين الذوات المشاركة على حيازة تصور عقلاني كوني للإرادة العامة، وليس على المعتقدات الخاصة بكل جماعة. ويمكن عقد مقارنة ما بين النموذج الديموقراطي الكلاسيكي والنموذج الديموقراطي التواصلي لإعادة تأويل موضوع حماية الحقوق الفردية، إذ أن الحقوق السياسية للتواصل والمشاركة، ومنها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، يمكن اعتبارها شرطاً وضمانات لا بد منها للاستقلالية الديموقراطية، والتي لا يمكن ممارستها إلا على قاعدة الشك الدائم وإعادة السؤال فيها باستمرار.
ويبقى التفكير في شرعية القانون في المجتمعات الديموقراطية، خاصة من جهة تفعيل مقتضيات المساواة والاستقلالية بمبادئ أخلاقيات النقاش، شيئاً ضرورياً لا بد منه. لذلك يتوجب تفعيل الديموقراطية نتيجة استمرار الصراع الدائر بين تعدد المصالح وجبروت قوى السوق والاستبداد السياسي القائم في مواضع عديدة من العالم، وخصوصاً في بلداننا العربية، حيث تأتي الديموقراطية بوصفها سؤال الضرورة للخلاص من الاستبداد وفتح الطريق أمام مختلف القوى الاجتماعية والسياسية المكبوتة للتعبير عن ذاتها، فضلاً عن أن الديموقراطية التداولية ترسي حق المجتمع المدني بكافة مستوياته وتشكيلاته في تأسيس فضاء عام للتداول، يُقدم فيه الأفراد وجهات نظرهم والحلول التي تمكنهم من التحرر من منطق الأنظمة الشمولية المستبدة، بعد عجزها وفشلها في بناء دولة لجملة مواطنيها. في حين تتيح الديموقراطية للأفراد حق إحكام تدخلهم في محيطهم وإسماع صوتهم، وتوسيع مجال الحرية والمسؤولية والمحاسبة، وهي لن تستطيع ذلك من غير الاستقلالية والمساواة اللتين تعرّفانها. ويكمن دور فلسفة التواصل النقدي، في نقد الديموقراطية التمثيلية، وفي محاولة تحرير مجال الاتصال الإنساني من قبضة العقل الأداتي والتشيؤ والاغتراب.
ينظر هابرماز إلى اللغة بوصفها وسيلةً وسلوكاً اتصالياً، وقد استخدمها في نظريته في الفعل التواصلي، التي تنهض على الحوار والتفاهم بين مجموعة المتحاورين في مجتمع الأصدقاء. وسعى في سياق ذلك إلى الكشف عن العقل العملي الذي يفرض علينا ما نعمله وما نتكلمه، من خلال الاعتراف بالتفاهم والحوار السلمي، وفي ظل ظروف وشروط الاختلاف الاجتماعي والثقافي. وهدف هابرماز من ذلك كله هو مواصلة تقاليد الأنوار، من خلال نظرية اجتماعية نقدية، تنهض على ترسيخ قيم الحرية والعدالة في الذاكرة الاجتماعية، وتربطها بقوى دولية تمكنها من تفتح نواة الخير العام، والفضاء الذي يتسع للجميع.
كما ينظر هابرماز إلى الحداثة بوصفها مشروعاً لم يكتمل، بمعنى أنها لم تحقق بعد النتائج المرجوة منها، فمشروع الحداثة عانى الكثير من الانكسارات والتراجعات، الأمر الذي حال دون إمكانية تنقية فكر الحداثة من بؤر التمركز، وأدى إلى إرهاق وعي الإنسان الحديث بجملة متناقضات أدت إلى اختلال توازنه النفسي. لذلك، انصب جهد هابرماز على "إمكانيات إخضاع ما يشكل لاعقلانية النظام لقوانين العقل الإنساني"، من خلال فهم جديد للحداثة وممارسة جديدة لعقلانية قائمة على الفعل التواصلي، لا تلغي الآخر، ولا تهمشه، بل تتحاور معه خطابياً، عبر عقل تواصلي يعبر عن نفسه في فهم انفك تمركزه على العالم.
ويقترح هابرماز "العقل التواصلي" كدرب للخروج من فلسفة الذات، من خلال "نظرية الفعل التواصلي" التي تعدّ قراءة جديدة للفلسفة الأوروبية، تظهر فيها الحداثة - في التحليل الأخير- كتحقيق لنظرية الفعل التواصلي، "على أن تفهم التواصلية خارج كل ذاكرتها الاصطلاحية وتاريخها المفهومي". حيث ترمي التواصلية إلى بناء مختلف للذات عبر "عقل تواصلي"، يتجاوز الذات الضيقة، ويشكل نسيجاً من الذوات المتواصلة. ويستمد العقل التواصلي إمكاناته من العالم المعاش، ويؤسس عقلانية تقوم على التلاحم الذاتي، يكون فيها العقل مصدر كل القرارات. هذا العقل التواصلي مدعو إلى تجاوز عقل متمركز على الذات، ووظيفته التغلب على مفارقات وتسويات نقدٍ للعقلِ ذاتيِ المرجعِ، وكذلك التخلص من كل إشكالية العقلاني. "ويتطلب الفعل التواصلي، كما تدل تسميته، تحطيم دوائر الانغلاق سواء جاءت من العبارة أو رموزها الواقعية أو ممثليها المنفذين"، بوصفه نموذج الفاعلية الموجهة نحو التفاهم. وما هو أساسي في نموذج التفاهم هذا هو الاتجاه الأدائي الذي يتبناه المشتركون في التواصل، إذ ينسقون مشاريعهم بالاتفاق فيما بينهم على أمر ما موجود في العالم . ويعول هابرماز على التوافق الفكري بين الفاعلين، لأن الفعل التواصلي يتطلب وعياً وإرادة لتحقيقه بين "أنا" و"آخر"، حيث أنا عندما أقوم بالكلام، والآخر الذي يتخذ موقفاً إزاء كلامي، نعقد كلانا، الواحد مع الآخر، علاقة بين شخصينا، في تبادل يتوسطه اللسان، يتيح للذات أن يكون لها مقابل ذاتها، كأننا متحاوران أحرار في جمهورية حرة وسقراطية.
إذاً، فالحداثة التي أفرزت فلسفة الوعي (الذات) هي التي تدعو إلى تجاوز النموذج نحو ما يسميه هابرماز بالعقل التواصلي. ونرى أن نظرية الفعل التواصلي تحاول إعادة النظر في حراك الحداثة ومؤسساتها وإعادة بنائها من خلال الظروف التاريخية والاجتماعية التي تمر بها الحداثة، لكنها قد تصطدم لا محالة بأجهزة الحداثة السلطوية، وغائيتها، وثوابتها المتمثلة بإرادة المعرفة وإرادة التغيير وإرادة الهيمنة والتي شكلت معضلات الحداثة.
كوجيتو التواصل
يمكن القول بأن الجهد النقدي لدى هابرماز انتظم في تفكيك مفهوم العقل الأداتي، والأخذ بالمفهوم الإجرائي للعقل، باعتباره ملكة تحليلٍ وتفكيرٍ مباشرٍ، وفق منهجية فلسفية اجتماعية، تتناول بالنقد منظومة القيم والعلاقات التي أنتجها العقل المتمركز على الذات، والكشف عن تناقضات العقل الأداتي الذي حوّل فعل العقل إلى فعل هيمنة وسيطرة على الإنسان. ولعلّ هابرماز لم يجد المخرج من ذلك إلا في كوجيتو جديد للتواصل، ينتج مفهوماً نقدياً للعقل، ليجعل منه عقلاً تواصلياً، ويؤمن هذا العقل التواصلي درباً آخراً للخروج من فلسفة الذات. ويركز هابرماز على الصفة الإجرائية الخالصة للعقل التواصلي، المتخلصة من كل رهان ميتافيزيقي أو ديني، وينخرط ضمن سيرورة الحياة الاجتماعية، من منطلق أن أفعال الفهم المتبادل بين الأفراد التواصليين تلعب دوراً هدفه تنسيق العمل. هكذا يفترض هابرماز قيام جمهورية للتواصل بين الأفراد العاقلين والحكماء.
غير أن التواصل لا يحصل إلا في مجال الآراء، وبالتالي فإن العقل التواصلي الذي يدعو إليه هابرماز ليس له هدف سوى تحقيق إجماع بين المتحاورين في مجتمع الغرب الحديث، وبهذا لا يقدم هابرماز مفهوماً للعقل، بقدر ما يصادر مفهوم العقل وأشكاله الأخرى لحساب التواصل، الذي تحذوه غائية البحث عن رأي شمولي ليبرالي لعالم السوق الرأسمالي، ولن نجد وراء ذلك سوى مزيداً من التمركز على الذات، الذي يدعي تفكيكه ومحاولة الخروج عنه.