كل متغير في الحياة الاجتماعية يؤثر ويتأثر ببقية المتغيرات التي تحتويها الحياة. ومن المعلوم أن هذه المتغيرات ليست متساوية في الأهمية والمكانة. بل بعضها أهم في بعض العصور من بعض. ولذلك يتناول المؤلف بعضها بشرح أوفي من بعضها الآخر وهو يدرك تمام الإدراك أن هذا النحو من التحليل سكوني أو تشريحي وأنه لا بد من التنبيه إلى الحركة الدائمة في الحياة الاجتماعية وإلى التطور وإلى تبدل تلك المتغيرات في سياق الزمان من حال إلى حال أي أن :
(ا، ب، ح، د...) تصبح بعد حين:
(اَ، بَ، حَ، دَ...) ثم:
وهكذا الأمر. فالجانب التشريحي السكوني يلزم أن يضاف إليه الجانب التطوري (أو الدينامي بالتعبير الحديث)
وهو يكتب ملحاً على أهمية هذه الصيرورة الدائمة:
"وذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر؛ إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال. وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول" (4). وهو يعلل ذلك تعليلاً يكاد يكون جدلياً إذ يعتمد على تضارب العادات وتفاوتها وتركيب المتضارب المتفاوت فيقول:
"والسبب الشائع في تبدل الأحوال والعوائد أن عوائد كل جيل تابعة لعوائد سلطانه كم يقال في الأمثال الحكمية: الناس على دين الملك. وأهل الملك والسلطان إذا استولوا على الدولة والأمر فلا بد من أن يفزعوا إلى عوائد من قبلهم ويأخذوا الكثير منها ولا يغفلوا عوائد جيلهم مع ذلك. فيقع في عوائد الدولة بعض المخالفة لعوائد الجيل الأول. فإذا جاءت دولة أخرى من بعدهم ومزجت من عوائدهم وعوائدها خالفت أيضاً بعض الشيء، وكانت للأولى أشد مخالفة. ثم لا يزال التدريج في المخالفة حتى ينتهي إلى المباينة بالجملة. فما دامت الأمم والأجيال تتعاقب في الملك والسلطان لا تزال المخالفة في العوائد والأحوال واقعة.
والقياس والمحاكاة للإنسان طبيعة معروفة"*.
هذا ما وجدناه أساسياً في طريقة ابن خلدون العلمية. ومن المعلوم أن المؤلف لم يجر على هذا الشكل من الإيضاح والتعبير الرياضي. ولكنا إذا تقصينا المتغيرات الاجتماعية المتفاوتة التي أوردها وتبينا اقتران بعضها ببعض وآثار بعضها في بعض تبينا عبقرية ابن خلدون وعمق نظراته ونفوذها واتساعها على غرار ما أوضحناه وعرفنا عندئذ سَبْقَه في هذا التحليل لكثيرين ممن أتوا بعده من العلماء جملة فاقتصروا في بحوثهم على متغير واحد من المتغيرات الاجتماعية أو على بعض المتغيرات دون هذا الشمول والنفوذ والموضوعية.
لقد كان ابن خلدون واعياً لاتساع الظواهر الاجتماعية واشتمالها على عديد من المتغيرات ولتشابكها ودخول بعضها في بعض. فهو لا يكاد يترك نوعاً من أنواعها إلا عرض له بالبحث والتفهم. وربما يكون من المفيد أن نلخص ما استطعنا هذه الأنواع التي جاءت في المقدمة.
لقد قسم مقدمته أي الجزء الأول من كتابه على ستة أبواب وقسم الباب إلى عدد من الفصول. وحاول أن يخصص كل باب من الأبواب بطائفة من الظواهر الاجتماعية ومتغيراتها. ولكنه في بعض الأحيان بسبب منهجه الذي أوضحناه لا بد من أن يتعقب المتغير ويتبين اشتباكه مع المتغيرات الأخرى وتأثير كل متغير في غيره تأثيراً متبادلاً. وهكذا تتداخل الفصول والأبواب بعضها مع بعض. ولكن المؤلف يضع لكل فصل عنواناً واضحاً وجلياً.
وهو في مقدمته كما سلف يبحث قضايا الدين والبيئة الجغرافية ومراحل العمران ونظم الحكم وشؤون السياسة والظواهر الاقتصادية وما يتعلق بها من صناعات والأمور الديمغرافية والعلوم وأصنافها والتعليم وطرقه والتربية وأصولها والأمور النفسية والقضاء والأخلاق وتذوق الفن في الصناعات واللغة والأدب والشعر وما يتفرع عنها وما ينضوي في كل نوع من الأنواع التي أثبتناها. وقد عني في جميع ما عالجه من تلك المجموعات بأن ينظر إليها من كلا الجانبين التوازني أو السكوني أو التشريحي والتطوري أي الدينامي كما أوضحنا آنفاً.
إن عرضه هذا يبدو متفاوتاً في الإسهاب والإيجاز لأنه يتعلق بطبيعة الموضوع وأهميته. ولا شك في أن المتغيرات السياسية والاقتصادية ونظم الحكم والشؤون العلمية والتربوية أبرز في كتابه من غيرها لمكانتها في الحياة الاجتماعية.
وبسبب هذه الاستفاضة في أنواع المتغيرات الاجتماعية وتداخلها لا نستطيع أن نعرض لجملة ما جاء في هذه المقدمة البليغة التي هي من أبرز معالم الفكر الاجتماعي. ولكن مع ذلك لا بد من عرض متغير اجتماعي أو ظاهرة اجتماعية
من تلك المتغيرات والظواهر وبيان مهارة ابن خلدون في معالجتها وسَبْقه إلى إيضاحها واشتباكها مع غيرها ونفوذه العميق إلى طبيعتها وتفهم كنهها.
لقد عالج الأستاذ ايف لاكوست معالجة طيبة في كتابه عن ابن خلدون جوانب عدة على حد بنية المجتمع المغربي العربي وعلاقة هذه البنية بالعصبية القبلية على حد تعبير ابن خلدون وبأثرها في إنشاء الدولة إذ ذاك وبالطرق التجارية التي كانت تسلك أواسط إفريقية إلى شماليها وكذلك أوضح تبادل السلع التجارية ولا سيما الذهب بين الجنوب والشمال والشرق والغرب وهذه أمور مهمة كما عالج أموراً أخرى ذات شأن.
نحن نعالج هنا ظاهرة خاصة بدت أهميتها في العصر الحديث وهي ظاهرة السكان أو المتغير الديمغرافي لإيضاح طريقة ابن خلدون في المعالجة ولإبراز جوانب مهمة في هذا المتغير وأثره المتبادل مع غيره. وذلك أن الديمغرافية تدخل في أعمق اختصاصاتنا.
عدد السكان متغير مستقل. يزداد فيرتبط به إذ ذاك جملة عوامل. فهذه متغيرات توابع. من هذه التوابع كثرة الأعمال وتنوعها وسعة الرزق ونفاق الأسواق ورفاهية الناس وازدهار التجارة وتقدم الصناعة وحصول الابتكار فيها.
يعقد ابن خلدون فصلاً "في أن تفاضل الأمصار والمدن في كثرة الرفه لأهلها ونفاق الأسواق إنما هو في تفاضل عمرانها في الكثرة والقلة". وينبغي أن نفهم من لفظ العمران هنا كثرة السكان. ولا بد من إيراد شطر طويل من هذا الفصل.
يقول المؤلف ببساطة ويسر: "والسبب في ذلك أنه قد عرف وثبت أن الواحد من البشر غير مستقل بتحصيل حاجاته في معاشه، وأنهم متعاونون جميعاً في عمرانهم على ذلك والحاجة التي تحصل بتعاون طائفة منهم تسد ضرورة الأكثر منهم عدداً أضعافاً. فالقوت من الحنطة مثلاًُ لا يستقل الواحد بتحصيل حصته منه.
وإذا انتدب لتحصيله الستة أو العشرة من حداد ونجار للآلات وقائم على البقر وإثارة الأرض وحصاد السنبل وسائر مؤن الفلح وتوزعوا على تلك الأعمال واجتمعوا وحصل بعملهم ذلك مقدار من القوت فإنه حينئذ قوت لأضعافهم مرات.
فالأعمال بعد الاجتماع زائدة على حاجات العاملين وضروراتهم. فأهل مدينة أو مصر إذا وزعت أعمالهم كلها على مقدار ضروراتهم وحاجاتهم اكتفي فيها بالأقل من تلك الأعمال، وبقيت الأعمال كلها زائدة على الضرورات، فتصر ف في حالات الترف وعوائده وما يحتاج إليه غيرهم من أهل الأمصار ويستجلبونه منهم بأعواضه وقيمه، فيكون لهم بذلك حظ من الغنى. وقد تبين... أن المكاسب إنما هي قيم الأعمال. فإذا كثرت الأعمال كثرت قيمها بينهم، فكثرت مكاسبهم ضرورة، ودعتهم أحوال الرفه والغنى إلى الترف وحاجاته من التأنق في المساكن والملابس واستجادة الآنية والماعون واتخاذ الخدم والمراكب. وهذه كلها تُستدعى بقيمها ويختار المهرة في صناعتها والقيام عليها. فتنفق أسواق الأعمال والصنائع ويكثر دخل المصر وخرجه، ويحصل اليسار لمنتحلي ذلك من قِبَل أعمالهم. ومتى زاد العمران زادت الأعمال ثانية، ثم زاد الترف تابعاً للكسب وزادت عوائده وحاجاته، واستنبطت الصنائع لتحصيلها فزادت قيمها، وتضاعف الكسب في المدينة لذلك ثانية ونفقت سوق الأعمال بها أكثر من الأول، وكذا في الزيادة الثانية والثالثة، لأن الأعمال الزائدة كلها تختص بالترف والغنى بخلاف الأعمال الأصلية التي تختص بالمعاش. فالمصر إذا فضل بعمران واحد ففضله بزيادة كسب ورفه وبعوائد من الترف لا توجد في الآخر. فما كان عمرانه من الأمصار أكثر وأوفر كان حال أهله في الترف أبلغ من حال المصر الذي دونه على وتيرة واحدة في الأصناف: القاضي مع القاضي والتاجر مع التاجر والصانع مع الصانع والسوقي مع السوقي والأمير مع الأمير والشرطي مع الشرطي" (5).
ويترتب على هذا تكافؤ الدخل والخرج في حال كل بلد. يقول المؤلف: "وأما حال الدخل والخرج فمتكافئ في جميع الأمصار. ومتى عظم الدخل عظم الخرج.
وبالعكس. ومتى عظم الدخل والخرج اتسعت أحوال الساكن ووسع المصر. كل شيء يبلغك من مثل هذا فلا تنكره واعتبره بكثرة العمران وما يكون عنه من كثرة المكاسب التي يسهل بسببها البذل والإيثار على مبتغيه" (6).
لقد ذكرنا قسماً طويلاً من هذا الفصل لأهميته في الديمغرافية الاقتصادية إذ يوضح العلاقة التي تربط السكان وأعمالهم ومكاسبهم بالاقتصاد في المصر الواحد.
والأقطار على مثال الأمصار في التقدم والتأخر بسبب اتساع العمران أو ضيقه، وازدياد السكان أو تخلخلهم. فهو يعقد فصلاً آخر "في أن الأقطار في اختلاف أحوالها بالرفه والفقر مثل الأمصار" فيكتب: "إن ما توافر عمرانه من الأقطار وتعددت الأمم في جهاته وكثر ساكنه اتسعت أحوال أهله وكثرت أموالهم وأمصارهم وعظمت دولهم وممالكهم. والسبب في ذلك ما ذكرناه من كثرة الأعمال وما يأتي ذكره من أنها سبب للثروة بما يفضل عنها بعد الوفاء بالضروريات في حاجات الساكن من الفضلة البالغة على مقدار العمران وكثرته فيعود على الناس كسباً يتأثلونه." (7) ويورد أمثلة على ذلك لعهده فيقول: "واعتبر ذلك بأقطار المشرق مثل مصر والشام وعراق العجم والهند والصين وناحية الشمال كلها وأقطارها وراء البحر الرومي (البحر المتوسط) كما كثر عمرانها كيف كثر المال فيهم وعظمت دولتهم وتعددت مدنهم وحواضرهم وعظمت متاجرهم وأحوالهم... واعتبر حال هذا الرفه من العمران في قطر إفريقية وبرقة (تونس وليبيا) لما خف ساكنها وتناقص عمرانها كيف تلاشت أحوال أهلها وانتهوا إلى الفقر والخصاصة وضعفت جباياتها فقلّت أموال دولها." (8)
ولا يغيب عن بال ابن خلدون تفاوت أسعار المدن في الضروري والكمالي بتفاوت اتساعها. "فإذا استبحر المصر وكثر ساكنه رخصت أسعار الضروري من القوت وما في معناه، وغلت أسعار الكمالي من الأُدْم والفواكه وما يتبعها. وإذا قل ساكن المصر وضعف عمرانه كان الأمر بالعكس" (9).
وتعليل ذلك أن الدواعي تتوافر على اتخاذ الضروري في الأمصار الواسعة وعلى تأمينه للحاجة الملحة إليه، فيفضل وفرمنه وترخص أسعاره، على حين أن الكمالي فيها يشتد الطلب عليه فيقصر الموجود منه عن الحاجات قصوراً بالغاً ويكثر المستامون له وهو قليل في ذاته نسبياً فيقع فيه الغلاء.
وعلى خلاف ذلك "الأمصار الصغيرة والقليلة الساكن. فأقواتهم قليلة لقلة العمل فيها. وما يتوقعونه لصغر مصرهم من عدم القوت فيتمسكون بما يحصل منه في أيديهم ويحتكرونه، فيغزّ وجوده لديهم ويغلو ثمنه على مستامه. وأما مرافقهم فلا تدعو إليها أيضاً حاجة لقلة الساكن وضَعْفِ الأحوال، فلا تنفق لديهم سوقه فيختصّ بالرخص في سعره." (10)
وهذا الوصف صحيح في اقتصاد السوق الحرة وفي الوقت الذي كان كل مصر يسعى نسبياً نحو اكتفائه الذاتي. ومن المناسب أن نوضح هنا ما يراه ابن خلدون من وراء ذلك في "حقيقة الرزق والكسب". وهذا ما يقربه من نظرية ماركس في العمل والقيمة. فهو يرى أن الكسب هو قيمة الأعمال البشرية وأن "ما يفيده الإنسان ويقتنيه من المتمولات إن كان من الصنائع فالمفاد المقتنى منه قيمة عمله، وهو القصد بالقنية، إذ ليس هنالك إلا العمل." وعلى هذا فإن "المفادات والمكتسبات كلَّها أو أكثرها إنما هي قيم الأعمال الإنسانية." (11)
ولا يغفل ابن خلدون دخول الضرائب في قيمة السلع فيقول: "وقد يدخل أيضاً في قيمة الأقوات ما يفرض عليها من المكوس والمغارم للسلطان في الأسواق وأبواب المصر وللجباة في منافع يفرضونها على البياعات لأنفسهم." (12).
.../يتبع