المبحث الثاني : أثر الفسـخ بالنسبـة للغيـر
رأينا أن أثر فسخ العقد بالنسبة للمتعاقدين هو إعادة الحال إلى ما كانت عليه قبل التعاقد، فماذا لو تعلق حق الغير بهذا العقد، فهل ينطبق عليه نفس الأثر الذي يطبق على المتعاقدين؟
وهل يختلف الأمر إذا كان من تعامل مع المتعاقد الذي فسخ العقد ضده حسن النية ولا يعلم ما يتهدد العقد؟ هذا ما سنحاول تبيانه في المطلبين الآتيين:
المطلـب الأول : زوال حقوق الغير
القاعدة العامة التي تقضي بها النظرية العامة للفسخ هي أن الأثر الرجعي الذي يرتبه فسخ العقد، لا يقتصر على زوال العقد، وما نشأ عنه من التزامات بالنسبة لإطرافه فحسب، بل يتعدى خطره إلى الكافة.
ويترتب على ذلك أن الغير الذي تلقى حقا من احد المتعاقدين، وكان هذا الحق متعلق بالشيء الذي كان محلا للعقد المفسوخ، يزول تبعا لزوال حقوق والتزامات المتعاقد الذي تعامل معه نتيجة فسخ العقد ويترتب على ذلك، أنه لا يجوز للغير أن يحتج على الدائن بما رتبه العقد من التزامات تعاقدية، من قبل فسخه، لأنه كما لا يجوز للغير وفقا للقواعد القانونية، إنكار ميلاد العقد لأول مرة، فإنه من جهة أخرى لا يجوز له إنكار انحلاله إذا ما تم وفقا لما يتطلبه القانون، بل يجب التسليم بهذا الانحلال وبالتالي يكون الفسخ حجة على الكافة.
وبناء على هذه القاعدة العامة التي يرتبها فسخ العقد، فإن الحقوق التي تكون على المبيع مثلا لصالح الغير سواء كانت حقوق ارتفاق، أو انتفاع، أو أي حق آخر تزول بعد فسخ العقد، بين المتعاقد الدائن والمدين، ومن ثم فإن العين المبيعة تعود خالية من كل الحقوق التي رتبها المدين عليها.
المطلـب الثانـي : استثناءات على زوال حقوق الغير
إذا كانت القاعدة العامة التي يرتبها فسخ العقد على النحو السابق هي زوال العقد بأثر رجعي، سواء في مواجهة المتعاقدين أو بالنسبة للغير، فإن لهذه القاعدة استثناءات، لأنه قد يكون من بين الغير من هو جدير بالحماية من أثر الفسخ، وخاصة عندما يكون من تعامل مع المتعاقد الذي فسخ العقد ضده حسن النية، ولا يعلم ما يتهدد العقد من أسباب الزوال، وبناء على ذلك فإن فسخ العقد بين المتعاقدين ليس دائما مؤثرا في حقوق الغير، بل هناك حالات لا يتأثر الغير فيها بالفسخ الذي يقع بين الدائن والمدين، ونذكر منها:
-الغير الذي يكسب حق عينيا على منقول بحسن نية : فالشخص الذي يتلقى من شخص آخر منقولا معينا بمقتضى عقد صحيح، يكون بمنأى عن أثر الفسخ الذي يقع بين من تلقى منه هذا الحق على المنقول والمتعاقد معه.
غير أنه حتى ينجو الغير من أثر الفسخ كاستثناء من الأصل العام، يجب أن يكون فعلا حسن النية، حتى يمكن تطبيق القاعدة القانونية التي تقضي بأن الحيازة في المنقول سند الملكية، فهي قاعدة أساسية في هذا المجال واجبة لحماية الغير، ونظمها القانون المدني الجزائري في المادة 835 التي تنص «من حاز بسند صحيح منقولا أو حقا عينيا على المنقول، أو سندا لحامله فإنه يصبح مالكا له إذا كان حسن النية وقت حيازته...».
لذلك فإن حسن النية بالنسبة للغير إلى جانب السند الصحيح كاف لحمايته من اثر الفسخ، بصرف النظر عن فسخ سند المتصرف، وحسن النية مفترض حتى يقوم الدليل العكسي، لأن الحيازة في حد ذاتها تعتبر قرينة على وجود السند الصحيح وتوافر حسن النية إلى أن يثبت العكس.
-الغير الذي تقرر له حق على عقار وشهره وفقا للقانون : قضت المادتان 15، 16 من قانون إعداد مسح الأراضي وتأسيس السجل العقاري بأن الشهر يعتبر وسيلة للاحتجاج بكل ما يتعلق بالحق العيني من إنشاء أو نقل، أو تعديل، أو انقضاء، فيما بين المتعاقدين وبالنسبة للغير، وبناء على ذلك فإن الغير الذي تقرر له حق عيني على عقار وبحسن نية، وشهر هذا الحق وفقا لقواعد الشهر، لا يؤثر فسخ عقد سلفه على حقوقه، لأن الغير في مثل هذه الحالة يعتبر حسن النية بمجرد قيامه بالشهر.
غير أن هذه القرينة المتمثلة في الشهر والتي بموجبها تجب حماية الغير من أثر الفسخ، هي قرينة قانونية بسيطة قابلة لإثبات العكس، ومن ثم يمكن إثبات سوء نية الغير الذي قام بشهر حقه.
وعليه فإن الغير الذي يقوم بشهر حقه وهو يعلم أن العقد يتهدده الفسخ، أو قام بالشهر بعد تسجيل دعوى الفسخ أو التأشير بها على هامش العقد، لا ينجو من أثر الفسخ، لأن حسن النية يكون قد انتفى في جانبه، وبالتالي تنتفي الحكمة من حمايته المقررة قانونا له.
-الغير الذي ترتب لصالحه رهن رسمي: يحدث في الحياة العملية أن يرتب المشتري على العقار الذي اشتراه رهنا تأمينيا، لدائن مرتهن حسن النية يعتقد أن الملكية خالصة للراهن وغير مهددة بالزوال، فإذا بالملكية تزول من سلفه، لأن العقد الذي يربط المتصرف بالبائع قد فسخ أو زال لأي سبب من أسباب الزوال
لذلك فقد جاء المشروع بحماية خاصة للدائن المرتهن حتى يكون بمأمن من أثر الفسخ الذي يحدث بين المتصرف والمتصرف إليه، وفي هذا الصدد، نصت المادة 885 من القانون المدني الجزائري على أنه «يبقى صحيحا لمصلحة الدائن المرتهن، الرهن الصادر من المالك الذي تقرر إبطال سند ملكيته، أو فسخه أو إلغاؤه، أو زواله، لأي سبب آخر، إذا ثبت أن الدائن كان حسن النية وقت إبرام العقد.»
وبناء على هذا النص، لا يكون لفسخ العقد أثر على الرهن الذي تقرر لصالح الغير، بل يبقى الرهن قائما ولو زال العقد بأي سبب من أسباب الزوال، ومنها الفسخ، ما دام الدائن المرتهن كان حسن النية وقت إبرام عقد الرهن، وقيده قبل رفع دعوى الفسخ
كانت هذه بعض الاستثناءات التي تبقى بعيدة عن الأثر الذي يرتبه الفسخ، والعلة فيها هي أن استقرار المعاملات ومبدأ حسن النية لهما أهمية كبرى لا يمكن التضحية بها في سبيل مصلحة الدائن الذي فسخ العقد لصالحه.
غير أن هذه الاستثناءات مهما تعددت وتنوعت فإنها لا تطغى على الأصل العام الذي وجدت من أجله نظرية فسخ العقد وهو زوال الحقوق والالتزامات التي نشأت عنه، سواء بالنسبة إلى المتعاقدين أو بالنسبة إلى الغير، وذلك حتى يبقى لهذه النظرية قوتها القانونية.
وهكذا نجد أن للفسخ أثرا رجعيا كقاعدة عامة يشمل المتعاقدين والغير، ولكن يستثنى من هذه القاعدة العامة بعض الحالات، تبقى فيها حقوق الغير قائمة رغم انحلال الرابطة التعاقدية بين المتعاقدين.
لقد حاولنا قدر الإمكان من خلال عملنا هذا تسليط الضوء، على النظام القانوني للفسخ وإعطاء المفاهيم التي تخصه، فعرفنا أن الفسخ هو جزاء يترتب على امتناع أحد المتعاقدين عن تنفيذ ما التزم به، وهو بهذا التعريف ليس حديثا وإنما هو ثمرة تطور طويل، إذ لم يكن نظاما مسلما به في القانون القديم، فكان العقد الملزم للجانبين ينشئ إلتزامات مستقلة بعضها عن بعض، لا تقابل بينها، فإذا لم يقم أحد المتعاقدين بتنفيذ التزامه، لم يبق أمام المتعاقد الآخر إلا أن يطالب بالتنفيذ، إلا أن الوضع تغير تدريجيا، فأدرجته أغلب الدول في تشريعها، فأصبح يجوز لأي طرف لم ينفذ عقده أن يطلب الفسخ.
كما عرفنا أن الأساس القانوني الذي يقوم عليه الفسخ محل خلاف فقهي، وانتهينا إلى اعتناق الفكرة التي تبني أساس الفسخ على فكرة ارتباط الالتزامات في العقود الملزمة للجانبين كونها أحسن فكرة تبرره.
وعرفنا أن الفسخ في القانون المدني الجزائري أنواع، فالقاعدة العامة أن يكون الفسخ قضائيا عندما يكون عدم التنفيذ راجعا إلى المتعاقد واستثناء يكون فسخا اتفاقيا، أما إذا كان عدم التنفيذ راجعا إلى السبب الأجنبي فيكون الفسخ بحكم القانون.
ومن خلال دراستنا لأنواع الفسخ وصلنا إلى أن سلطة القاضي التقديرية تتسع إلى أبعد الحدود في مجال الفسخ القضائي، وتضيق في مجال الفسخ الاتفاقي، وتكاد تنعدم في مجال الفسخ بحكم القانون.
واستعرضنا في الفصل الأخير آثار الفسخ المترتبة على حل الرابطة التعاقدية واتضح لنا أن فسخ العقد يعني زواله بأثر رجعي كقاعدة عامة وإعادة المتعاقدين إلى ما كانا عليه من قبل، غير أن قاعدة الأثر الرجعي قد تصطدم بعقبات تحول دون تطبيقها، مما يجوز معه الحكم بالتعويض لصالح المتعاقد الذي لم يستطع استرداد ما قدمه. كما أن عقد المدة رغم أنه يستعصي بطبيعته على أثر الفسخ، إلا أنه لا يمكننا إخراج هذه الفئة من مجال تطبيق نظرية الفسخ في جميع أسسها وقواعدها وما ترتبه من آثار، مادام النص الذي يحكم آثار الفسخ واحد.
ونشير في هذا الصدد إلى بعض الملاحظات التي سجلناها عند دراسة هذا الموضوع منها:
أن الترتيب المنطقي للأنظمة يقتضي أن يسبق الدفع بعدم التنفيذ الفسخ في النصوص القانونية، فعادة ما ينتقل المتعاقد من موقف سلبي وهو الدفع بعدم التنفيذ إلى موقف هجومي أي المطالبة بالفسخ، فكان أفضل لو سبقت المادة 123 المتعلقة بالدفع بعدم التنفيذ النصوص التي تنظم الفسخ. كما أن وضع الفسخ تحت عنوان انحلال العقد لا يتفق مع مفهوم الفسخ لأن هناك أنظمة أخرى تؤدي إلى انحلال العقد، فحبذا لو كان العنوان هو الفسخ بدلا من الانحلال.
وفي الأخير نختم عملنا هذا بقول عماد الدين الأصفهاني : « إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابا في يومه، إلا وقال في غده : لو غُيّر لكان أحسن ولو زيد لكان يستحسن ولو قُدّم لكان أفضل، ولو ترك لكان أجمل، وهذا أعظم العبر، وهو دليل على اسيلاء النقص على جملة البشر.».
أ- القوانين
- القانون المدني الجزائري الصادر بالأمر رقم 75/58 المؤرخ في : 26/09/1975.
- قانون إعداد مسح الأراضي العام وتأسيس السجل العقاري رقم : 75/74 المؤرخ في 12/11/1975.
ب-المؤلفات
- العربي بلحاج : النظرية العامة للالتزام في القانون الجزائري، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزء الأول، الطبعة الثالثة، الجزائر 2004.
- محمد حسين منصور : شرط الاحتفاظ بالملكية في بيع المنقول المادي، منشأة المعارف، الاسكندرية، دون تاريخ.
- محمد صبري السعدي : شرح القانون المدني الجزائري –النظرية العامة للالتزامات- العقد والإرادة المنفردة، دار الهدى، الجزء الأول، 2004.
- سليمان مرقس : أصول الالتزامات –مصادر الالتزام- الجزء الأول- القاهرة 1960.
- عبد الحميد الشواربي : فسخ العقد، منشأة المعارف، الاسكندرية، دون تاريخ.
- عبد الكريم بلعيور : نظرية فسخ العقد في القانون المدني الجزائري المقارن، المؤسسة الوطنية للكتاب، 1986.
- عبد الرزاق دربال : الوجيز في النظرية العامة للالتزام، دار الهدى، 2003.
- عبد الرزاق السنهوري : الوسيط في شرح القانون المدني الجديد، نظرية الالتزام، مصادر الالتزام، المجلد الأول، منشورات الحلبي الحقوقية، الطبعة الثالثة، بيروت، 2000.
- عبد الرزاق السنهوري : الوسيط في شرح القانون المدني الجديد، نظرية الالتزام، مصادر الالتزام، المجلد الثاني، منشورات الحلبي الحقوقية، الطبعة الثالثة، بيروت، 2000.
- علي فيلالي : الالتزامات –النظرية العامة للعقد- موفم للنشر، الجزائر، 2001.
- علي علي سليمان : النظرية العامة للالتزام، مصادر الالتزام في القانون المدني الجزائري، ديوان المطبوعات الجامعية، الطبعة السادسة، 2005.
------------------------
منقول للأمانة العلمية