ومن الطريف أن الطاغية سمع أن ابن خلدون جاء على بغلة فارهة ففكر أن يستامها منه. وهذا يدل على أهمية المطايا أياً كان نوعها في الحروب وعلى اتجاه تفكير تيمور نحو ذلك. وقد يكون مسلياً أن ننقل حوار الاستيام هذا هنا.
كتب ابن خلدون: "ولما قرب سفره واعتزم على الرحيل عن الشام دخلت عليه ذات يوم. فلما قضينا المعتاد التفت إليّ وقال: عندك بغلة هنا؟ قلت: نعم.
قال: حسنة؟ قلت: نعم. قال: قال: وتبيعها؟ فأنا أشتريها منك. فقلت: أيدك الله! مثلي لا يبيع من مثلك إنما أنا أخدمك بها وبأمثالها ولو كانت لي. فقال: إنما أردت أن أكافئك عنها بالإحسان. فقلت: وهل بقي إحسان وراء ما أحسنت به؟
اصطنعتني، وأحللتني من مجلسك محل خواصك وقابلتني من الكرامة والخير بما أرجو الله أن يقابلك بمثله. وسكت وسكتُّ، وحُمِلَت البغلة، وأنا معه في المجلس إليه، ولم أرها بعد" (3).
وقد وصل ابن خلدون في إيابه إلى مصر سنة 803ه ولكن تيمورلنك أرسل ثمن البغلة مع رسول كان قد أرسله سلطان مصر إلى الطاغية إجابة إلى الصلح.
ولكن ابن خلدون المتمرس بالسياسة خشي أن يقبل المال وأن يصل الخبر إلى السلطان فتظن به الظنون فلم يقبله إلا بعدما أخبر السلطان بذلك فأجازه ولكن المبلغ كان ناقصاً واعتذر حامله عن نقصه بأنه أعطيه كذلك. وحمد ابن خلدون الله على الخلاص. ومع كل ذلك فقد كتب ابن خلدون إلى ملك المغرب بقصة وفادته على تيمور إيضاحاً لموقفه منه
وهكذا يمكن توزيع حياة ابن خلدون على ثلاثة أطوار.
1-طور نشوء وتكوّن وثقافة وتأليف قضاه في تونس مدته 24 سنة.
2-طور نضال اجتماعي وسياسي وتأليف تنقل فيه بين تونس والجزائر والمغرب الأقصى والأندلس مدته 26 سنة.
3-طور أخير أقام فيه بالقاهرة ولكنه زار الحجاز والشام مدته 24 سنة شغل فيه بالتدريس والقضاء وتنقيح كتابة العبر.
وجملة الأطوار الثلاثة أربعة وسبعون عاماً.
وقد مر على تأليفه لمقدمته الشهيرة نحو ستمائة وخمس عشرة سنة. وبهذه المناسبة يجدر بي أن أبيِّن أن اللغة العربية ببيانها العلمي والأدبي قد تطورت تطوراً كبيراً على خلاف المظنون مع محافظتها على هويتها وأصالتها. بيد أن ألفاظاً كثيرة فقدت جملة من مواكب إيحاءاتها، فليست تقع في الذهن ولا في القلب مواقعها إذ ذاك في التأثير والإفادة في ميدان المعرفة. ولهذا ربما تفيد قراءة المقدمة أحياناً في ترجماتها الأجنبية للشعور بجدة التعابير التي اشتملت عليها زيادة على ضرورة قراءتها بالعربية أصلاً. نجد في المقدمة مثلاً لفظي التأنس والتوحش ونحن نقول اليوم بالتقريب التقدم والتأخر. كذلك ما يلحق بالمجتمع الإنساني من الأحوال والعوارض الذاتية واحدة بعد أخرى يريد المؤلف به شؤون التطور الذاتي وقوانينه وعلاقاته الذاتية. ثم اختلاف أحوالهم حسب حرفهم ومستويات معيشتهم. ولفظ التغلبات يريد به الحروب ونتائجها أحياناً وهكذا... ولهذا نرى إنعام النظر في نصوص مقدمته لدى قراءتها وتأملها على ضوء التعابير الحديثة دون تبرم بجفاف التعبير العلمي الواضح المبين الذي يلتزمه المؤلف في زمنه.
جرى العلماء العرب على غرار أرسطو فقرروا أن العلم ناشئ عن العجب وأن العجب يدعو إلى بيان السبب. ومن المعروف أن الفلاسفة وعلى رأسهم أرسطو تناولوا منذ القديم فكرة السبب وحاولوا إيضاحها. وقد صنف أرسطو الأسباب في أربعة أصناف. ولا بأس أن نذكر بهذه الأصناف.
1-سبب مادي وهو المادة المصنوع منها الشيء.
2-سبب شكلي أو صوري وهو الشكل الذي للشيء.
3-سبب فاعل وهو أصل الحركة والسكون الذي يهب للشيء شكله أو صورته.
4-سبب غائي أو لمائي أي الغاية التي صنع لها الشيء أو الهدف من الشيء.
وتعاقب الفلاسفة في تأمل فكرة السبب وتعريفها. ومن أشهرهم في هذا الشأن ستوارت ميل الذي عرف السبب بأنه "المتقدم الدائم اللاشرطي".
ومعنى ذلك أن السبب هو المتقدم وأن السبب هو التالي المتأخر. فالسبب أو العلة متقدم بالزمان على المسبب أو المعلول. ثم إن المتقدم لا يكون سبباً أو علة إذا كان تقدمه دائماً. ثم لا يكفي أن يكون المتقدم دائم التقدم بل يجب أن يكون تقدمه غير تابع لشرط آخر. فتتابع الليل والنهار مثلاً تتابع دائم ناشئ عن سبب آخر وهو دوران الأرض. فالليل ليس سبب النهار ولا النهار سبب الليل.
إن العلماء والفلاسفة حين يصلون إلى تعريفٍ ما للسبب يجرون عليه. حتى إذا وجدوا ظاهرة يخرج حدوثها عن حدود هذا التعريف اضطروا إلى تعديله أو توسعته. فلقد كانوا يعوّلون منذ حين على تعريف ستوارت ميل السالف.
ولكنهم عدلوه في العصر الحاضر واعتمدوا فكرة الاقتران أو التابع كما نقول في سورية أو الدالة كم يقال في مصر.
لنضرب مثلاً بسيطاً لبيان تصور الدالة أو التابع:
في هذه العلاقة س متغير مستقل وع متغير تابع. وللاختصار نسميه تابعاً كما نسميه دالة لأنه يدلنا على تغير س.
ولكن يمكن أن نكتب: س= قوس جيبها ع.
وهكذا ينعكس الأمر: ع هنا المتغير المستقل وس هي المتغير التابع.
هذا هو معنى التابع الرياضي أو الدالة الرياضية أو الاقتران الرياضي. مثل هذا الاقتران موجود في الطبيعة.
لنأخذ كتلة معينة من الغاز يعرف حجمها وضغطها في درجة حرارة ثابتة.
يعطينا قانون بويل ماريوت هذه العلاقة الاقترانية:
أي جداء حجم تلك الكتلة في ضغطها في درجة حرارة ثابتة ثابت.
نستطيع أن نكتب: ح= ثا/ ض
أي أن الضغط متغير مستقل والحجم متغير تابع. وبعبارة أخرى كل تغير في ضغط هذه الكتلة الغازية يستدعي تغيراً في حجمها، أي أن تغير الضغط سبب تغير الحجم.
ويمكن أيضاً أن نكتب: ض= ثا/ ح
ويكون هنا الضغط تابعاً للحجم أي أن تغير الحجم هو سبب تغير الضغط.
فالسبب انقلب مسبباً أو نتيجة والعلة معلولاً على خلاف ما قرره ستوارت ميل. وهكذا نفهم السببية على أنها تابعية أو داليّة أو اقتران. وما أحكم اللغة العربية حين جعلت من معاني السبب الحبل الذي قد يربط بين شيئين وجعلت منها الصلة والذريعة أي ما يتوصل به إلى غيره!.
فالظاهرة قد تسبق فتكون علة أو سبباً يترتب عليها نشوء ظاهرة أخرى هي المعلول أو النتيجة. وقد يتأخر السبب أو العلة فيصبح نتيجة ومسبباً وتصبح العلة معلولاً كما ظهر في كتابتنا علاقة بويل ماريوت على شكلين مختلفين. هذا إذا جرى تفاوت الحجم والضغط في درجة حرارة ثابتة. أما إذا تغيرت درجة الحرارة فثمة علاقة أخرى بسيطة تجمع المتغيرات الثلاثة وهي الحجم والضغط والحرارة. ولا حاجة للإفاضة في هذا الشأن لأن المراد هنا مجرد إيضاح فكرة السببية في فلسفة العلوم الحديثة أو الابستمولوجية وهي الاقتران والتأثير المتبادل.
إن ابن خلدون قد أدرك هذا الاقتران أو التفاعل بين الظواهر على شكل تابعية أو داليّة. فقد حلل المجتمع إلى متغيرات متعددة وبين تأثير بعضها على بعض ومدى هذا التأثير وعواقبه. وعرض ذلك كله في مقدمته المشهورة و هكذا نجد تلك المتغيرات في كتابه اللامع المبتكر تموج وتتفاعل تفاعلاً في الحوادث والأحوال التاريخية التي وعاها المؤلف في سياق التاريخ وفي الظواهر الاجتماعية التي شاهدها في عصره. فلقد بسط شؤون ذلك في المقدمة من متغير جغرافي ومتغير ديني ومتغير سياسي ومتغير اقتصادي ومتغير ديمغرافي ومتغير علمي ومتغير عملي أو صناعي وهلم جرا وتبيّن فعل كل متغير وأثره ونتائج هذا الأثر.
لنعرب عن ذلك الآن بتعبير رياضي فنقول:
أننا نسمي تلك المتغيرات المتفاوتة بحروف كما في الجبر على هذا الشكل.
نأخذ المتغير ا فندرس تغيره تبعاً لبقية المتغيرات:
وهكذا
.../يتبـــــــــع