هته أول محاولة لي في كتابة قصة
صاحبة المنديل الزهري
_جو هته السنة شديد البرودة،والشمس فيها قليلة السخونة،أو بالأحرى قليلة الظهور خلف الكتل المكدسة،أشجارها مرسومة الهيكل بلون العنوسة،
وأرضها تكسوها حمرة الطين وتربة،والخلق لعبة تمشي في جوها تسعى خلف الحاجة.
_وأنا جالس على مكتبي قرب النافذة،أرقب المار والقادمة بلا ملل،وفنجان قهوتي يصارع للهرب من بين يدي،فهو لا يزال معي منذ وضعته صاحبة الأيادي الحنونة مع أوائل النهار،وبعد لحظات سينطق صوتها الرقيق يدعوني للغداء،لا أبالي بمعاناته،أرشفه لمجرد أنها عادة رافقت كل صباحي.
_أشفقت هته المرة عليه،وتركته فوق المكتب متخيلا أنه يغني لفراقي،وودعت صاحبي العصفور بصفيري المعتاد،أرتدي معطفي وأنزل الدرج في قفزات،وقبلت يد الحنونة أعلمها عدم انتظاري،فأنا معزوم لدى الأصحاب.
_ ما إن خطوت أول خطوة للشارع،استقبلي ريح الشتاء القارس،بنفسه الخشن يتحدان للرجوع،فواصلت خروجي وكأني في مهمة سرية،لا تستدعي الاستعجال،أمام تحدي الريح.
_أمشي في الرصيف كسلطان،يخط الخطوات على بساط أحمر،وحدي...لا تمر بقربي سوى سيارات، أو حافلات المدارس،ترافق وحدتي لحظات،وألبث أخط خطوة أخرى وحدي،خطوة...خطوة،قدماي تلعب بحجرة صغيرة،لا أدري متى رافقتهما،لكنها تبعدني عن عالم الجنون،الذي قارب أن يملك نفسي.
_في إحدى الرميات،انحرفت الحجرة عن الطريق،
فأقبلت أعيدها لمسارها في الرصيف معي،ومع انحناءتي لحملها،وضعت الريح منديلا زهريا مع بعض الأوراق الصفراء،مددت يدي أمسكها،منجذبا للونها الباهت،أكثر من انجذابي لوجودها في هذا الجو الشتوي،وبناظي بحثت عن بنت أو فتاة تراعي شيئا فقد منها،فاستحالة أن يكون المنديل ملك شاب.
_على بضع خطوات ينتهي لشارع،على اثنان آخران سكنيان،أتقدم وأخفي المنديل في سترتي،
وألتفت علي أجد من ظلت منديلها،فلمحت الناس متجمعة وسط مفترق الطرق،وعددها في ازدياد، هرولت نحوهم أشبع فضولي،فإذا بها بنت في الربيع من عمرها،تحتضنها صديقتها ودموعها تنهمر عليها،خرقت الجمع أدنو من البنت الباكية،فتلك الفتاة بنت جيراننا،حياة،وأختي من الرضاعة،رفعت رأسها إلي قائلة:"فاطمة.......إنها فاطمة يا عبد الرحيم".
_على ذكر اسم فاطمة،دق جرس في ذاكرتي
بحنين،يذكرني....فاطمة ابنة حينا التي رحلت منذ إحدى عشر عاما،كل هته السنين زادتك جمالا يا فاطمة....،صرخ الضمير بداخلي"أهذا وقت الهوى
أين فطنتك يا فتى"، فاندفعت إلى الطريق أعترض أول سيارة مارة، وبدون إذن فتحت بابها الخلفي،و أدخلت الفتاتين وأنا أغطي فاطمة بمعطفي،وقرب السائق جلست قائلا"على لمح البرق إلى المستشفى".
_قبل إيقاف السيارة في مكانها،قفزت من السيارة أسبق الوقت لأحملها،واندفعت للداخل أبحث عن طبيب،وتركت حياة خلفي بخطوات،تهتم بأمر الثرثرة التي مع أول الباب،دخلت أول غرفة ومن حسن حظها كان الطبيب بداخلها يهم بالرحيل،فعاد ليعاينها وأمر بخروجي في الحين.
يتبع
تتمة
_وقفت أستند على باب الغرفة أرتعش،ليس من البرد،فجبهتي كانت تتعرق،أسمع خطوات حياة تدنو مني وهي تكبت دموعها،وبين ناظري منظر فاطمة كيف كان،يغطي جل وجهها الدم،ويلطخ ملابسها،أحاول فهم ماحدث بيني وبين نفسي،ثم سمعت صوتها يخاطبني..."قررنا أن نعود مشيا إلى البيت،كما نعهد أن نفعل لو خرجنا في وقت مبكر،سرنا على طريقنا المألوفة،ثم ظهرت السيارة لا أدري من أين،رمتني محاولة إبعادي،فوقعت هي في أسرها،وسقطت على حافة صخرة كانت في الطريق......"وأنهتها ببكاء مخنوق،خجلة مني،لولهت استغربت كيف تكلمت معي وكأنها كانت تسمع نجواي بيني وبين نفسي،تقدمت إليها أهدئها، وأهدئ نفسي معها.
_بعد ثلاث ساعات مرت فيها ملائكة المشفى آلاف المرات تحمل قطنا وضمادات إلى الغرفة، وكلهن يدخلن ويخرن ولا يعرننا انتباه،وكأننا غير موجودان هناك،فنفذ صبري وفاض في كيلي، اقتحمت الغرفة مصدوما في الطبيب يعيدني إلى الخارج معه،وأنا أسرق بعيناي ما تسنى لي قبل الخروج، "ما بها....أهي بخير؟..أجرحها خطير، أستكون في أحسن حال......."،أتكلم معه ويداي توشكان على مصارعته،طبطب بيديه على ظهري يقول"جرحها برغم اتساعه ليس بخطير،إلا أنها فقدت الكثير من الدم،ولا بد من تعويض ذلك،... ستكون على ما يرام هون علك"،هدأت تلك الكلمات من رعشتي،وطمأنت حياة بها علها تمسح عيناها الحمراوتين،وطلبت منها المغادرة،سأبقى أنا معها،"لا....سأظل هنا"أفزعتني بقولها ذالك وهي تقف كالجدار الذي يصعب تدميره أمامي، لكني غلبتها بأني لا أعلم أين تقطن،ومن سيعلم أهلها.
_همت بالرحيل في خطوات ثقيلة،وسألت أول ممضرة مرت بعدها عن كيفية التبرع بالدم لها،فصيلة دمي "و إيجابي"،فطلبت مني مرافقتها.
_مرت حوالي ساعة ونصف،تبرعت فيها بالدم وعدت أنتظر خارج الغرفة مرور الطبيب أستأذنه بالدخول،أو قد تنادي هي فأهب إليها،فجأة ...سمعت خطوات سريعة يصحبها صراخ يقول"أين هي....أين؟"، كانت حياة قد عادت مع أخيها عامر،
وأدهم...أخو فاطمة الكبير،دخل مباشرة غرفتها، لكن الممرضة أخرجته بقوة،وأمرتنا بالهدوء وعدم الدخول دون إذن،فالمرضى بحاجة للراحة.
_وقع أدهم على الأرض مصدوما لرؤية أخته في تلك الحالة،تقدمت منه ببطء،والخوف يتملكني،
أطمئنه أنها ستكون بخير،رفع عيناه المغمورتان بالدمع ولا تذرفان،قائلا"ومن تكون؟...."،نطق عامر"هذا عبد الرحيم جارنا...."، ضمني بعدها بشدة، كدت أختنق فيها،وانهمر يبكي على كتفي.
_الساعة تشير إلى حوالي الثامنة ونصف،تلقت فيها فاطمة ما يلزم من الدم والدواء،و أدهم يفعل ما يراه مناسبا للاعتناء بأخته،وقفت قرب النافذة أتأمل خيوط الليل تنسدل في كل مكان،ثم سمعت صوت أمي يناديني،فأسرت إلى هاتف المشفى أدق للبيت،وكانت هي التي ردت على:
_"ألو.....أمي"
_"عبد الرحيم ...أأنت بخير،أين أنت؟"
_"أنا بخير....لا تقلقي علي حبيبتي،سأبيت هته الليلة خارجا،مع صديقي،أتحتاجينني أنا تحت أمرك"
_"اعتني بنفسك يا ولدي،لا أريد شيء"
_"سلمي على إخوتي ووالدي"
_"يبلغ،حفظك الله" طيييين(انقطع الإتصال)،سامحيني أمي،وبينما أنا أضع سماعة الهاتف،لمحت الطبيب الذي عاين فاطمة،أسرعت إليه أستفسر حالها، وأسأله إمكانية دخولي،قال وهو يضع يداه في جيب مئزره"هي الآن في حالة فقدان الوعي،فالدم الذي فقدته أثر على نشاط جسمها الطبيعي،دعها ترتاح حتى يعيد جسمها طبيعته".
_عدت أجر أقدامي إلى الغرفة،استقبلني أدهم بعيناه المحمرتان الأطراف،قائلا"لقد كبرت وصرت رجل،وغيرتك تلك اللحية التي تحد فكك فانسجام، ولم أعرفك...تعال(ويضمني بيد واحة) شكرا على ما فعلت و...."قاطعته أنه ذلك ما كان يجب فعله، وسألته أين عامر وحياة،قال"لقد أخذها للبيت،فتلك البنت جد عنيدة،يمكنك أنت أن تذهب وترتاح فأهلك قد يكونون قلقين عنك"
"اتصلت بهم قبل قليل،أعلمتهم أني سأبيت مع صديقي"،في حينها تقدمت ممرضة نحونا تحمل معطفي،تسأل لمن يكون،مددت يدي أمسكه وأشكرها،ولا إراديا أدخلت يدي في جيبي المعطف،يااااااه، أحسست بنعومة غير معهودة فيه، أخرجتها تحمل المنديل الزهري،سعدت لعدم ضياعه،وارتحت لذلك لا أدري لما.
_غفوت تلك الليلة على الكرسي برغم الضوضاء التي في رواق المشفى،فقت على رائحة القهوة الساخنة،علمت أن أدهم هو الذي تركها،ولم أجده بقربي،اندفعت مباشرة إلى الغرفة،فربما حدث شيئ وأنا نائم،فوجدته قربها يقبل يداها،فلم يطاوعه قلبه على عدم تفقدها مثلما قال لي،خرجت أغلق الباب بهدوء ،وعلى إثره ناداني صوت أمي "عبد الرحيم.."هي حقا أمي مع عامر وأخته،أسرعت إلى أحضانها أهدئها وأرتاح فيه،ونظرت إلى عامر "كيف علمت..."،قالت " محمد مر في الصباح يسأل عنك وعن مفاتيح المحل،فأخبرته أنك لم تبت هنا، وأقبلت إلى عامر أرى إن كنت عنده،فأنت لا تفضل غيرهما،حاول أن يخفي لولا قدوم حياة في الوقت المناسب، وأخبراني كل شيء.......أين هي الآن؟"،أدخلتها حياة الغرفة وأنا أنظر إليها بطرف عين،وجلسنا نحن الثلاثة نخفي أمر دخولهما.
_تقدمت إحدى الممرضات تبتسم بعيناها وشفتاها نحو ثلاثتنا وقالت:"كنتم خمسة عند الباب وأنتم الآن ثلاثة..."،نظر كل منا إلى الآخر مدعيا عدم الفهم،اتجهت إلى الغرفة وقلوبنا تخفق بشدة قائلة:"لا عليكم سأدعي عدم رؤية شيء"،وبعدها خرجت أمي وحياة،وناولتني أمي معطفا آخر، وأخذت ما كنت أرتديه،ونظراتي إلى حياة فهي لم تترك حتى أدق التفاصيل إلى وأخبرت أمي بها، تفقدت المنديل في غفلة الكل، وأعطيت أمي مفاتيح المحل لو عاد محمد يسأل عنها،"لقد أفاقت صاحبتكم"تنطها الممرضة وتفتح لنا الباب،اندفع جميعنا دفعة واحدة إلى الداخل،سمعتها تقول بصوة تعب: "لم تخبر أمي ياأدهم أليس كذلك".
وأخوها يجيب:"ارتاحي فلم أخبرها بشيء".
_انتهى ذلك اليوم وفاطمة في بيت أخيها، فأهلهما يبعدون مسافة عن المكان، أحسنت ضيافتنا زوجته،ودعتنا للعشاء،لم نشأ أن نثقل عليهما،فغادرنا نحمد الله على السلامة،وفي طريق العودة،سألت أمي كيف لم تطلب العودة من قبل،فأجابتني أن فلة لا تدرس اليوم وهي ستهتم بما يلزم.
انتهى الشتاء وقارب فصل الربيع على أيامه الأخيرة،توطدت علاقتنا بأدهم وأخته أكثر خلالها،منذ تلك الحادثة،فاطمة تقيم عند أخيها،أهلهما يقيمان على بعد مئتا وخمسون كيلومتر عن المكان،تدرس في الجامعة علوم الأدب مع حياة، صرت أزورهما كل ثلاث أسابيع،ثم اقتصرت المدة حتى صارت يوميا،في أيام العطل أزورهما في البيت،وقليل ما يأتون عندنا،صارت زياراتي كأولوية من أولوياتي،حتى جاء يوم سألني فيه شريكي محمد في المحل عن السبب،صمت لحظات ثم أجبته أنه حال الجيران،قال"ولما لم يكن في السنن التي مضت،ما معنى الآن"قوله لتلك الكلمات أدهشني،وأحسست بخوف من الإجابة،لولا دخول زبون المحل،لكنت تحت تحقيقات محمدية، فصدقوني لو بدأت،لا تنتهي أبدا.
يتبع