كلا . . أنا أشعر !
- ثلوى . .! ثلوى . . هيييه . . .
هكذا تستقبلني مرام كل يوم حين أقدم من المدرسة . . ثم ترتمي عليَّلتحضنني ..
لم أكن أهتم بها بصراحة . .
ولم أكن أرحب بهذا الاستقبال الحار الذي تستقبلني به كل يوم وأنامنهكة بعد عودتي . .
وذات مرة حين انقضَّت على حقيبتيلتبحث فيها عن أي حلوى . .
أوقعت كتبي على الأرض . .
فصرخت في وجهها بشدة . .
وضربتها دون أن أفكر . .!
كنت غاضبة جداً
بعد أن رفضت مدرسة علم الاجتماع إعادةالاختبار لي وتجادلت معها بحدة ..
ولم يكن ينقصني بعد يوم دراسي منهك
أن أنحني لجمع كتبي المتناثرة من الأرض .
تجمدت مرام .. ونظرت إليَّ بجمود حين ضربتها ..
دون أن تتنفس بكلمة أو حتى تتألم ..
فأسرعت والدتي تؤنبني بشدة .. حرام عليك يا سلوى !..
- أفف.. لقد مللنا هذه الأسطوانة ..
مسكينة .. مسكينة ..
وما ذنبنا نحن ؟
ولماذا تخافين على مشاعرها لهذه الدرجة ؟
انظري إليها .. إنها لا تشعر أصلاً ..!!
كنت أعلم أن كلمتي هذه ستجرح أمي التي لا زالت تعتقد أن مرام طفلة شبهطبيعية ..
وترفض الاعتراف بأنها متخلفة بالمعنىالمعروف ..
صمتت أمي تماماً وهي لا تزال تحتضنها ...
بينما أسرعت أواري بصري عن المنظر بالهروب إلىغرفتي ..
لا أعرف ما الذي جرى لي .. كيف ضربتهاهكذا وقلت لأمي ما قلت ..
لكن .. أنا معذورة ..
نعم
فقد مللت .. مللت اهتمام أمي الزائد والمبالغ فيه بها ..
إنهاتدللها وتحنو عليها أكثر من أي فرد منا
استغفر الله العظيم ..
ليت الله يأخذ أمانته فيها لنرتاح نفسياً واجتماعياً ..
أمي لا تنفك عن التفكير طوال الوقت في مصيرها ..
ودائماً تردد أمامي وصيتها لي في الاهتمام بمراموالعناية بها، بعد وفاتها ...
إن هذا الشعور يجلبلي المرض ..
لقد مللت من هذا الحزن الذي تصر أميعلى إغراقنا فيه بسببها ..
لقد حرمت نفسها منالذهاب للكثير من المناسبات الاجتماعية والنزهات والسفر من أجل مرام ..
حتى زواج ابن خالتي لم تذهب إليه لأني رفضت أنتذهب إليه مرام معنا ..
هذا ما كان ينقصنا ..
أن نأخذها لتبدأ في الضحك والسلام على كلالحاضرين بفرح وبلادة
ثم تبدأ حركاتها المضحكة ..
أمي أثارها رفضي هذا ..
وقررت ألا تذهب في حال لم تذهب مرام ..
كان بإمكانها أن تتركها مع الخادمة ولو تلك الليلة فقط ..
لكن أمي .. تصرّ على تعقيدالأمور
وبث الحزن والتعاسة في كل موضوع له علاقةبمرام ..
يا الله .. متى تقتنع أمي أن مرامالمسكينة لا تفهم ولا تشعر بشيء..
إنها لم تكنلتشعر بحزن أو سعادة سواء أذهبت لذلك الحفل أو غيره أم لمتذهب..
يطرق معاذ باب غرفتي ليوقظني من النوم ..
هيا استيقظي .. لقد أذن المغرب..
أقوم ببطء .. أشعر أني منهكة ومتضايقةجداً..
أتوضأ وأصلي ..
ثم أبدأ في حل واجباتي ..
أفتح دفتر الكشكول الخاص بالهوامش ..
فألمح على آخر صفحة منه رسمة ..
يبدوأنها إحدى (شخاميط) مرام ..
أنظر إليها بهدوء .. إنها رسمة بيت حوله أشجار ..
أدقق فيها .. لم أكنأتصور أنها تستطيع رسم صورة كهذه ..
لابد أن معاذعلمها ..
ألقي الدفتر جانباً وأبدأ في حل واجباتيالكثيرة ..
وفجأة .. أطلت مرام برأسها الكبير منطرف الباب..
ضحكت.. ماذا لديك؟
.. ادخلي..
ماذا تريدين؟..
دخلت بهدوء ونظرت إليَّ ثم جلست على الأرض ..
يبدو أن منظر الدفاتر والأقلام قد أغراهاكثيراً..
هجمت على أقلامي وأمسكتها ..
ثم أمسكت أحد الدفاتر وهي تنظر إليَّ بخوف .. أرثم ؟!..
-كلا... كلا .. إعطيني إياه .. هذا للمدرسة ..
استسلمت وتركت الأقلام من يدها ..
ثم قامت نحو مكانها المفضل .. تسريحتي..
صعدت على الكرسي .. وأخذت تطلُّ على وجهها في المرآة ..
ثم التفتت برجاء وهي تمسك أحد أقلام الشفاه ..
- ثلوى.. ممكن؟
لا أعرف لماذا تعاطفت معها هذه المرة .. إنها مؤدبة جداً اليوم ..
- حسناً.. استخدمي هذا فقط ..
ارتسمت ابتسامة كبيرة على وجهها
وأسرعت تضع اللون على شفاهها بفرح ..
عدت لإكمال واجباتي ..
وانهمكت فيها ..
حين لاحظت بعد قليل هدوءها .. التفتّ إليها ..
فوجدتها تتأمل نفسها بعمق في المرآة ..
أخذت أراقبها .. كان تنظر بهدوء ..
مرة تبتسم
ومرة تقطب جبينها
ومرة ترفعرأسها ..
وفجأة تحدثت وهي تنظر لنفسها بصوت يائس أسمعه منها لأول مرة ..
- أنا (مو حلوة) ..!
صدمتنيالعبارة كثيراً.. وأخذت أنظر إليها بعمق ..
شعرت بعطف كبير عليها ..
لقد بدأت تعرف أن شكلها يختلف عن الآخرين ..
عادت بي الذاكرة إلى عشر سنواتخلت ..
حين كنا مترقبين لخبر ولادة أمي في المستشفى ..
إنها بنت.. يا سلام ..
أخيراً أصبح عندي أخت .. الحمد لله ..
أتت مرام بعد أربع أخوة ذكور ..
ففرحت بهاجداً..
حتى .. وصلنا الخبر ...
إنها غير طبيعية ..
كيف ؟.
تضخم في القلب ..
و.. ماذا؟!
إنها منغولية ..
كنت لا أزال صغيرة ولم أفهم فتساءلت ...
ماذا يعني منغولية ؟..
يعني يا سلوى .. إنها مختلفة قليلاً..
سيكون من الصعب عليها اللعب كثيراً.. أو الكلام بسهولة ..
كما أن تفكيرها .. سيكون أقل من أقرانها ..؟
سكتت وأنا أنظر للدموع التي تلمع في عيني أبي ..
وحين رأيت مرام لأول مرة ..
عرفت كيف أنها مختلفة ..
كانت بيضاء وجميلة مثل كل الصغار ..
لكنها كانت مختلفة .. لم تكن تشبهنا ..
وشيئاً فشيئاً حين كبرت بدأت ملامح التخلف تظهر واضحة عليها ..
يقول الدكتور أن الأشخاص المنغوليين لا يعيشونطويلاً ..
إنهم يموتون في سن مبكرة ..
غالباً في العشرينات .. أو الثلاثينات منأعمارهم..
لكن مرام كانت منذ صغرها تعبَّر عن حلمهابأن تصبح عروسة ..
مسكينة .. إنها لا تعلم ..
كنت دائماً قاسيةمعها ..
كنت أشعر بأنهاعبء كبير علينا ..
كماأنها تشعر ..
سواء أصرخت عليها أم شتمتها ..
فإنها لا تشعر ولا تتأثر أبداً.. بل إنها لم تبك يوماً في حياتها ..
لكن الآن .. إنها تقيَّم نفسها ..
بدأتتشعر أنها غير طبيعية .. وأن ملامحها مختلفة ..
أنا (مو حلوة) أنا (مو حلوة) ..
أخذت تتردد في ذهنيطويلاً..
وشعرت بعطف كبير عليها ..
حين اقتربت مني بهدوء وهي تشير بإصبعها السبابة إلى وجهي
حتى كادت تلامسه ..
ثلوى .. حلللوة..!
لأول مرة شعرت بأنها بحاجة لمن يضمها ..
فاحتضنتها بعطف كبير ..
فإذا بها تتمتم في صوت هامس ورأسها على رقبتي وكأنها تحادث نفسها ..
وتعيد حواراً قديماً سمعته من قبل..
- ملام.. مو .. حلوة .. لا .. لا!!
ملام مو حلوة .. ما تجي عند الحليم ..
( مرام غير جميلة .. لا .. يجب ألا تدخلعند الحريم ).
توقفت قليلاً ..
وأخذت أفكر في كلامها ..
إنها .. إنها تكرر كلامي..
نعم إنه كلامي لأمي قبلشهر حين أتانا بعض الضيوف ..
نعم .. كنت غاضبة ورفضت أن تسمح لها أميبالدخول إلى المجلس ..
أذكر أني قلت بالحرف الواحدأمامها..
( كلا ياأمي .. لا .. لا تحرجينا أمامهم بصراحة مرام شكلها (يفشل) ..
لا تتركيها تدخل على الحريم أرجوك .. )
ولم أهتم يومها بأن مرام المسكينة كانت واقفة أمامي ..
كنت أعتقد أنها لا تفهم ولا تشعر ..
لكنها .. حفظت ذلك الكلام ..
لا زال في قلبها .. إنهاتردده .. اليوم ..
مسكينة يا أختي الحبيبة ..
كل ذلك كان في قلبك الصغير المريض .. وأنا لاأعرف ..
احتضنتهاطويلاً ..
وأنا ألمس شعرها ..
وهي لا تزال تردد الحوار الهامس في هدوء ..
ثم تضيف محادثة نفسها.. ( ملام .. وع.. ولا تفهم!.. )
وشعرت بدموع ساخنةتنساب على وجنتي وأنا احتضنها بقوة ..
يا حبيبتي يا مرام .. كل هذا .. وأنا لا أعلم ..
تشعرين بكل هذا وأنا لا أشعر ..
يا لي منإنسانةقاسية وشريرة ..
كيف عاملتك هكذا .. أستغفر الله ..
كيفتمنيت لك الموت ظهر هذا اليوم ..
يا حبيبتي الغالية ..
أعلم أنك لن تعيشي طويلاً ..
وإن عشت .. عشت محرومة من الكثير مما يستمتع بهبقية الأطفال ..
ومع هذا أتمنى لك الموت؟!..
كم كنت سخيفة حين كنت أخجلمنك
وأشعر بالحرج من الاعتراف بوجودكللآخرين ..
أنت والله يا مرام .. أفضلوأطيب وأنبل من آلاف الأسوياء الذين تجمدت قلوبهم ..
تحملت كل تلك القسوة والجفاء مني في قلبك وتغاضيت عنه ..
أنت الأجمل يا مرام .. نعم .. أنت أجمل منالكثيرات بقلبك الطاهر البريء ..
-لا .. مرام حلوة .. حلووووة..
نظرت إليَّ بتعجب واستغراب .. ملام حلوة؟!
- نعم مرام أجمل فتاة في الدنيا ..!
استغربت وهي تنظر إلى عيني ..
ولمعت عيناها بفرح غامر لم أرَ مثله على وجهها ..
ثم ضحكت ضحكتها الطفولية التي أراها لأول مرةبهذا الجمال
وهذهالبراءةوالنقاء ..