وخلاصة القول: ان المعرفة العلمية، أياً كانت مكوناتها، هي من قبيل المعارف، أي المعلومات، فهي إذن من الاشياء غير المادية، وذلك اياً كان القالب او السند المالي لهذه المعارف، فلقد قلنا من قبل أن العلم باعتباره مجموعة من المعارف لابد له من قالب او سند مادي يتجسد فيه. ومن المهم جداً ألا نخلط مابين المعرفة العلمية وبين العناصر المادية التي تتجسد فيها، خاصة عندما نعرض لموضوع الحماية القانونية للمعرفة العلمية، والذي يتعلق بحماية المعرفة العلمية بغض النظر عن سندها المادي. فالمعرفة العلمية النظرية التي تشكل احد مكونات المعرفة العلمية تتجسد في وثائق متنوعة (بحوث، تصميمات، رسومات، كراسات، مخططات، ملفات، نماذج… الخ).
ولاشك ان هذه الوثائق- باعتبارها من الاشياء المادية- تتمتع بالحماية القانونية التي يكفلها حق الملكية، ومن ثم فحمايتها القانونية لاتثير أي اشكال معين. أما حماية المعارف التي تتجسد في هذه الوثائق فأمر مختلف تماماً، ويثير قضايا قانونية على درجة كبيرة من التعقيد. ولذلك قيل:- أن حماية القالب او السند المادي قد يؤدي بطريقة مباشرة الى حماية المعرفة المتضمنة فيه، ولكن هذا ينبغي الا يؤدي بنا بأي حال الى الخلط بين المعرفة وبين سندها المادي().
2- عدم قابلية المعرفة العلمية للنفاد:
المعرفة بوجه عام غير قابلة بطبيعتها للزوال. فمتى توصل الانسان الى المعرفة او اكتسبها التصقت به ولايمكن نزعها منه. ومهما استعمل الانسان هذه المعرفة وكانت محلاً لاستغلاله فإنها لاتنفد أبداً. ومايصدق على المعرفة بوجه عام يصدق على المعرفة العلمية على وجه الخصوص(). ويترتب على عدم قابلية المعرفة العلمية للنفاد انها لاتفقد كل قيمة لها عند ظهور معارف جديدة اكثر تطوراً.
كما ان الباحث الذي يتوصل الى المعرفة العلمية لاينعم وحده بعوائد استغلالها إلاّ اذا توافرت له دعائم الاستئثار بتلك المعرفة(). فالمعرفة العلمية شيء غير مادي غير قابل للاختصاص الفردي بحسب الاصل مالم يمنع مبتكرها كشف الغير لها ولم يتوصل غيره الى ابتكارها.
ومع ذلك يلاحظ انه متى تقرر لمبتكر المعرفة العلمية احتكار لها يمكنه الافادة بما تتميز به من عدم القابلية للاختصاص الفردي. فهو يستطيع استغلالها عن طريق تمكين اكثر من شخص من استعمالها في آن واحد من دون أي تعارض او تزاحم، كما انه يستطيع تمكين الغير من استعمال المعرفة العلمية من دون أن ينقطع استعماله هو لها في داخل مشروعه().
3- قابلية المعرفة العلمية للتداول:
يمكن القول انه بتوافر خصائص عدم القابلية للنفاد وعدم القابلية للاختصاص الفردي في المعرفة العلمية قد توافرت فيها عناصر قابليتها للتداول. فعدم القابلية للنفاد يطلق تداول المعرفة العلمية من حيث الزمان، أما عدم القابلية للاختصاص الفردي فيطلق تداولها من حيث الاشخاص. وحال المعرفة العلمية في ذلك حال المعرفة بوجه عام والتي لاتقدر قيمتها وأهميتها الا بقدر انتشارها ومساهمتها في تحقيق غاية او منفعة للبشرية عموماً. فالفكر بوجه عام حياته في انتشاره، لا في الاستئثار به().
وفيما يتعلق بالمعرفة العلمية يلاحظ انه من العسير أن يتوصل انسان الى معلومات مثلاً ويبقى في نفسه الفكرة التي على اساسها بنى نتاجه العلمي ويمتنع عن استغلاله بأي صورة من صور الاستغلال. فلكي يكون للمعلومات ثمة فائدة لايمكن إبقائها حبيسة فكر الباحث. ومن هنا تكتسب المعرفة العلمية قابليتها للتداول والانتشار().
خلاصة القول: إنه على الرغم من قابلية المعرفة العلمية للتداول فهي محل لكل محاولات الاستئثار بها والاختصاص بها اختصاصاً فردياً من قبل مبتكرها نظراً لأهميتها الاقتصادية. إذ تتمتع المعلومات بقيمة اقتصادية جديرة بأن ترفعها الى مرتبة الاموال إذ يتحدد سعرها بوصفها سلعة وفقاً لسوق العرض والطلب متى ماكان من غير المحظور قانوناً التعامل فيها(). وذلك باعتبارها سلعة ذات طبيعة غير مادية تدفع المبالغ النقدية نظير الحصول عليها. ولكن الامر لايتعلق فقط بالقيمة المالية التي قد تمثلها المعلومات، وانما لابد من توافر صفة الاستئثار "اختصاص صاحب الحق بمحل هذا الحق". وينشأ هذا الاستئثار او الاختصاص- في اطار الاشياء غير المادية ومن ضمنها المعلومات- من خلال مايبذله الباحث من جهد ذهني بتجميع الافكار وصياغتها بصورة مبتكرة او اصيلة تؤدي نسبة هذا النتاج الذهني (المعلومات) اليه، وبالتالي تمتعه بالحماية المقررة بموجب قانون حماية حق المؤلف. وبذلك تنسب هذه المعلومات بما تحتويها من عناصر للشخص الذي قام باعدادها، بصورة تعطي لهذا الاخير ميزة التسلط وحرية التصرف بمواجهة الكافة، طالما ان قانوناً لايمنع هذا الاستئثار بشرط تمتع هذه المعلومات بالحماية القانونية().
وهذا يعني عدم قابلية المعرفة العلمية للتداول وذلك بتوافر عناصر خارجية عنها كشيء يستحق الاستئثار: وهذه العناصر الخارجية أما ان تتمثل في عناصر الاحتكار القانوني للمعرفة() وأما في عناصر احتكارها احتكاراً واقعياً، بواسطة السرية مثلاً().
بناءً على ما تقدم فإن الركيزة الاساسية لعقد البحث العلمي هي المعرفة العلمية التي تنتقل الى الطرف الاخر –المستفيد- في العقد سواء اكان هدفه من ذلك تملكها والاستئثار بها، او الاقتصار على استغلالها من دون ان يتطرق الامر الى معرفة اسرارها، ولاشك ان من شأن المعارف المتولدة عن البحث العلمي اثراء التراث العلمي في حالة تداولها، كما انه يتصور نقلها الى بحوث أخرى. وهذا مادعا الى القول بأن البحث العلمي اصبح احد المعايير الاساسية التي يقاس بها مدى تقدم المجتمعات في الوقت الحاضر().
المبحث الثالث
تمييز عقد البحث العلمي عما يشتبه به من اوضاع قانونية
بعد أن بينا تعريف عقد البحث العلمي وبحثنا عناصره، ولأستكمال مفهوم هذا العقد في ضوء سماته المحددة آنفاً. فلابد أن نعرض بعد ذلك للتمييز بينه وبين غيره من المراكز القانونية والتصرفات الواردة على المعلومات التي قد تشتبه بالعقد المذكور. ومن هذه الاوضاع القانونية: عقود نقل التكنولوجيا وعقد المشورة وهذا ماسنبحثه في مطلبين وعلى النحو الآتي:
المطلب الأول
تمييز عقد البحث العلمي عن عقود نقل التكنولوجيا
تعرف التكنولوجيا ((La Technologie)) ، بأنها مجموعة المعارف المستخدمة في انتاج السلع والخدمات(). وفي مفهوم آخر تعرف على انها المنهج العلمي الذي يُستخدم لنقل المعرفة المجردة الى واقع التطبيق من خلال استخدام التقنيات المتاحة(). بينما يذهب البعض الى تعريفها بأنها: الجهد المنظم الرامي لاستخدام نتائج البحث العلمي في تطوير أساليب أداء العمليات الانتاجية …. وذلك بهدف التوصل الى اساليب جديدة يفترض فيها أنها أجدى للمجتمع(). في حين عرفها المشروع المصري لنقل التكنولوجيا بأنها، نقل المعرفة المنهجية اللازمة لتصنيع او تطوير منتج ما أو لتطبيق وسيلة أو طريقة او لتقديم خدمة ما().
ويفهم من ذلك انه اذا كانت التقنية في حقيقتها تعني مجموعة من العمليات المستخدمة مثلاً في انتاج سلعة معينة فإن التكنولوجيا هي القدرة على خلق التقنيات المختلفة من ناحية، وعلى اعدادها واستعمالها من ناحية أخرى().
والتكنولوجيا من جانب آخر تعتبر مالاً ذا طبيعة خاصة لأنها مجموعة المعلومات المعده. واهم مايميز ذلك المال انه غير قابل للنفاد، كما انه مال يمكن استعماله بواسطة أطراف عديدة في نفس الوقت، وهذا مايجعلها حقاً استئثارياً يرتب لمالكها احتكار استعمالها واستخدامها().
هذه هي العناصر الجوهرية لمصطلح التكنولوجيا، بيد أن وسائل نقلها من المالك الى المستفيد يختلف بحسب طبيعة تلك الوسائل، ولعل من أبرز هذه الوسائل مايطلق عليه بعقد نقل التكنولوجيا، ومايوصف بعقد نقل التكنولوجيا ماهو في الواقع الا مجموعة من عقود متباينة لكل منها طبيعته القانونية الخاصة به ونظامه القانوني المميز له(). ومع ذلك فإن مايجمع هذه العقود على الرغم من تنوعها وتباينها انها ترد على نقل المعارف التكنولوجية التي يحوزها احد طرفي العقد الى الطرف الآخر().
ويرى بعض الكتاب()، إن عقد البحث العلمي ماهو الا صيغة من صيغ عقود نقل التكنولوجيا. ويستند هذا التصور على الحجج الآتية:-
1.ان موضوع عقد نقل التكنولوجيا هو خلق التزام في ذمة احد المتعاقدين بنقل ما لديه من معرفة الى المتعاقد الآخر، نظير مقابل مادي()، وقد يكون هذا هو جوهر عقد البحث العلمي، إذ يقوم ذلك العقد على نقل المعلومات المتمثلة في البحث العلمي والتي يمتلكها الباحث الى المستفيد.
2. يعتبر الاجر عنصراً جوهرياً في عقد نقل التكنولوجيا(). وقد رأينا فيما سبق، ان عقد البحث العلمي لايتم الا بمقابل، سواء كان هذا المقابل مالياً أم عينياً.
3. يرتب عقد نقل التكنولوجيا على أطرافه التزاماً مهماً بسرية المعلومات. فحائز المعلومات يلتزم بسريتها وعدم افشائها الى الغير. وهذا الالتزام يبدأ لحظة إبرام العقد(). ولايخفى مافي عقد البحث العلمي من التزام بالسرية.
4.وأخيراً فإن بعض الفقه قال، بأن عقود نقل التكنولوجيا تعد صوراً لعقد المقاولة(). وبهذه الطبيعة القانونية يلتقي عقد البحث العلمي بعقود نقل التكنولوجيا().
ومن خلال ماتقدم، فإن هذه الحجج لاتحاول تقريب هذين العقدين فحسب، بل انها تقول انهما صورتان لوجه واحد ويمكن ايضاح تباين هذين العقدين من عدة وجوه، منها:
1) استقر الفقه القانوني على عد عقود نقل التكنولوجيا من العقود التجارية(). أما عقد البحث العلمي- وفقاً للرأي الراجح- عقد مدني يخضع في احكامه للقواعد العامة المنصوص عليها في القانون المدني().
2) يتضمن عقد نقل التكنولوجيا قيام (المجهز) بنقل اسرار تكنولوجية ذات ابعاد صناعية والتنازل عنها للطرف الآخر (المتلقي)(). كما في عقد الترخيص()، إذ يتفق المشروع المرخص له ((الطرف المتلقي للتكنولوجيا)) على عملية نقل واكتساب المعارف التكنولوجية من المشروع المرخص ((الشركة المصدرة للتكنولوجيا))، كالتنازل عن استغلال براءة اختراع معينة(). بينما يقتصر دور الباحث في عقد البحث العلمي على مجرد قيام الباحث باعداد البحث العلمي وتسليمه الى المستفيد وفق الاتفاق، ومع ذلك فإن هذا لايعني تنازل الباحث عن اسرار المعرفة العلمية او اسرارها كما في عقود نقل التكنولوجيا، وانما يمكن للباحث ان يستثمر ماتوصل اليه من نتائج او معلومات في مجال او بحث آخر، إلا إذا حظر عليه الاتفاق ذلك().
3) ويتضح من تعريف التكنولوجيا أنها تمثل مجموعة معارف غير مجردة، بمعنى انه يكون لها دائماً محتوى تطبيقي بالنظر الى استهداف مبتكرها استخدامها في مجال النشاط المادي لانتاج السلع والخدمات. وتستند هذه المعارف على الحقائق العلمية وتتميز عنها بمحتواها التطبيقي(). وفي ضوء ذلك عرف البعض التكنولوجيا بأنها التطبيق العملي لثمرات العلم وابتكار افضل الطرق لاستعمالها()، بينما يكون البحث العلمي مجرد من النشاط الانتاجي ويعتمد على المعرفة العلمية كنتاج له().
واخيراً فإن الحجج التي اوردها الفقه للتقريب بين العقدين تستند الى صورة عامة لاترقى الى المستوى الذي يجعلها تربك التمييز بين العقدين.
ولعل مادعا الى الخلط بين عقد البحث العلمي وعقد نقل التكنولوجيا هو الخلط بين مصطلح البحث العلمي ومصطلح البحث التكنولوجي. وهذا مادعانا الى بحث التمييز بين المصطلحين وذلك على النحو الآتي:-
إذ يتوسط البحث التكنولوجي – او مايعرف بأنشطة البحث والتطوير Recherche- Developpement- بين البحث العلمي المجرد من جهة وبين النشاط الصناعي من جهة أخرى(). فهو يتمثل في استخدام النظريات نتاج البحث العلمي في التوصل الى حلول لمشكلات النشاط المادي للإنتاج منتجاً بذلك الاختراعات(). ويقال في هذا الصدد أن التكنولوجيا هي الجانب التطبيقي للعلم، فالعلم يأتي بالافكار والقوانين ويحيل البحث التكنولوجي ذلك الى تطبيقات في كافة المجالات().
وعلى ضوء ذلك يمكن التمييز بين المعرفة التكنولوجية كنتاج للبحث التكنولوجي وبين المعرفة العلمية كنتاج البحث العلمي. فالأخير يعني في المقام الرئيسي بكشف القوانين الكونية أي القوانين المنظمة للظواهر الكونية المختلفة(). وتمثل الاكتشافات بالمفهوم المتقدم هدفاً للبحث العلمي. إلا أن الاكتشاف لايكون في ذاته خلاقاً لأنه لايعني بالتطبيق العملي للقوانين التي يتم الكشف عنها، ومع ذلك تمثل هذه القوانين عماد الاختراعات التي من شأنها وضع المعرفة العلمية موضع التطبيق، فهي اساس الاختراع واساس قدرة الانسان على الابتكار().
كما ان البحث العلمي كاد أن يصير خادماً لخلق المعرفة التكنولوجية في وقتنا الحاضر. فقد اصبح العلم بدوره صناعة كبيرة يعمل فيها اعداد كبيرة من المشتغلين بصناعة العلم في صورة مجموعات أبحاث تجمع مستويات مختلفة من المهارة والخبرة والتعليم(). ولم يعد البحث العلمي يعني كعهده السابق بالكشف عن القوانين الكونية بدافع مجرد هو تطوير المعرفة البشرية وإنما صار له هدف محدد على ضوء الاطار التنظيمي الذي يتحقق من خلاله هو خلق المعرفة التكنولوجية().
المطلب الثاني
التمييز بين عقد البحث العلمي وعقد المشورة
يعرف عقد المشورة بأنه (اتفاق بين شخصين، احدهما مهني- يقال له الاستشاري- متخصص في فرع من فروع المعرفة، يلتزم بمقتضاه في مواجهة الطرف الاخر- يقال له العميل- ومقابل أجر، أن يقدم على وجه الاستقلال، استشارة او دراسة، هي أداء من طبيعة ذهنية، من شأنها أن تؤثر بطريقة فعالة في توجيه قرارات العميل)(). ويعرفه آخرون بأنه: ذلك العقد الذي يعتمد على اداء معين للمستشار المتخصص الذي يضع المستفيد ثقته فيه بقصد الحصول على معلومات تعكس خبرة المستشار وتخصصه بما يكفل تحقيق نتائج تتفق والغاية التي يبحث عنها المستفيد من وراء ابرامه لهذا العقد(). ومن هذا المنطلق فإن عقد المشورة يؤدي الى (توجيه العميل في اتخاذ قراره النهائي بصدد المسألة موضوع الاستشارة)().
ويلتقي عقد البحث العلمي بعقد المشورة بجوانب عدة. فمن جانب اول يقوم عقد المشورة على ركيزة اساسية مفادها الاعتبار الشخصي في شخص المستشار، لأن المستفيد يبرم عقد المشورة استناداً الى توفر المعلومات الفنية لدى المستشار والتي لاتكون متاحة للجمهور(). ومن جانب ثانٍ فإن عقد المشورة من العقود بمقابل، إذ يهدف المستشار من وراء هذا العقد الى الحصول على مقابل نقدي().
وأخيراً فإن عقد المشورة يتضمن التزامات ذات طبيعة خاصة كالالتزام بالسرية، إذ يلتزم المستشار باحترام المعلومات التي تتصل بالمستفيد عن طريق منع افشائها للغير(). والالتزام بالتعاون، إذ يلتزم المستفيد بالتعاون مع المستشار لتحقيق اهداف ابرام عقد المشورة().
بيد أننا لانرى صعوبة في دحض هذا التمييز بين العقدين فمن ناحية اولى: نجد أن عقد المشورة لايتضمن نقلاً لملكية الحق في الاستشارة محل العقد. إذ لايمنع هذا العقد المستشار من ان يعطي نفس الاستشارة لآخر بعد انتهاء عقده مع المستفيد الاول. وهذا مالانجده في عقد البحث العلمي، إذ تنص الصيغ النموذجية لهذا العقد على تنازل الباحث عن حقه في نشر البحث او المؤلف لمدة محددة من الزمن()، بمعنى ان تؤول مكنة الحق في نشر البحث والاستغلال المالي الى المستفيد().
ومن ناحية ثانية: نجد أن عقد البحث العلمي يشترط أن تتوافر في محله (البحث) الاصالة والابداع ومطابقة علاقات السبب والاثر(). بيد ان المستشار بمقتضى عقد المشورة لايلتزم سوى ببذل عنايته وجهوده في سبيل توصل المستفيد الى الهدف الذي يرمي اليه من الاستشارة().
واخيراً، فإن الاوجه التي قيلت بتشابهها بين العقدين هي أوجه وجوانب عامة لاترقى الى المستوى الذي يجعلها تربك التمييز بين العقدين. فوصف العقد بأنه رضائي، قائم على الاعتبار الشخصي، وانه بمقابل تمثل أوصافاً عامة تلتقي فيها الكثير من العقود من دون أن تكون هذه الاوصاف مدعاة للتقريب بين هذه العقود لدرجة يتعذر معها التمييز فيما بينها. وهذا دعا البعض الى القول: بصدد تمييز عقد البحث العلمي عن عقد المشورة، في كون عقد البحث العلمي يستعمل معرفة موجودة من اجل الوصول الى نتائج او معرفة غير موجودة او مطلوب الكشف عنها. في حين ان عقد المشورة، يعني تقديم رأي من شانه أن يؤثر بطريقةٍ ما في توجيه قرارات العميل()، او تقديم دراسات ماقبل الاستثمار تمهيداً لاتخاذ قرارات بشأن المضي بمشاريع معينة، إذ يتطلب تحديد الوضع الاستثماري والقطاعي للمشروع والبدائل المقترحة وتحديد السمات الرئيسة لجدوى المشروع والخطوات الفعالة الواجبة الاتباع لتنفيذ وتشغيل المشروع().
الفصل الثاني
التنظيم القانوني لعقد البحث العلمي
من اجل الاحاطة بالتنظيم القانوني لعقد البحث العلمي، لابد من تحديد الطبيعة القانونية لعقد البحث العلمي من خلال محاولة ايجاد تكييف ملائم لهذا العقد في ضوء اختلاف احكام العقود الواردة على الاشياء المادية عن تلك التي ترد على الاشياء غير المادية وخاصة ونحن نواجه عقداً يرد على المعلومات المتمثلة في البحث العلمي –موضوع العقد-، ومن ثم التعرف على الحقوق المقررة للباحث على البحث العلمي في ضوء استعراض احكام قانون حماية حق المؤلف. وهذا ماسنبينه في المبحثين الآتيين:-
المبحث الاول : التكييف القانوني لعقد البحث العلمي.
المبحث الثاني: الحقوق المقررة للباحث على البحث العلمي:
المبحث الأول
التكييف القانوني لعقد البحث العلمي
تمهيد:
مما لاشك فيه أن الجوانب الاقتصادية لهذا العقد()، والنتائج المنتظرة منه، وتنوع الالتزامات، لطرفيه، والتزامات هذا العقد، واعتماده على المعلومات. هذه الحقيقة، التي تختلط بعقود اخرى تساهم فيها المعرفة، مما يمكن القول معه اننا ازاء طائفة من العقود ((عقود المعرفة)) لها ذاتيتها التي تنعكس على مجموعة التزامات اطرافها. هذه العقود التي اعترف الفقه بشأنها بأنها من قبيل العقود ((المعقدة التركيب))، إلا ان ذلك لايحول دون الخوض فيها ومحاولة الوقوف على ماهيتها(). حتى ولو اقتضى الامر عدم الاقتصار بشأن ذلك على نسبة العقد الذي نحن بصدده الى احد العقود التقليدية المعروفة. على أن ذلك لايعني طرح كل صلة بين هذا العقد والعقود التقليدية، حيث انه على الرغم من اننا ازاء عقد حديث النشأة في شكله الخارجي والالتزامات ذات الطبيعة الخاصة المطلوب الوفاء بها()، الا انه يمكن تحقيق هذه الالتزامات ونسبتها الى تلك الالتزامات التي يتعهد بها اطراف تلك العقود التقليدية.
ولأجل الوقوف على طبيعة عقد البحث العلمي يلزم البحث عن مدى قدرة نسبة هذا العقد الى تلك العقود التي يمكن تسميتها، بالعقود التقليدية، وهي البيع والوكالة والعمل والمقاولة. متناولين الاشارة الى الدعائم الاساسية لكل عقد من هذه العقود ومدى تشابه عقد البحث العلمي وهذا العقد حتى يمكن القول بأنه يندرج تحت احكامه من عدمه.
وفي ضوء هذا التمهيد، يمكننا أن نحصر البحث بتكييف عقد البحث العلمي من خلال الابعاد الاقتصادية له، وطبيعة الالتزامات لطرفيه وتنوعها. وفي هذا الصدد يمكن القول إن تكييف عقد البحث العلمي يمكن أن يدور في فلك أحد العقود الآتية:- عقد البيع، عقد الوكالة، عقد العمل، عقد المقاولة.
وعليه سنبحث في تكييف عقد البحث العلمي من خلال تلك العقود التقليدية في محاولة لتلمس اوجه التطابق بين هذه العقود وبين عقد البحث العلمي ابتغاء تطبيق قواعد أي من هذه العقود عليه. ونبحث كل عقد من هذه العقود من خلال ماله، وما عليه، وذلك من خلال مطلبٍ مستقلٍ لكل عقد من هذه العقود.
ولابد من التنويه ابتداءً إننا لم نجد مصادر مباشرة تعالج هذا الموضوع وبصورة عامة، وذلك لجدته، وبذلك حاولنا ان نستفيد من الموضوعات التي تتداخل معه، كالقواعد العامة للعقود، وماكتب بصدد ملكية المعلومات وعقد المشورة وعقود نقل التكنولوجيا. وحاولنا الاستنتاج في ظل تصور مايحدث عملياً في بيان تكييف عقد البحث العلمي. وذلك على النحو الآتي:-
المطلب الأول
عقد البحث العلمي عقد بيع معلومات
يعد عقد البيع من العقود الناقلة للملكية()، ويثير جملة مشاكل بسبب اشتراك كثير من عناصره مع عقد البحث العلمي، فالصلة بين العقدين متصلة كثيراً بحسبان ان المعلومات تصلح لأن تكون محلاً لعقد البيع، الى جانب كونه عقداً من عقود المعاوضة ويرتب التزامات متقابلة تقع على عاتق طرفيه()، ومحل هذا العقد قد يكون شيئاً مادياً أو معنوياً او أي حق مالي آخر(). وللاجابة على ذلك نتناول طرح فكرة بيع المعلومات ثم تقويمها، وذلك على النحو الآتي:-
الفرع الأول
عرض فكرة بيع المعلومات
يذهب البعض الى أن المعلومات تصلح محلاً لعقد البيع: وذلك لأن المقصود بنقل المعلومات هو أن يتخلى البائع عنها بصورة نهائية أو أن تصبح ملك المشتري الذي تؤول اليه بما يخوله التصرف بها بجميع التصرفات(). كما ان مفهوم عقد البيع لم يعد ضيقاً بأن لايرد الا على الاشياء المادية وانما تصلح الاشياء غير المادية أن تكون محلاً له، ولذلك لايوجد مايمنع أن تكون المعلومات هذا المحل().
ويضيف الاستاذ سافاتيه (Savatier) الى ماتقدم، أن عقد بيع المعلومات يختلف عن عقود البيع التقليدية، إذ يتم فيه تبادل اشياء غير مادية، مقابل مبلغ من النقود().
ويؤكد رأي آخر، ان البيع هنا، لايعني نقل ملكية بالمعنى التقليدي لنقل ملكية الاشياء المادية، وانما هو بيع لمعلومات أي لأشياء معنوية().
وتجدر الاشارة الى انه، وعلى الرغم من ان محل العقد (معلومات)، وهي اموال معنوية تعد نتاجاً لمجهود مضن، الا انها قيمة تقوم بالمال، وهذا مايمكن تقبله بصدد البحث العلمي شأنه في ذلك شأن الاشياء المعنوية الاخرى، التي استقر الفقه بشأنها على انها من قبيل الاموال. يتضح من كل ماتقدم، إن مقايسة عقد البحث العلمي بعقد البيع تستند على مايلي:-
1) ان المعلومات (او المعرفة العلمية) التي يتوصل لها الباحث، لها قيمة اقتصادية قابلة للاستحواذ وهي تعد منتجاً من هذه الناحية، إذ هناك علاقة قانونية بينها وبين من توصل اليها، علاقة يمكن وصفها بعلاقة المالك بالشيء الذي يملكه، هذا ولما كانت الاموال المعنوية لها قيمة مالية، فإنها يمكن أن تصبح محلاً للحق، إذ لايمكن القول بوجود ملكية مالم تكن هناك قيمة للمال محل هذه الملكية، مما يترتب عليه جواز التنازل عن هذه القيمة مقابل ثمن ويعد عقد البيع اكثر انواع العقود ملائمة لهذا التنازل(). فالبيع هنا لايعني نقل الملكية بالمعنى التقليدي لنقل ملكية الاشياء المادية وانما نكون إزاء نقل ملكية معلومات، أي اشياء معنوية().
2) ان هذا التكييف يتفق وقصد المتعاقدين، طالما ان هذا العقد لايتضمن أية مخالفة لاحكام عقد البيع التقليدي، ذلك إن المراد ببيع المعرفة العلمية –مادامت هي احدى صور المعلومات- هو تنازل الباحث عنها بشكل نهائي لتصبح من حق المستفيد، أي المشتري الذي يجوز له التصرف بها بالتصرفات القانونية كافة، فله أن يستغلها او يستعملها أو يتصرف بها(). وله أن يحتج على الغير بملكيته لهذه المعلومات(). وهذا التنازل يكون بمقابل هو الثمن، فاستغلال النشاط الذهني للانسان بهدف الحصول على مقابل مالي اصبح الآن سمة من سمات العصر الحديث، لذا فإن عد عقد البحث العلمي عقد بيع تحصيل حاصل واقرب الى المنطق القانوني السليم().
3) ان حق الباحث على المعلومات هو حق المؤلف على مصنفه، إذ يعطيه صلاحية نقلها للغير، وبهذه الصورة فإن حق الباحث هو حق ملكية قابل للانتقال للغير.
الفرع الثاني
تقويم فكرة بيع المعلومات
في الواقع انه لايمكن تطبيق احكام عقد البيع على عقد البحث العلمي في ظل اختلاف البناء القانوني لكل عقد إذ يرتكز عقد البحث العلمي على عناصر لامثيل لها في عقد البيع. كما أن وضع هذا التكييف موضع التطبيق غير ممكن للاسباب الآتية:-
1) إن تصوير المعلومات على انها تصلح محلاً لعقد البيع يعني ان البائع مالك لشيء موجود قبل البيع، في حين إن القاعدة هي أن المعلومات ملك للجميع، أما إذا تم تخصيصها لتقتصر فائدتها على شخص معين فإن ذلك لايستلزم بالضرورة أن يكون لهذا الشخص حق ملكية، إذ أن هذا الحق يستلزم على الاقل ترخيصاً بموجب القانون كأن تكون له براءة اختراع().
2) لايمكن الربط بين القيمة الاقتصادية وفكرة الاموال، إذ ان الصلة لاتكون حتمية بينهما، فهناك من القيم الاقتصادية مالاتعتبر من الاموال(). وقد لاتعبر القيمة الاقتصادية تعبيراً حقيقياً عن محتوى الافكار المطروحة في البحث العلمي. ولايستلزم في البحث العلمي أن يكون ذا قيمة او بعد اقتصادي. فالصلة ليست حتمية، ولعل مايؤكد هذا أن البحث العلمي القانوني او السياسي مثلاً لايكون ذا بعد اقتصادي.
3) ان عقد البيع يفترض انتقال شيء من شخص لآخر، وهذا لايمكن تحققه بالنسبة للمعلومات. ذلك لانها تنطوي على افكار، فإذا انتقلت الفكرة من شخص لآخر صارت الفكرة لدى كليهما().
4) تترتب على عقد البحث العلمي التزامات تتعدى مرحلة تنفيذ العقد وتستمر الى مابعد انتهاء الرابطة القانونية بين الباحث والمستفيد، وخصوصاً فيما يتعلق بالالتزام بالسرية، وهذا الامر لايستقيم مع ماتقرره احكام القانون بخصوص عقد البيع().
5) لايستطيع المستفيد أن يلجأ الى قواعد التنفيذ الجبري عند امتناع الباحث عن اعداد البحث، وذلك للارتباط الوثيق بين البحث العلمي (كمحل للعقد) وبين الباحث صاحب المعرفة والتخصص، ويقتصر حق المستفيد في المطالبة بإنهاء الرابطة التعاقدية والتعويض ان كان له مقتضى(). وهذا الامر يختلف عن ماتقرره القواعد الخاصة بعقد البيع عند اخلال البائع بالتزاماته في عقد البيع().
6) لايمكن الركون الى نية الطرفين في تحديد الطبيعة القانونية لعقدهما وخصوصاً في عقد البحث العلمي الذي يتميز بأنه ينطوي على علاقة غير متوازنة بين طرفين احدهما قوي أو كفوء علمياً بما يملكه من تخصص وخبرة ومعرفة علمية وهو الباحث والاخر ضعيف لايملك التخصص والمعرفة العلمية في المجال الذي تعاقد فيه وهو المستفيد.
هذه الصعوبات في جملتها كانت وراء محاولة بحثنا عن فكرة أخرى، تحاول تكييف عقد البحث العلمي بين الباحث والمستفيد على انه عقد وكالة. وكما هو موضح في المطلب القادم.
المطلب الثاني
عقد البحث العلمي عقد وكالة
يعرف القانون المدني العراقي الوكالة بأنها: ((عقد يقيم به شخص غيره مقام نفسه في تصرف جائز معلوم))(). فالملتزم فيه وهو الوكيل ينوب عن الدائن وهو الموكل بالقيام بعمل قانوني باسمه ولحسابه(). والوكالة كما هو معروف من العقود الواردة على العمل().
بيد انه يتميز عن سائر العقود الواردة على عمل كعقد المقاولة وعقد العمل بسمتين أساسيتين لهما نتائجهما على عقد الوكالة في الاحتفاظ بذاتيته الخاصة به:-
1) الوكيل يمثل الموكل أمام الغير، إذ يقوم بإبرام التصرف باسمه ولحسابه.
2) محل عقد الوكالة هو القيام بتصرفات قانونية لحساب الموكل.
ولما كان بحثنا ينصرف الى التعرف على مضمون عقد البحث العلمي فإنه وفي ضوء تلك الخصائص المميزة لعقد الوكالة، هل يمكن القول أن عقد البحث العلمي هو أحد تطبيقات عقد الوكالة ؟ وللاجابة عن ذلك فإننا نقسم هذا المطلب على فرعين، الاول لعرض الفكرة والثاني لتقويمها، وذلك كالآتي:-
الفرع الأول
عرض فكرة عقد الوكالة
لما كان الباحث يقوم بإعداد البحث العلمي على النحو السابق ايضاحه، بالاضافة الى إنه في بعض الاحيان يقدم المساعدة الفنية اللازمة عند تنفيذ البحث العلمي. إلاّ إنه في هذه الاعمال لايقوم بعمل قانوني، حتى يمكن القول بأن محل عقده هو عين محل عقد الوكالة. ولايقدح في ذلك كونه يقوم بأداء هذا العمل لمصلحة رب العمل، حيث كما سبق الذكر، الوكالة تقتضي القيام بالتصرفات القانونية، بأسم ولحساب الموكل.
وعلى الرغم من هذه الحقيقة، إلا أن هناك بعض السمات التي تثير الشك في ان علاقة الباحث بالمستفيد هي علاقة وكيل بموكله، ومن ثم يمكن القول ان الرابطة القانونية بينهما ترتدي ثوب عقد الوكالة، ومايترتب على ذلك من نتائج، أسوة بما هو متبع بصدد بعض عقود المهن الحرة، كالعقد الطبي، وعقد المحامي مع عميله، وهذا هو ماكان معمولاً به أبان القانون الروماني في التمييز بين الاعمال المادية، والاعمال الذهنية، حيث كان يخضع هذه الاخيرة لاحكام عقد الوكالة().
ويمكن مما تقدم أن نستند الى الحجج الآتية في تكييف العلاقة بين الباحث والمستفيد انها عقد الوكالة:-
1) ان عمل الباحث تغلب عليه الصفة العقلية او الذهنية، فلايمكن ان يكون محلاً لعقد مربح، لذا فإنه يخضع لعقد الوكالة حتى لايوضع العمل العقلي في مستوى العمل اليدوي، ولاينحط العلم ليكون وسيلة للتجارة().
2) يعد الالتزام بالتبصير أو الاعلام من أهم الالتزامات الناشئة في عقد البحث العلمي()، وهو ذات الالتزام الذي يقع على عاتق الوكيل، الذي يلتزم بتبصير موكله واعطائه المعلومات اللازمة والحالة التي وصل اليها في تنفيذ الوكالة(). وتنشأ مسؤولية الوكيل في حالة تأخره في تبصير موكله في الوقت المناسب().
3) لايقتصر التزام الباحث على اعداد البحث العلمي، بل يلزم كذلك باتباع كافة الوسائل التي تمهد القيام بهذا الالتزام مما يقرب عمله من عمل الوكيل().
4) إن الاجر المتفق عليه في عقد البحث العلمي يكون خاضعاً لتقدير المحكمة()، أسوة بما هو مقرر في عقد الوكالة().
5) يقوم عقد البحث العلمي على عنصر رئيسي هو وجود ثقة بشخص الباحث وخبرته وكفاءته()، وهذه السمة موجودة أيضاً في عقد الوكالة الذي يتميز بتغلب الاعتبار الشخصي().
6) عقد البحث العلمي، كعقد الوكالة()، يتميز بأنه عقد غير لازم، إذ يجوز كقاعدة عامة أن يعزل الباحث، وللباحث أن يتنحى عن البحث العلمي.
الفرع الثاني
تقويم فكرة عقد الوكالة
لم يسلم هذا التكييف لعقد البحث العلمي من اعادة تقويمه مرة أخرى. وذلك، أنه ينبغي أن يطابق التكييف للعقد الطبيعة الخاصة لأداء الباحث. وفي ضوء ذلك يمكن ان نشير للاعتبارات الآتية:-
1) يتميز عقد الوكالة بأن محله الاصلي يكون دائماً تصرفاً قانونياً، ولايمكن بأي حال من الاحوال عد البحث العلمي – محل العقد - تصرفاً قانونياً.
2) أن الوكيل لايسأل الا عن بذل العناية اللازمة في انجاز العمل الموكل اليه(). بينما يلتزم الباحث بتحقيق نتيجة تتمثل في انجاز البحث وتسليمه للمستفيد().
3) أن القول بأن العمل العقلي لايصلح أن يكون محلاً لعقد مربح قول يناقض الواقع فالمعروف أن اصحاب المهن الحرة، التي تعتمد اغلبها على الطابع الذهني، يبرمون مع عملائهم عقوداً يبغون من ورائها الربح، ولاتعاب سمعتهم أن قاموا بإجارة عملهم().
4) إن لجوء المحكمة الى أحكام عقد الوكالة للوصول الى تعديل الاجر المتفق عليه بين الباحث والمستفيد ليس بحجة قاطعة لثبوت هذا التكييف لعقد البحث العلمي، لأن تدخل القاضي في هذه الحالة هو تدخل استثنائي الهدف منه التخفيف من المغالاة في الاجور واعادة التوازن بين طرفي العقد().
5) يتصرف الوكيل باسم الموكل ولحسابه()، وأما الباحث فإن عمله يصدر باسمه ولحسابه الخاص حتى في الحالة التي يكون فيها الباحث وكيلاً عن المستفيد(). لذلك فانه اذا اختلطت الوكالة بعقد آخر "كعقد البحث العلمي" ، ينبغي في الاصل تطبيق كل قواعد الوكالة وقواعد العقد الآخر مادام لايوجد تعارض بين العقدين.
وفي ضوء هذا التقويم نحن مدعوون الى محاولة البحث عن تكييف آخر لعقد البحث العلمي بين الباحث والمستفيد، وهذا مادعانا الى تصوره بأنه عقد عمل. وكما هو موضح في المطلب القادم.