المطلب الثالث
عقد البحث العلمي عقد عمل
مما لاشك فيه أن للاعمال الذهنية في المجتمع من أهمية، لايقل دورها أهمية عن دور الاعمال اليدوية بصورة عامة، تلك الاعمال التي يتعاقد الشخص فيها بنفس الطريقة التي يتعاقد بها الشخص الذي يقوم بعمل يدوي بالاستناد الى خبرته وتخصصه في عمله.
ولكن هل يدفعنا هذا القول الى تشبيه العقود الواردة على الاعمال الذهنية ومنها عقد البحث العلمي بعقد العمل ؟ وخضوع عقد البحث العلمي لعين الاحكام التي يخضع لها عقد العمل؟ وفي محاولة لمعرفة وجهة النظر هذه فإننا نقسم هذا المطلب على فرعين، الاول لعرض الفكرة والثاني لتقويمها. وذلك كالآتي:-
الفرع الأول
عرض فكرة عقد العمل
يعرف القانون المدني العراقي عقد العمل بانه: عقد يتعهد به احد طرفيه بأن يخصص عمله لخدمة الطرف الآخر ويكون في أدائه تحت توجيهه وإدارته مقابل أجر يتعهد به الطرف الآخر ويكون العامل أجيراً خاصاً(). بينما يعرفه قانون العمل العراقي بأنه: اتفاق بين العامل وصاحب العمل، يلتزم فيه العامل بأداء عمل معين لصاحب العمل تبعاً لتوجيهه وادارته ويلتزم فيه صاحب العمل بأداء الاجر المتفق عليه للعامل().
ومن هذا التعريف تتضح العناصر الاساسية المميزة لعقد العمل التي تتمثل في تنفيذ العمل المتفق عليه والاجرة التي يلزم بها رب العمل تجاه العامل وعلاقة التبعية التي تربط العامل تجاه رب العمل.
ونبادر الى القول ابتداءً الى أن تنفيذ العمل ينبغي إسقاطه من عناصر التمييز ذلك لأن تنفيذ العمل المتفق عليه من طبيعة القوة الملزمة للعقد إذ ينبغي ((تنفيذ العقد طبقاً لما اشتمل عليه وبطريقة تتفق مع مايوجبه حسن النية))().
ويتفق عقد البحث العلمي مع عقد العمل في انه عقد يقوم على الاعتبار الشخصي من جانب العامل، أي أن رب العمل يعتمد في الغالب على صفة العامل ومهارته في أداء العمل()، هذا من ناحية. ومن ناحية ثانية، فالعاقدان يتفقان في أن كلاً منهما يقوم على التنفيذ المتعاقب، إذ لاينفذ عقد العمل دفعة واحدة بل يمتد تنفيذه الى فترة زمنية قد تطول او قد تقصر(). والأمر ذاته قد يحصل في عقد البحث العلمي. ومن ناحية ثالثة، فإن محل عقد البحث العلمي المتمثل بالبحث العلمي يشترط فيه مايشترط في محل عقد العمل من وجوب كونه واضحاً وممكناً للاستفادة منه من جانب المستفيد "رب العمل" في ادارة عمله او دفعه للقيام بعمل او الامتناع عنه. ومن ناحية رابعة تؤكد، المادة (903) من القانون المدني العراقي، شمول اداء الخدمة بأحكام عقد العمل وإن البحث العلمي كعقد يبرم مع شخص متخصص في مهنته لأداء خدمة معينة، فهي من عمل داخل في مهنة من يؤديه. واخيراً، يترتب على العامل أن يحتفظ بأسرار رب العمل()، وهذا عينة التزام الباحث بالسرية في عقد البحث العلمي.
بيد أن مايثير الخلط بين العقدين هو عنصر التبعية. ففي عقد العمل يتمتع رب العمل بسلطة الرقابة والاشراف والتوجيه على العامل وينبغي على هذا الاخير أن لايحيد عن تعليمات رب العمل واوامره()، ويقترب مركز الباحث في مواجهة المستفيد من مركز العامل. إذ يخضع الباحث الى اشراف المستفيد وادارته، وهذا الخضوع أو التبعية لايقصد بها التبعية العلمية أو الفنية التي تخول المستفيد توجيه الباحث فيما يتعلق بالاصول العلمية او الفنية للعمل(). وانما يقصد بها تبعية تنظيمية أو ادارية يقتصر فيها اشراف المستفيد على تحديد الظروف الخارجية التي يتم فيها تنفيذ العمل. والتبعية التنظيمية لايشترط فيها أن يقوم المستفيد بالاشراف بصفة مباشرة ومستمرة على الباحث بل يكفي لثبوتها تحقق مكنة المستفيد في الرقابة والتوجيه وان لم يمارسها(). وهذه التبعية تختلف قوةً وضعفاً باختلاف كفاءة الباحث (العامل) ونوع العمل وحجم المشروع، وفي بعض الصور قد تخفف هذه التبعية حتى ليصعب القول بتوفرها، ويتم استخلاص هذه التبعية من خلال بعض القرائن: كطريقة تحديد الاجر وطبيعة الالتزامات المتقابلة وتبعية الباحث الاقتصادية للمستفيد().كما يعتمد الباحث على المستفيد في مواجهة المشاكل التي تعترض عمله فيبدو الباحث وكأنه في حالة تبعية للمستفيد. وهنا يقع الخلط بين عقد العمل وعقد البحث العلمي.
وعلى وفق ذلك فإن فوائد هذا التكييف لاتقتصر على المستفيد فحسب(). بل له فوائد عملية جمة لمصلحة الباحث، تتمثل بالآتي:-
1) اعتبار عقد البحث العلمي عقد عمل معناه أن الباحث سيستحق الاجرة إذا كان حاضراً ومستعداً للعمل في الوقت المعين().
2) إن المستفيد سيتحمل تبعة الاخطاء التي يمكن أن يرتكبها الباحث أثناء أدائه لعمله من حيث عدم تضمن البحث المقدم له حلولاً معقولة للغاية التي يبغيها المستفيد.
3) إن الباحث سوف لن يلزم إلاّ ببذل عناية وليس بتحقيق نتيجة وبالتالي فإنه سيستحق الاجرة بمجرد بذل العناية اللازمة من دون حاجة الى تحقق النتيجة المتوخاة من البحث العلمي().
4) إن الباحث سوف لن يكون مسؤولاً عن العيوب الخفية التي تكتنف البحث العلمي محل العقد().
5) واخيراً فان الباحث سيستفيد من الحماية القانونية التي اسبغها المشرع للعامل().
الفرع الثاني
تقويم فكرة عقد العمل
لاغرو أن تكييف عقد البحث العلمي بأنه عقد عمل يمثل ضمانات كافية للباحث، سواء بعدم تحمل الاخير تبعة اخطائه اثناء البحث العلمي أم بعدم مسؤوليته عن العيوب الخفية التي تكتنف البحث العلمي (محل العقد) أم بما يترتب على الباحث من التزام ببذل عناية، هذا بالاضافة الى استحقاقه الاجرة من دون تحقق النتيجة المتوخاة من البحث. بيد أن وضع هذا التكييف موضع التطبيق غير ممكن للأسباب الآتية:-
1) ان المشكلة الحقيقية تظهر في عنصر التبعية المميزة لعقد العمل والتي تخول رب العمل الرقابة والاشراف والتوجيه على العامل وعنصر الرقابة والاشراف في عقد البحث العلمي. وفي هذا الصدد يرتفع الخلط بين العقدين: فعنصر الرقابة والاشراف في عقد البحث العلمي يمثل تبعية اقتصادية لمعلومات الباحث(). إذ أن المستفيد يعتمد في عمله على المعرفة العلمية للباحث فضلاً عن خبرة الباحث ومكانته وكفاءته العلمية، كما انه يبقى محتفظاً باستقلاله القانوني عن المستفيد. اذ ان مركز الابحاث أو المؤسسة التي يتعاقد معها الباحث تدار بطريقة خاصة وفقاً للقانون أو النظام الداخلي لهذه المؤسسة(). في حين يخضع العامل لرقابة رب العمل واشرافه ولايتمتع باستقلال قانوني فهو يعمل لحساب رب العمل لا لحسابه هو.
2) ولاينفي هذا الفرق مسؤولية كل من المستفيد ورب العمل عن اخطاء الباحث او العامل ذلك أن اساس المسؤولية في كل منهما يختلف عن الآخر. فالمسؤولية في عقد العمل تقوم على اساس علاقة التابع بالمتبوع في حين نجد مسؤولية الباحث اساسها الاتفاق بين الباحث والمستفيد.
3) كما لايمكن الخلط بين العقدين بحسبان أن رب العمل ينفرد بالحقوق الناشئة عن براءة الاختراع والاكتشافات التي يقوم بها العامل اثناء العمل(). في حين لايلتزم الباحث بذلك، إذا ماانتج الباحث، واثناء خدمته في اعداد البحث العلمي المتفق عليه مع المستفيد، مصنفاً()، لم يتم التعاقد عليه بالذات مع المستفيد، فإن هذا النتاج لايدخل ضمن واجباته والتزاماته، ومن ثم تثبت للباحث صفة المؤلف وحقوق المؤلف الادبية والمالية على هذا المصنف().
4) ان تعاقد الباحث مع المستفيد يرد على الحقوق المالية للمؤلف في استغلال مصنفه. وهذا يعني انه لايجوز أن يتنازل الباحث في عقد العمل عن صفته كمؤلف الى رب العمل ولا أن يتنازل عن حقه الادبي على بحثه(). في حين ان نتاج العامل في عقد العمل يؤول بكامل حقوقه الى رب العمل.
5) ان العامل لايسأل الا عن بذل العناية في انجاز العمل الموكل اليه(). بينما يلتزم الباحث بتحقيق نتيجة تتمثل في انجاز البحث وتسليمه().
6) إن تطبيق احكام قانون العمل على اعمال الباحث بصورة عامة يؤدي الى نتائج لاتنسجم مع طبيعة عقد البحث العلمي الذي يعتمد اساساً على جهد الانسان الفكري وابداعه الذهني سواء من ناحية الحقوق التي يتمتع بها الباحث()، أو من ناحية انهاء العقد الذي يربطه بالمستفيد().
7) يعتبر الاجر عنصراً مهماً في عقد العمل وله نظام قانوني متميز روعي فيه مصلحة العامل()، لذا فإن عقد العمل هو عقد معاوضة(). أما عقد البحث العلمي فالاصل فيه أن يكون بمقابل، فهو اساساً من عقود المعاوضة مالم ينص صراحةً أو ضمناً على خلاف ذلك(). وفي حالة وجود الاجر فيه فإنه لاينطبق عليه النظام القانوني الخاص بالاجرة في عقد العمل().
8) ان فسخ عقد العمل يترتب عليه استحقاق العامل لجزء من الاجر يتناسب وماأداه من عمل في الوقت قبل تقرير فسخ العقد(). في حين أن الباحث لايستحق أجراً اذا لم ينجز ماتعهد به().
وهذا عينه مايفرض على المقاول بحسب الاصل- في عقد المقاولة، إذ لايستحق المقاول أجراً اذا لم ينجز ما تعهد به. فهل يمكن تكييف العلاقة بين الباحث والمستفيد في عقد البحث العلمي بأنها مقاولة ؟ هذا ماسوف نبحثه في المطلب القادم.
المطلب الرابع
عقد البحث العلمي عقد مقاولة
نرمي في هذا المطلب الاشارة الى المقصود بعقد المقاولة، والخصائص المميزة له، لعلنا نجد، في هذه النقاط، ضالتنا في تكييف عقد البحث العلمي، ومن ثم يمكن تقبل النتائج المترتبة على القول بأننا بصدد عقد مقاولة عند الحديث عن عقد البحث العلمي. ولهذا سنشير –وبإيجاز- الى الملامح الاساسية لعقد المقاولة بما يخدم غرضنا من البحث. وهذا يقتضي عرض هذه الفكرة ثم تقويمها وذلك كالآتي:
الفرع الأول
عرض فكرة عقد المقاولة
يعرف عقد المقاولة بأنه عقد يقصد به أن يقوم شخص بعمل معين لحساب شخص آخر في مقابل اجر من دون أن يخضع لاشرافه وادارته().
بيد أن التطورات الحاصلة في مفهوم الاداءات التي يقوم بها المقاول قد تعدت الاطار التقليدي له، باعتباره يقوم بأداءات مادية فقط، إذ إنه ليس ثمة مايمنع من أن المقاولات تعني ذلك النوع من الاداءات، وايضاً الاداءات ذات الطابع الذهني. فالمهن الحرة التي تندرج تحت مفهوم عقد المقاولة اصبحت –الآن- تتميز بوجود الاداءات الذهنية(). وعليه فيتسع هذا المفهوم لاستيعاب عقد البحث العلمي الذي نحن بصدده نظراً لاندماج هذه الاعمال الذهنية في موضوع البحث المنجز. هذا بالاضافة الى أن المميزات التي يتميز بها عقد المقاولة تنطبق على عقد البحث العلمي وتمثل دعائمه الاساسية، وأياً كان الامر فإن مما يدعم وجهة النظر السابقة الحجج الآتية:-
1) إن عقد البحث العلمي يرد، كعقد المقاولة، على الاعمال المادية(). فعمل الباحث ينسب اليه من حيث ادائه لأنه يقوم به باسمه الشخصي وإن كان لمصلحة المستفيد، وبالتالي لايكون عمله هذا تصرفاً قانونياً بل عملاً مادياً.
يضاف الى ذلك أن طبيعة عقد المقاولة –كما ذكرنا آنفاً- تسمح بتعدد الاداءات ذات الطابع الذهني وتنوعها بالاضافة الى الاداءات المادية التقليدية().
وخير دليل على ذلك هو أن أحكام عقد المقاولة الواردة في قانوننا المدني لم تحصر نطاق الاعمال التي تمثلها المقاولة وانما اكتفت بإيراد احكام لبعض صور المقاولة مما يسمح بالقول أن عقود المعلومات الواردة على الاعمال الذهنية لاتعدو إلاّ أن تكون إحدى صور عقد المقاولة().
ويرى الاستاذ السنهوري انه من الممكن تنوع الاعمال التي تكون محلاً للمقاولة بيد انه يفرق بين الاعمال المادية والاعمال العقلية، إذ إن لكل مصطلح منهما مدلوله الخاص عنده وإن كان كلاهما يصلحان لأن يكونا محلاً في عقد المقاولة().
2) الاستقلال التام للباحث في إعداد بحثه فهو يقوم بالعمل باسمه الخاص مستقلاً عن ادارة المستفيد واشرافه، ويختار الوسائل والطرق التي يراها مناسبة لإنجاز العمل الموكل اليه. ولايجوز للمستفيد أن يتدخل في طريقة تنفيذ الباحث لعمله مادام عمل الباحث مطابقاً لما هو متفق عليه في العقد ولما تفرضه عليه الاصول العلمية لكتابة واعداد البحث العلمي(). ويعد هذا الاستقلال من أهم مميزات عقد المقاولة بل انه يعد من أهم معايير تمييز هذا العقد عن بقية العقود الواردة على العمل().
3) ان عقد البحث العلمي عقد معاوضة، إذ يتقاضى الباحث اجراً مقابل اعداد البحث العلمي، ويلجأ المتعاقدان في تحديد هذا الاجر الى نفس الوسائل التي يلجأ اليها أطراف عقد المقاولة وخصوصاً عن طريق الاعتماد على طبيعة الالتزامات التي تنشأ على عاتق الطرفين وعلى مقدار الوقت الذي يستغرقه تنفيذ هذه الالتزامات(). وعند عدم اتفاق الطرفين على مقدار الاجر يقوم القاضي بتحديد الاجر وفقاً لما يقرره المشرع في النصوص الخاصة بعقد المقاولة().
4) يلزم الباحث بتسليم البحث العلمي وهو التزام بتحقيق نتيجة(). وهذا عينه التزام المقاول بتحقيق النتيجة التي يريدها رب العمل(). وهو مامستقر في عقد المقاولة لأن رب العمل يطلب عملاً يتحتم انجازه.
5) إن عقد البحث العلمي يقوم بالدرجة الاساس على الاعتبار الشخصي، إذ أن شخصية الباحث تكون محل اعتبار عند ابرام العقد(). كذلك الحال مع عقد المقاولة، إذ لايجوز للمقاول أن يوكل تنفيذ العمل في جملته أو في جزء منه الى مقاول آخر اذا كانت طبيعة العمل مما يفترض معه قصد الركون الى كفايته الشخصية أو وجود شرط يقضي بذلك(). والكفاية الشخصية للباحث تعتمد على الخبرة والتخصص والكفاءة العلمية والمهارة في الاعداد للبحث العلمي.
وكذلك مانصت عليه المادة (888/1) من القانون المدني العراقي، من أن تنتهي المقاولة بموت المقاول اذا كانت مؤهلاته الشخصية محل اعتبار في التعاقد. وهذا عينه مايترتب في عقد البحث العلمي إذ ينتهي بموت الباحث().
الفرع الثاني
تقويم فكرة عقد المقاولة
قد يبدو اسناد عقد البحث العلمي الى عقد المقاولة امراً مقبولاً، فالطبيب يستند في عمله الى المعلومات الفكرية كذلك المحامي فهو يمارس عمله بموجب معلومات قانونية ومع هذا الجانب الفكري ليس ثمة مايمنع من وصف عقديهما بانه مقاولة. مع ذلك فإنه ثمة مايحول من دون وصف عقد البحث العلمي أنه عقد مقاولة، ويرد ذلك الى الآتي:-
1) إن عقد المقاولة ينطوي على فكرة انجاز عمل، تستلزم أن يقوم المقاول بعمل مادي حتى وان كان العمل يرتكز على الاسلوب الفكري. أما عقد البحث العلمي فقائم على فكرة انتقال معلومات من شخص الى آخر، لاتستلزم جانباً مادياً وبذلك يختلف الانجاز عن الانتقال().
2) إن تشبيه العيوب الواردة في عقد البحث العلمي بالعيوب الواردة في البناء هو أمر مبالغ فيه. فالبناء عمل مادي يظهر العيب فيه ذاتياً، أما البحث العلمي فإن المعلومات التي يحتويها –محل العقد- فهي افكار قابلة للاتصال لايظهر العيب فيها ذاتياً لمجرد التداول وانما يظهر العيب بعد توظيف المعلومات مادياً.
3) إن وصف الاداءات التي يقوم بها الباحث بانها أعمال مادية أمر محل نظر إذ يتعذر من الناحية القانونية التقريب بين هذه الاداءات وطبيعة الاعمال المادية، تلك الطبيعة التي تتميز بمفهومها الخاص الذي ينصرف الى الاعمال ذات الطابع المادي الملموس والتي تنأى عن فكرة المعرفة العلمية التخصصية.
4) يستطيع كل طرف في عقد البحث العلمي أن ينهي العقد بإرادته المنفردة من دون أن يلزم بتعويض الطرف الآخر. أما عقد المقاولة فهو عقد ملزم لجانبين ولايستطيع أحد طرفيه انهاءه بإرادته المنفردة من دون التحمل بالتزام يتمثل غالباً بالتعويض().
5) إن المقاول يقوم بعمل تجاري، إذ يغلب على نشاطه الطابع التجاري، ومايترتب على ذلك من تطبيق احكام قانون التجارة(). بينما يعد عمل الباحث عملاً مدنياً ومن الاعمال الذهنية التي تعتبر اعمالاً مدنية ولو قام بها الشخص على وجه الاحتراف(). والصفة التجارية تتعارض مع طبيعة عمل الباحث الذي يتطلب فيمن يباشره مؤهلات خاصة ويعتمد على العقل والفكر. وان العلاقة بين الباحث والمستفيد تقوم على اساس الثقة ولايكون تحقيق الربح الغاية الاولى فيها().
من خلال ما تقدم يتضح لنا إن عقد البحث العلمي لايخرج عن كونه، في واقع الحال، الا عقد مقاولة بالمفهوم المتداول المعروف به.
- فعلى الرغم من عدم التسليم بالتطابق التام بين عقد البحث العلمي وعقد المقاولة، الا ان مايؤكد تكييف العلاقة بين الباحث والمستفيد على انها مقاولة هو وجود عناصر محددة وثابتة في عقد البحث العلمي، هي بعينها تعبر عن الدعائم الاساسية التي لاتوجد مجتمعة الا في عقد المقاولة.
- والحديث عن توافر جوهرية عقد المقاولة وخصائصه في عقد البحث العلمي يجد صداه في كل مراحله سواء في انعقاده او في تنفيذه، او في انهائه.
- كما إن الانتقادات التي أثرناها بصدد تقويم فكرة عقد المقاولة لاتستند الى حجج متينة كفيلة بزعزعة هذا التكييف. إذ أن عقد البحث العلمي ينطوي على فكرة انجاز عمل، تستلزم أن يقوم الباحث بتسليم البحث العلمي للمستفيد، على الرغم من أن عمل الباحث هذا ينطوي على فكرة انتقال المعلومات من شخص الى آخر، هذا من جانب. ومن جانب ثانٍ، يمكن للمستفيد في عقد البحث العلمي أن يستخدم الرخصة الممنوحة لرب العمل في انهاء عقد المقاولة(). ومن جانب ثالث، إن اطلاق صفة العمل التجاري على عمل المقاول ليس صفة دائمة، إذ يمكن أن يكون عمل المقاول عملاً مدنياً وبالذات عندما يتخلف شرط من شروط العمل التجاري().
- كما إن تعريف الاستاذ جوانا شمدت (Joanna Chimidt) للمقاولة()، بأنها ((عقد بموجبه يتعهد شخص بأن يجهز اداءً معيناً لمصلحة شخص آخر مقابل ثمن)). وصف يتطابق مع وصف تداول المعرفة العلمية في عقد البحث العلمي، إذ يلتزم شخص بموجب هذا العقد بأن يزود شخصاً آخر ببحث علمي مقابل ثمن مجزي، وهنا يوجد ايضاً أداء لمصلحة شخص مقابل ثمن().
- ويرى الاستاذ ماينان (Magnin)، إنه لابد من القول ان كل عقد فيه يلزم الشخص بأن ينفذ عملاً مادياً أو معنوياً في مواجهة شخص آخر هو عقد مقاولة مادام يتم تنفيذ العقد من دون أن يكون المدين تابعاً فيه للدائن().
وهذا مايتلاءم مع عقد البحث العلمي خاصة المعرفة العلمية إذ أن العقد الذي تم تداولها به يوصف بأنه مقاولة().
اذاً من ينقل المعلومات أو المعرفة العلمية لآخر يقوم بعمل فكري، وعلى وفق هذا التصور فإن العقد الذي يبرم لهذا الغرض هو عقد مقاولة.
المبحث الثاني
الحقوق المقررة للباحث على البحث العلمي
تمهيد:
تبقى الحماية العقدية قاصرة ولاتوفر حماية كافية للبحث العلمي –محل العقد-، بالنظر لأنها تقتصر على اطراف العقد ولايمكن بموجبها أن يفرض التزام على الغير بعدم إفشاء اسرار البحث العلمي إذ يحول دون ذلك مبدأ نسبية أثر العقد. فضلاً عن إن معلومات البحث العلمي قد تتسرب بطرق مختلفة وحينئذ يصعب إثبات اخلال المتعاقد بالتزامه في عدم إفشاء الاسرار. ولذلك تقل أهمية هذه الحماية عملياً مادام أثرها يقتصر على المتعاقدين، إذ لايوفر هذا الاطار الا حماية محددة، ومن ثم فأي شخص ليس طرفاً في العقد يعد أجنبياً عنه.
وبالتالي فإنه من الانسب اللجوء الى حماية البحث العلمي بموجب قانون حماية حق المؤلف عندما يتوفر في البحث العلمي مايؤهله لاستحقاق الحماية المقررة في هذا القانون باعتباره مصنفاً مبتكراً(). وعليه فإن الباحث سيتمتع بحقوق استئثارية بمواجهة الكافة على هذا البحث، والتي من الممكن بيانها من خلال احكام قانون حماية حق المؤلف، والذي أقر بوجود نوعين من الحقوق للباحث على مصنفه (بحثه): حقوق أدبية لصيقة بشخص الباحث، غير قابلة للتصرف فيها (أي لاتدخل في نطاق التعامل). وحقوق مالية قابلة للتصرف.
وسنتناول كلاً من الحقوق الادبية و المالية المقررة للباحث، باعتبار ان عقد البحث العلمي انما ينصب على بضع أو جميع الحقوق المالية، في حين يبقى الباحث يتمتع بالحقوق الادبية، والتي ترتبط بشكل أو بآخر بالحقوق المالية، مما قد يؤثر على أحكام عقد البحث العلمي. لذا سنتعرض للحق الادبي ومن ثم بيان الحق المالي، وذلك بمطلبين وعلى النحو الآتي:
المطلب الأول
الحق الادبي
يرتكز تمتع المؤلف (الباحث) بالحق الادبي على مصنفه (البحث العلمي) على اساس احترام شخصية الباحث والتي تتجلى بنتاجه الذهني المبتكر، باعتباره مبدعاً. ولما لذلك النتاج من قيمة ثقافية تنعكس على المجتمع بأسره(). ومن هنا اعتبره بعض الكتاب(): بمثابة الدرع الواقي الذي بمساعدته يثبت المؤلف شخصيته في مواجهة معاصريه وفي مواجهة الاجيال الماضية والمستقبلية، وهو حق المؤلف في أن يحترم فكره الذي عبر عنه في مصنفه. وسنبين الحق الادبي من خلال استعراض خصائص ومضمون هذا الحق، وذلك في فرعين على النحو الآتي:-
الفرع الأول
خصائص الحق الأدبي
تتسم الحقوق الأدبية المقررة على المصنفات المبتكرة بجملة من الخصائص، والتي تتجلى بأنها حقوق لصيقة بشخص المؤلف وحقوق مطلقة وعدم قابليتها للتصرف فيها او الحجز عليها او التقادم او الانتقال الى الورثة. وهو ماسنعرض له تباعاً:-
اولاً- الحق الادبي، حق لصيق بشخص المؤلف:-
في الوقت الذي تتكفل احكام قانون العقوبات()، والقانون المدني()، حماية كيان الانسان (المادي والادبي). فإن القوانين المتعلقة بالملكية الفكرية مثل قانون حماية حق المؤلف وقانون براءة الاختراع؛ تختص بحماية كيان الانسان الفكري والذي يندرج الحق الادبي للمؤلف ضمنه().
وبعيداً عن الاتجاه الذي حاول تحديد طبيعة واحدة لحق المؤلف بجانبيه الادبي والمالي(). فإن مااستقر عليه الرأي(): هو اعتبار الحق الادبي للمؤلف من ضمن الحقوق اللصيقة بالشخصية يختص به المؤلف على وجه الانفراد، باعتبار أن الابتكار والابداع الفكري يعد جزءاً من شخصية مبتكره أو مبدعة لكونه نابعاً عنه، وهو بحكم هذه الطبيعة غير قابل للانفصال عنه او التصرف به او سقوطه بالتقادم، ولايجوز للغير أن يستعمله سواء أكانت بموافقة المؤلف أم بدونها، أثناء حياته أو بعد وفاته، فالمؤلف يتمتع بحصانة يستطيع بمقتضاها أن يدفع أي اعتداء يقع على حقه في حياته ويتحمل الورثة التزاماً بمنع أي اعتداء على حقوق مورثهم الادبية، كما ان حقوق المؤلف الأدبية لاتجوز ممارستها نيابة عنه.
ثانياً- الحق الأدبي، حق مطلق:-
يترتب على اعتبار الحق الادبي من الحقوق اللصيقة بالشخصية، عدم تقييد حرية المؤلف في مباشرة المكنات التي يوفرها هذا الحق، وبذلك يوصف بأنه حق مطلق: إذ يستقل المؤلف وحده في تقرير نشر بحثه، أو بالافصاح عن اسمه الحقيقي، من غير أن يخضع في ذلك لنظرية التعسف في استعمال الحق أو لرقابة القضاء(). ومع ذلك فإن أثر الاطلاق ينبغي أن يضيق لضرورات الحياة العلمية والادبية والفنية، وطبيعة المصنف (البحث)، ويظهر أثر الاطلاق في علاقة الباحث بالغير وكذلك في علاقته بالمساهمين معه في البحث، فمن حق الباحث أن يقرر أن بحثه انتهى أم لا، وله ايضاً الحق في اجراء التعديلات عليه().
ثالثاً- الحق الادبي غير قابل للتصرف أو الحجز:-
لما كان الحق الادبي من قبيل الحقوق المتصلة بشخصية المؤلف،فإن من غير الجائز قانوناً التصرف فيه. إذ لايقوم الحق الادبي بالمال ولايقاس بالمعيار الذي تقاس به الاموال وهو النقود، وبذلك لايدخل ضمن عناصر الذمة المالية للشخص، وليس معنى ذلك ان الاعتداء على الحق الادبي لايستوجب أو يقبل التعويض النقدي، ولكن ينظر الى هذا التعويض باعتباره من قبيل التخفيف من الاذى الذي لحق بالمتضرر، وليس بديلاً عنه كما هو الحال في الاعتداء على الاموال().
وبذلك يخرج الحق الادبي من دائرة التعامل لكونه من الحقوق غير المالية اللصيقة بالشخصية، وبالتالي فان من غير الجائز قانوناً أن يكون الحق الادبي للمؤلف أو احدى المكنات التي يوفرها، محلاً لتصرف قانوني. وهذا مايفهم من نصوص التشريعات العربية المتعلقة بحماية حق المؤلف أن تصرف المؤلف ينصب على الحقوق المالية دون الحقوق الادبية()، وإن الاتفاقية العربية لحماية حقوق المؤلف صريحة في منع التصرف في الحقوق الادبية()، كما يفهم من تعديل المادة السادسة من اتفاقية (برن) إن الاتفاقية اعترفت ضمناً بأن الحق الادبي للمؤلف لايقبل التصرف فيه وذلك على عكس الحق المالي للمؤلف الذي يستطيع المؤلف التصرف فيه().
ومن جانب آخر، فإن من غير الجائز قانوناً الحجز على الحق الادبي، وذلك لأنه يشترط لايقاع الحجز أن يكون المال مما يجوز التنفيذ عليه وبيعه()، وهو مالا يتوفر في الحق الادبي، وتأكيداً على ذلك تنص المادة (11) من قانون حماية حق المؤلف العراقي على انه: ((لايجوز الحجز على حق المؤلف، ويجوز حجز نسخ المصنف الذي تم نشره ولايجوز الحجز على المصنفات التي يموت صاحبها قبل نشرها مالم يثبت بصفة قاطعة انه استهدف نشرها قبل وفاته)). وتجدر الاشارة الى انه بموجب هذه المادة يجوز الحجز على نسخ البحث المنشور أو التي قرر الباحث نشرها قبل وفاته، وذلك باعتبارها من قبيل الاشياء المالية القابلة لإيقاع الحجز والتنفيذ عليها وبيعها في المزاد العلني، والتي تستقل عن الحق الادبي.
رابعاً- الحق الأدبي، حق دائم لايتقادم:-
يمتاز الحق الادبي المقرر للمؤلف بالديمومة والتأبيد، إذ لاينتهي هذا الحق بموت المؤلف ولايسقط بعدم الاستعمال. إذ لايرد عليه التقادم بنوعيه المسقط والمكسب، كما انه غير محدد بمدة معينة كما هو الحال بالنسبة للحق المالي()، وهذه الخاصية أو الميزة للحق الادبي للمؤلف ناجم عن طبيعته الخاصة().
وإذ كانت التشريعات العربية جاءت خالية من النص على عدم قابلية الحق الادبي للتقادم، إلا انه يمكن القول بأن الاحكام العامة لهذه التشريعات تأخذ بذلك، كما أن الاتفاقية العربية لحماية حقوق المؤلف نصت صراحة على أن الحقوق المعنوية لاتقبل التقادم (م6/د). وإن المادة (15) من القانون الفرنسي نصت على أن الحق الادبي حق أبدي لاينتهي().
وتتجلى الحكمة، مثلاً، من تقرير حق الباحث في نسبة بحثه اليه باعتبار ان هذا البحث (المصنف المبتكر) جزءاً من شخصية مؤلفه الابداعية وامتداداً لها، والتي تبقى تنسب اليه تقديراً لما قدمه من نتاج ذهني يستحق الاحترام. ومن غير المتصور ان تنتفي هذه الحكمة، وتزول بوفاة الباحث، كما ان مسألة صلاحية البحث للنشر او تقدير عدم نشره، مسألة يستقل بتقديرها الباحث ذاته، ولاتتأثر بمرور الزمان، وفي حالة وفاته ينبغي احترام ارادته اذا انصرفت الى عدم الرغبة في نشره.