المبحث الأول
عناصر عقد البحث العلمي
يستلزم بحث عناصر عقد البحث العلمي أن نقسم الموضوع على مطلبين:- نتناول في الاول، طرفي العقد. وفي المطلب الثاني المحل، اما السبب في عقد البحث العلمي فلا يختلف بمعناه التقليدي عن العقود الاخرى()، الا ان مفهومه بمعنى الباعث الدافع يعطيه اهمية بالغة في عقد البحث العلمي، اذ يعد هو غاية المتعاقد الرئيسية من ابرام العقد(). وخصوصاً تلك التي تبرم بين الباحث ومراكز الابحاث. اذ تسعى مراكز الابحاث الى الوصول الى نتائج او معرفة غير موجودة او مطلوب الكشف عنها، من اجل اشباع حاجة المركز او المؤسسات العلمية من المعرفة عن طريق توضيح غموض يحيط بظاهرة ما او نقل معرفة علمية().
وطبقاً للقواعد العامة لابد ان يكون سبب العقد موجوداً، ومشروعاً بمعنى ان لا يكون ممنوعاً قانوناً او مخالف للنظام العام والاداب().
ونكتفي بهذا القدر من الاشارة الى السبب في عقد البحث العلمي بغية عدم الخروج عن بحث جوهر عناصر هذا العقد ، المتمثلة في طرفي العقد، والمحل. وهذا ما سوف نبحثه في المطلبين الاتيين كالأتي:-
المطلب الاول
طرفي العقد
كأي عقد أخر فإن عقد البحث العلمي يمثل علاقة بين شخصين احدهما هو "الباحث" والاخر هو "المستفيد". وهذا ما نبينه في الفرعين الاتيين:-
الفرع الاول
الباحث*
تطلق هذه التسمية على الشخص الطبيعي او المعنوي الذي يقوم بتجميع عدة معلومات وتحليلها بهدف وضع فكرة او دراسة تسمى "البحث" ويكون هذا الاخير هو الوسيلة التي تساعد المستفيد في الوصول الى المعارف الجديدة.
ان الباحث وفقاً للمفهوم المتميز لعقد البحث العلمي، يتمثل في الشخص صاحب المهنة المتخصص في جانب، من جوانب المعرفة العلمية. أذ يعتمد بالدرجة الاساس على نتاج ذهن وقريحة الانسان، فالباحث لا يهدف في عمله الى مجرد تشغيل آلة او الاقتباس من نظريات قيلت سابقاً مقتصراً دوره على ترديدها فحسب، بل أن دور الباحث يرقى الى مرتبة الابداع والابتكار وايجاد حلول مرنة().
لذا فأنه يلزم ان يكون الباحث العلمي مؤهلاً متدرباً متمرناً على اساليب البحث العلمي. ذا تخصص متميز يتيح له تقديم بحث علمي بناءً على ما يمتلكه من معلومات وتقنيات تؤهله لأعداد بحث علمي يدل على تميزه وتفوقه في مجال مهنته().
وقد يتعدد الباحثون لبحث واحد، كأن يشترك في أعداد البحث شخصان او اكثر او يشترك في اعداده جماعة بتوجيه من شخص طبيعي او معنوي ويندمج عمل المشتركين في الفكرة العامة للبحث. ونتناول البحوث المشتركة اولاً ثم البحوث الجماعية ثانياً، وعلى الشكل الآتي():-
اولاً:- البحوث المشتركة:-
يعد البحث مشتركاً اذا تعاون على اعداده واشترك في ابتكاره اكثر من شخص واحد()، فقد يقتصر جهد شخص واحد عن الاحاطة بجميع المعارف التي يتضمنها البحث، وخاصة البحوث المطولة وكذلك استخدام طرق فنية لأكتشاف اشياء مادية كالنفط والمعادن، ففي هذه البحوث لابد من اشتراك اكثر من باحث في اعدادها، والاشتراك يتطلب توفر ارادة الاطراف المشاركة ومن ثم يقع باطلاً كل اتفاق على اعتبار شخص ما شريكاً في البحث على الرغم من انه لم يساهم في اعداد البحث في ظل فكرة مشتركة وتبادل للآراء والافكار(). والبحوث المشتركة قد تكون بشكل غير قابل للفصل بين اجزاء البحث المشترك او يمكن الفصل بين هذه الاجزاء ونبحثهما تباعاً:-
1- البحث المشترك غير القابل للفصل بين اجزائه:-
في هذا النمط من البحث المشترك يتعذر الفصل بين اجزائه وتحديد نصيب كل من ساهم فيه، كأن يشترك باحثان او اكثر في كتابة بحث مطول او اكتشاف دواء او معدن معين، ففي هذه الحالات يعتبرون جميعاً اصحاب البحث او الاكتشاف بالتساوي مالم يوجد اتفاق على غير ذلك، أي ان يتفق على تحديد نصيب او حصة كل مشترك في البحث، فأذا لم يوجد مثل هذا الاتفاق فلا يجوز ممارسة حقوق الباحث الا بأتفاقهم جميعاً واذا حصل خلاف بينهم فإن حسمه يكون من اختصاص القضاء، ولا يمنع ذلك من حق أي واحد منهم في اللجوء الى القضاء عند وقوع اعتداء على حقوق الباحث، فهذه وسيلة لحماية الحق المشترك ويجوز لأي منهم أن ينفرد بأتخاذها().
2- البحث المشترك القابل للفصل بين اجزائه:-
في هذا النمط من البحث المشترك توجد امكانية لتحديد نصيب كل مساهم في البحث بحيث يمكن فصل نصيب أي واحد منهم وتمييزه عن نصيب الاخرين، كأن يشترك مجموعة من العلماء في وضع بحث علمي يضم موضوعات علمية عدة، ويقوم كل واحد منهم بكتابة موضوع في اختصاصه، ويجوز ان يكون نصيب كل مشارك متميز عن نصيب الاخرين، ويمكن فصله عنه مع اندراج كل الانصبة تحت لون واحد من العلم(). واذا نكل أحد الشركاء عن اتمام نصيبه في البحث المشترك فيمكن لبقية الشركاء طلب فسخ العقد بناءُ على القواعد العامة للفسخ لعدم التنفيذ كما يمكن لهؤلاء الشركاء أن يطالبوا شريكهم الممتنع بتعويض لأمتناعه عن التنفيذ، ولا يمكن لهذا الشريك طلب اعفائه من التعويض إلا اذا دفع الدعوى بالقوة القاهرة او فعل الغير().
ثانياً:- البحوث الجماعية:-
يتطلب البحث الجماعي ان يشترك شخصان او اكثر بوضع البحث بتوجيه واشراف من شخص طبيعي او معنوي، بحيث يوضع البحث لحسابه ويقوم بنشره على نفقته وبأسمه وان يكون من المتعذر فصل نصيب كل من المشتركين في العمل وتمييزه على حدة(). كالمعاجم ودائرة المعارف والموسوعات، فهذه مؤلفات طويلة وتحتاج الى مهارات عديدة وعدد من الاشخاص المؤهلين بأعدادها، فيتم تجميع وتوحيد هذه القابليات والمواهب ووضعها تحت ادارة شخص واحد يتولى وضع خطة العمل والاشراف على تنفيذها، لذلك يعد هو مؤلف البحث الجماعي() وكذلك من امثلة البحث الجماعي، الكتب الادبية او العلمية التي تصدرها الوزارات في مختلف المجالات الاقتصادية او القانونية او الاحصائية(). وكتلك التي تصدر عن بيت الحكمة ودار الشؤون الثقافية العامة.
والمسألة التي تثار في هذا المجال هي في مدى اعتبار الشخص الطبيعي او المعنوي الذي لم يساهم في البحث او التأليف، صاحب حق مؤلف على البحث الجماعي في الوقت الذي يعد فيه نتاج وقريحة مجموعة من المساهمين في اعداد البحث ؟
فقد ذهب راي الى ان الباحثين تنازلوا عن حقهم للشخص الطبيعي او المعنوي، هذا التحليل، وأن كان صحيحاً بالنسبة للحقوق المالية ولكنه لا يصح بالنسبة للحقوق الادبية للباحث اللصيقة بشخصية الباحث ومن ثم فهي غير قابلة للتصرف فيها().
وهناك اتجاه في بعض التشريعات يعترف بجواز ملكية حق المؤلف ابتداءً لشخص معنوي (وزارة، جامعة مثلاً) لا بل وهناك بعض التشريعات تعترف للشخص المعنوي بحق المؤلف على البحوث التي ينتجها موظفوه اثناء قيامهم بعملهم كما يعترف بعضها الاخر ايضاً للشخص المعنوي، بحقوق المؤلف على البحوث الجماعية التي يتعدد فيها الباحثون().
ويذهب الراي الراجح الى ان، اعطاء حق المؤلف للشخص المعنوي دون مؤلفي البحث، يعد خروجاً على الواقع ومخالفة لطبيعة وتكوين الشخص المعنوي وللاوضاع القانونية السليمة ويجافي روح قانون حماية حق المؤلف وغايته ويتعارض مع المعيار الذي بنيت عليه الحماية وهو الابداع الفكري الذي تبرز فيه الصلة الروحية بين شخصية المؤلف ونتاجه الذهني فهي صلة غير موجودة بين الشخص المعنوي والبحث، الذي انتج لحسابه، فالمؤلف الحقيقي هو الذي اشترك فعلاً في وضع البحث ولهذا كان ينبغي الاعتراف للمشاركين في التأليف بحقوق المؤلف الادبية والمالية على البحث ومع ذلك فقد يقال بأن موقف المشرع من ذلك تبرره الاعتبارات العملية(). لذلك منحت التشريعات العربية صفة المؤلف للشخص الطبيعي او المعنوي الذي وجه ابتكار البحث الجماعي، اذ اعتبرت هذه التشريعات الشخص الطبيعي او المعنوي، الذي وجه ونظم ابتكار البحث الجماعي مؤلفاً ويكون له وحده الحق في مباشرة حقوق المؤلف().
اما الاتفاقية العربية لحماية حقوق المؤلف فقد نصت المادة (4/ب) منها على انه:- (اذا ابتكر المصنف لحساب شخص طبيعي او معنوي خاص او عام، فإن حقوق التأليف تثبت للمؤلف، ويجوز للتشريع الوطني ان ينص على ان الشخص المعنوي هو صاحب الحق الاصلي الا اذا نص الاتفاق على ما يخالف ذلك كتابة)().
الفرع الثاني
المستفيد
لما كان الهدف من اعداد البحث العلمي يتجلى باستخدام هذا البحث من اجل الحصول على معلومات معينة()، وهو ما يتطلع الكثير من الاشخاص لتحقيقه، فأن نهاية سلسلة المفاوضات التي تسبق مرحلة الاتفاق، تتمثل بالعقد الذي يبرمه الشخص الراغب في استخدام البحث وصاحب المعلومات، اذ يسمى الاول المستفيد والثاني الباحث.
ومن الممكن تعريف المستفيد بأنه الشخص الطبيعي او المعنوي المتعاقد مع الباحث بهدف الحصول على البحث العلمي الذي يساعده في الوصول الى المعلومات المطلوبة.
وقد عرفته المواد (2،3) من مشروع قانون تنظيم نقل التكنولوجيا المصري، بأنه ((كل شخص طبيعي او اعتباري من اشخاص القانون العام او الخاص، فرداً كان او جماعية او شركة، يستغل او يحصل على تكنولوجيا او أي حقوق متصلة بها وذلك بمقتضى عقد ترخيص او شراء او اية وسيلة أخرى))().
ويسمى في حالة طرح البحث المعد سلفاً على الجمهور بالمستفيد العام ((شخص من الجمهور من دون تعيين))، وفي حالة اعداد البحث خصيصاً له وبناءً على طلبه، يسمى بالمستفيد الخاص.
وهذا المستفيد العام او الخاص، اذا كانت وسيلة حصوله على البحث واستخدامه له قد تمت بصورة مشروعة، فأنه يسمى بالمستفيد القانوني. الذي يشمل الشخص المرخص له بأستخدام البحث من قبل الباحث او من ينيبه()، وكذلك المجاز له قانوناً بأستخدام البحث، مثل استخدام البحث للأغراض العلمية غير الربحية()، والاستخدام الشخصي او الخاص().
وبخلاف ذلك يعد المستفيد منتهكاً لحقوق الباحث، على انه في حالة انقضاء مدة سريان الحماية القانونية يصبح استخدام البحث واستغلاله امراً مباحاً للكافة().
ويذهب رأي الى تسمية المستفيد من البحث العلمي بالمستخدم النهائي، على اعتبار ان الاخير هو المستفيد النهائي من المعلومات مهما تعدد الباحثون او العملاء، اذ قد يستفيد كل باحث على حدة من المعلومات المستخلصة من باحث اخر يشترك معه في نفس الفكرة العامة في البحث الجماعي. هذا بالاضافة الى ان دور العميل يكون في مساعدة الباحث في كل او بعض العمليات المؤدية الى تقديم المعلومات الى المستفيد النهائي().
وتتعدد صفة المستفيد النهائي فيما بين الشخص الطبيعي العادي الذي يستخدم البحث لتلبية حاجاته الخاصة والمستفيد من البحث لغايات مهنته وعمله كالمؤسسات العامة الحكومية وغير الحكومية والجمعيات والاندية، وكذلك الشركات التجارية ودور النشر ومراكز الابحاث، وبمعنى اخر الشخص الاخير الذي يتعاقد للحصول على نسخة من البحث او كم من المعلومات لغاية الاستخدام من دون ان يكون له الحق بالتصرف بالبحث للغير. وهو بذلك يقترب من وصف المستهلك النهائي في نطاق السلع والمنتجات. ولكن هل من الممكن اعتبار المستفيد النهائي مستهلكاً، وبالتالي يتمتع بالحماية القانونية للمستهلك ؟
يذهب رأي() الى ان مفهوم المستهلك ينصرف -بالمعنى الواسع- الى كل شخص يتعاقد بهدف الاستهلاك، أي بمعنى استعمال او استخدام مال او خدمة، في حين يقصد بالمستهلك -وفقاً للمفهوم الضيق- كل شخص يتعاقد بقصد اشباع حاجاته الشخصية او العائلية، وبذلك يخرج عن هذا المفهوم من يتعاقد لأغراض مهنته او مشروعه.
وبموجب المفهوم الواسع -سالف الذكر- للمستهلك، فأنه يمكن اعتبار المستفيد -العام او الخاص- مستهلكاً بأعتباره يسعى من وراء العقد الى استخدام مال -وهو المعلومات في حالة عقود البحث العلمي أما اذا اخذنا بالمفهوم الضيق: فأن اعتبار المستفيد مستهلكاً، يتطلب ان يكون هذا المستفيد قد تعاقد على الحصول على المعلومات من اجل اشباع حاجاته الشخصية، وبذلك ينبغي ان تكون المعلومات من قبيل الحاجات الضرورية للشخص. وبخلافه تنتفي الحكمة من وراء اضفاء الحماية للمستفيد، بناءً على الرأي سالف الذكر.
وبالمقابل نجد المشرع الفرنسي في اطار قانون حماية المستهلك، يضع المتعاقد غير الممتهن او غير المتخصص في موضوع العقد جنباً الى جنب مع المستهلك اذ يمتد نطاق احكام هذا القانون الى العقود المبرمة فيما بين ((المهنيين وغير المهنيين او المستهلكين))()، مما دعا الى القول بأن المستهلك هو الشخص غير الممتهن او غير المتخصص في موضوع العقد، ووفقاً لهذا التصور فأن مفهوم المستهلك ينسحب غالباً على المستفيدين من البحث الذين عادة ما يجهلون الطبيعة العلمية او التقنية لهذه البحوث، ولكن ثمة شرط اخر لسريان قانون حماية المستهلك، او ما اصبح يطلق عليه عقود الاستهلاك في فرنسا، والذي يتمثل بضرورة ان يرد العقد على المنتجات او الخدمات الاستهلاكية، فهل ينطبق هذا الشرط على عقد البحث العلمي ؟ بمعنى هل يمكن اعتبار المعلومات منتجات او خدمات استهلاكية ؟
يعرف البعض المنتج بأنه كل منقول مادي قابل للتداول وفقاً لسوق العرض والطلب، ويشمل السلع الاستهلاكية كالأغذية ومستحضرات التجميل وغيرها من الاموال القابلة للهلاك بأستعمالها، كما يشمل الاموال والسلع المعمرة كالسيارات والاجهزة الكهربائية المنزلية، في حين ينصرف مفهوم الخدمة الى كل اداء او عمل يمكن ان يقوم بمقابل من غير الاموال المادية().
ويأتي رأي الاستاذ كاتلا (Catala) في مقدمة الآراء التي اعطيت للمعلومة وصفاً ذا قيمة اقتصادية. اذ يعتبر هذا الاستاذ، المعلومة مستقلة عن دعامتها المادية (أي الشيء الذي يحتويها- البحث مثلاً-)، وبكونها قيمة قابلة للاستحواذ (Un bien Susceptible d’appropriation). ويوضح من اجل هذا الوصف بأن المعلومة تقوم وفقاً لسعر السوق، متى كانت غير محظورة تجارياً، وانها منتج، بصرف النظر عن دعامتها المادية وعمل من قدمها وانها بالاضافة الى ذلك ترتبط بمؤلفها عن طريق علاقة قانونية تتمثل بعلاقة المالك بالشيء الذي يملكه. وهي، بهذا الوصف تخص مؤلفها بسبب علاقة التبني التي تجمع بينهما().
ومن هنا فأن الاستاذ كاتلا (Catala) يبني تصوره، في اضفاء وصف المنتج على المعلومة على حجتين، الاولى؛ قيمة المعلومة الاقتصادية. والثانية: علاقة التبني التي تجمع بينها وبين مؤلفها، بمعنى ان المؤلف مالك للمعلومة قبل ان يتنازل عنها للمستفيد بموجب العقد.
وتماشياً مع هذا الرأي يدلل الاستاذ فيفانت (Vivant) على هذا الاتجاه، بأن للمعلومة قيمة بسبب اهميتها الاقتصادية (Sa valeur economique) وبذلك يمكن ان تكون محلاً لعقد البيع ويمكن كذلك تحويل ونقل منفعتها واستغلالها().
على ضوء ما تقدم نجد ان البحث في مدى انطباق وصف المستهلك على المستفيد من البحث العلمي من عدمه، له اهميته في نطاق القوانين التي تقرر حماية خاصة للمستهلكين، مثل قانون حماية المستهلك الفرنسي، ولا يوجد ما يمنع من اعتبار المستفيد في عقد البحث العلمي خاضع لهذا القانون، في الاحوال التي يكون فيها احد المتعاقدين غير متخصص في ميدان البحث العلمي.
ومما تجدر الاشارة اليه، ان صفة المستفيد لا تنتفي عن المتعاقد مع الباحث حتى لو ادعى هذا المستفيد ان نوع المعلومات لم تعد عليه بالنفع، وذلك لأن الاستفادة هنا تتمثل بالحصول على المعلومات سواء استخدم هذا البحث ام لم يستخدم من قبل المتعاقد مع الباحث().
المطلب الثاني
المحل
الموضوع الذي ينصب عليه اتفاق الطرفين في عقد البحث العلمي هو محله، وهو ما يتعهد احدهما ان ينقله او يسلمه الى الآخر.
ومحل العقد في العقود بصفة عامة، هو احد اركانه، ويتعين ان تتوافر فيه شروط معينة، وهي ان يكون معيناً او قابلاً للتعيين، موجوداً او بالامكان وجوده، ممكناً غير مستحيل، كما يشترط ان يكون مشروعاً لا يخالف النظام العام والاداب. ويترتب على تخلف احد هذه الشروط بطلان العقد().
وفي نطاق عقد البحث العلمي، فأن المحل في هذا العقد يتمثل في البحث من جهة، والمقابل المالي -اذا ما كان من عقود المعاوضة وهو الغالب- من جهة أخرى، وسنتناول ذلك بالبحث تباعاً على النحو الأتي:-
الفرع الأول
البحث
يعد البحث موضوع عقد البحث العلمي وهدفه، إذ يضم المعلومات التي تقدم من الباحث للمستفيد من خلال الاعتماد على المعرفة العلمية كقاعدة اساسية في الاستغلال والاستكشاف السليم().
لذا لابد من معرفة معنى البحث العلمي واهميته، مع دراسة تقسيم بعض الكتاب البحوث العلمية الى اساسية وتطبيقية، ومن ثم بيان حكم التنازل عن البحث لكونه يعد مصنفاً مستقبلياً. وهذا مانبينه على النحو الآتي:-
اولاً- تعريف البحث العلمي، وأهميته:-
يعود البحث لغةً في اصله الى الفعل (بحثَ). وبحث عن الخير وبحثه بحثاً: سأل، وكذلك استبحثه، واستبحث عنه. استبحثتُ وابتحثتُ عن الشيء، بمعنى واحد أي فتشت عنه(). فالبحث طلب الحقيقة وتقصيها واذاعتها بين الناس().
كما تشمل لفظة البحث على معنيين: المعنى المادي، وهو طلب الشيء والتفتيش عنه. والمعنى المعنوي، وهو السؤال عن الشيء(). وبذلك يمثل البحث وسيلة للدراسة يمكن بواسطتها الوصول الى حل لمشكلة محددة عن طريق التقصي الشامل والدقيق لجميع الشواهد والادلة التي يمكن التحقق منها().
ولم يستقر الفقه على تحديد معنى البحث العلمي تحديداً دقيقاً. فذهب رأيٌ الى القول، بأنه يعنى في المقام الرئيسي بكشف القوانين الكونية أي القوانين المنظمة للظواهر الكونية المختلفة، وتمثل الاكتشافات بالمفهوم المتقدم هدفاً للبحث العلمي، والتي تنتج بدورها المعرفة العلمية().
ويعرفه آخر بأنه: دراسة ومعرفة الحقائق المتصلة بأي جانب من جوانب المعرفة، بطرق ووسائل علمية مناسبة عن طريق اعتماد قواعد وانظمة واجراءات تسهل الوصول الى تلك الحقائق().
كما عرفه آخر بأنه: أي تقصي نظامي لأي جانب من جوانب المعرفة، تتم مباشرته طبقاً للقواعد العلمية المقبولة بصفة عامة والتي يكون الغرض الاساس منها هو اكتساب المعرفة().
في حين ذهب رأيٌ رابع الى تعريف البحث العلمي بأنه: عملية فحص دقيقة محايدة، غير متحيزة لمشكلة، وتقوم هذه العملية على تقصي البيانات وتحريها بدقة وتبويبها وتحليلها والوصول الى نتائج، ونتيجة هذا التحليل قد تؤدي الى اظهار حقيقة المشكلة واسبابها ومايناسبها من حلول().
وذهب رأي خامس الى تعريفه بأنه: عمل عقلي هدفه تحقيق نتيجة فنية بها يمكن اشباع حاجات انسانية مفتقدة، بمعنى تقديم شيء جديد للمجتمع او ايجاد شيء لم يكن موجوداً من قبل قوامه أو مميزه ان يكون ثمرة فكرة ابتكارية او نشاطاً ابتكارياً تتجاوز الفن الموجود().
وبدورنا نرجح التعريف الاخير، حيث طبقاً لهذا المعنى للبحث العلمي فان النتائج التي يتم التوصل اليها والتي تكون وليدة الصدفة والتخيل فإنها ليست بحوثاً علمية، لأن تلك النتائج ليست سوى بداية نشاط عقلي يؤدي بعد مرحلة من التفكير الى مجهودات خارقة تسمح ببيان العلاقة بين السبب والنتيجة المحققة. فاكتشاف (وات) مثلاً، في امكانية استخدام البخار في تسيير الآلات إنما كان نتيجة لملاحظته لتحرك غطاء ابريق الشاي عند بدء الماء في الغليان ولم يكن ذلك نتيجة لمجهودات منظمة ومرتبة حتى يمكن ان تبين مهارته الابتكارية في البحث العلمي. ولذلك فإنه على الرغم من أن هذا الاختراع قد أحدث ثورة في عالم الصناعة إلاّ انه لايعد من قبيل البحث العلمي، على اعتبار انه لم يكن ثمرة فكرة ابتكارية اتبع بها الباحث خطوات البحث العلمي، ابتداءً من تحديد المشكلة ومن ثم جمع المعلومات ووضع الفروض ومن ثم الوصول الى النتيجة.
ومما تجدر الاشارة اليه، إن البحث العلمي كأي عمل علمي، يخضع الى تقويم لقيمته العلمية والعملية. وذلك من قبل اساتذة ومختصين وخبراء، لكتابة تقرير في صلاحية هذا البحث من عدمه مع الملاحظات(). ويتم تقويم البحث العلمي في ضوء مراعاة الباحث للنواحي الموضوعية، والشكلية في البحث العلمي(). وهذا مانلاحظه –على سبيل المثال- من نص الفقرة (4) من عقد التأليف النموذجي لبيت الحكمة، إذ تنص على إنه: يقوم الطرف الاول –بيت الحكمة- بتقويم مخطوط الكتاب المقدم اليه من قبل خبراء في الاختصاصات().
ويرمي البحث العلمي الى زيادة المعرفة العلمية والمنفعة البشرية، تحقيقاً للاغراض السلمية. من خلال الدراسات التي تجري لمنفعة الجنس البشري، عدا مايتعلق بالاستثمار الصناعي وغيرها من النشاطات الاخرى التي تهدف الى الاستثمار المباشر للموارد(). وبذلك يشمل البحث العلمي كل دراسة او عمل تجريبي موجه الى زيادة معرفة الانسان، وتكون نتائجه ملكاً للبشرية. وعليه ستكون زيادة المعرفة العلمية هي أضخم فوائد البحث العلمي، وبعبارة أخرى أضخم من الفوائد المالية الناتجة عن استغلال البحث العلمي(). ولذلك لابد من الاستخدام المعقول لمعلومات البحث العلمي لتحقيق مستوى افضل من الفهم الصحيح لتطوير وزيادة المعرفة العلمية والمنفعة البشرية.
ثانياً- محاولة تقسيم البحث العلمي:
اذا كان المفهوم العلمي للبحث، يمثل الاسلوب العلمي للتحليل المنهجي للمعلومات والتقنيات وخصائصهما، من خلال الدراسة والبحث الدقيقين في مجالات متنوعة للعلم. فإن هذا المفهوم دعا بعض الاراء الى تقسيم البحث العلمي الى قسمين اساسيين، هما:
* البحوث العلمية الأساسية.
** البحوث العلمية التطبيقية.
إذ يعرفون البحث العلمي الأساسي، بأنه: ((مجموعة المعارف المرتبة منهجياً على شكل ما، والتي جمعت بدقة بواسطة المشاهدة او القيام بالتجربة العلمية، بحيث تصاغ النتائج في قوانين ومبادئ عامة يمكن من خلالها التنبؤ والاستنتاج، من أجل اشباع حاجة الباحث للمعرفة أو من اجل توضيح غموض يحيط بظاهرة ما(). ويتمثل بالدراسات والمنشورات في المجلات والمطبوعات العلمية وهو عنصر من عناصر التكنولوجيا))().
ويعرفون البحث العلمي التطبيقي، بأنه: ((الدراسة العلمية التي يقوم بها الباحث بهدف ايجاد حل لمشكلة قائمة او التوصل الى علاج لموقف معين))().
وقد أكد البعض تبني التقسيم اعلاه من خلال تعريفهم للبحث العلمي، إذ عرفه رأيٌ بأنه: ((أية دراسة سواء كانت اساسية أو تطبيقية مقصود منها زيادة المعرفة وتتضمن كل الانشطة العلمية ذات العلاقة بموضوع البحث))().
كما عرفه رأيٌ آخر بأنه: ((أي بحث اساسي أو تطبيقي أو عمل خبره يتعلق به، تقوم به الدول واشخاصها القانونيون والطبيعيون وكذلك المنظمات الدولية التي تهدف بصورة مباشرة الى الاستثمار الصناعي، لاستحصال معرفة كل جوانب العمليات الطبيعية، والظواهر الحاصلة))().
وقد عرفه رأيٌ ثالث بأنه: ((أي تحري نظامي، سواء كان اساسياً أو تطبيقياً أو عمل خبره يتعلق به يكون غرضه الاول زيادة المعرفة للاغراض السلمية))().
ولذلك يرى اصحاب هذا الاتجاه ضرورة ايجاد نظامين مختلفين يحكم احدهما البحوث الاساسية ويحكم الآخر البحوث التطبيقية().
بينما يرى اتجاه آخر، صعوبة التمييز بين البحوث العلمية الاساسية والبحوث العلمية التطبيقية لكثرة استخدام الاولى لأغراض الثانية()، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، يعتبر التمييز غير علمي ومصطنع، حيث ان ذلك يعني حرمان اصحاب البحوث التطبيقية من المشاركة في هذه البحوث التي توصف بانها أساسية. في حين ان عدم التمييز بين انواع البحوث سوف يعطي للباحثين الحق بالمشاركة في البحوث والحصول على البيانات والمعلومات وفرض الشروط المناسبة().
كما يؤكد رأيٌ آخر، على أن صعوبة التمييز تكمن في تشابه فعاليات كلا النوعين، لهذا فإن التمييز بين انواع البحوث مستحيل من الناحية العملية، فيكون من الصعوبة ايجاد اساس قانوني للتمييز بين البحث العلمي الاساسي والبحث العلمي التطبيقي، والادعاء خلاف ذلك لايمكن تحقيقه إلاّ من الناحية النظرية فقط().
وهنا تدخل رأيٌ آخر قائلاً: انه لايمكن قبول فكرة التمييز بين أنواع البحوث الى اساسية وتطبيقية وان من يدعو الى هذا التمييز هم العلماء التقليديون، حيث ان التطور العلمي والتكنولوجي مكن من الاستفادة من جميع البحوث للأغراض الاستثمارية ولافرق بين بحث وآخر من حيث الجوهر لوجود الارتباط الكامل بين كافة أنواع البحوث ولايوجد في الوقت الحاضر معايير علمية يمكن الاستناد اليها لتبرير هذا التمييز. كما إن البحوث الاساسية هي القاعدة التي يستند اليها البحث التطبيقي(). وهذا مادفع البعض الى القول: إن مثل هذا التمييز كذب لاأساس له من الصحة().
وبدورنا نتفق مع الاتجاه الأخير، الذي ذهب الى عدم التمييز بين أنواع البحوث، إذ تخضع جميع انواع البحث العلمي الى نظام قانوني واحد. وذلك لصعوبة التمييز بين أنواع البحوث من الناحية العلمية لكثرة استخدامات البحث العلمي الاساسي في البحث العلمي التطبيقي، كما أن التمييز ظاهر من الناحية النظرية فقط، ولايستند الى اسس علمية دقيقة تمكن الباحثين القانونيين من ايجاد معيار قانوني سليم أو اساس قانوني للتفريق. واذا كان لابد من التمييز بين انواع البحوث. فإنه يمكن أن نميز بين نوعين من البحوث، وفقاً للآراء المطروحة سابقاً. وهما:-
البحث العلمي الاساسي: ويقصد به الدراسات العلمية التي تهدف الى زيادة مجمل المعرفة حول العالم بصرف النظر عن تطبيقها.
البحث العملي (أو التطبيقي): وهو ترجمة الظواهر الطبيعية والنظريات العلمية الى نتائج اقتصادية مفيدة. كما هو الحال في عمليات البحث الجيولوجي والجيوفيزيائي الذي يسبق استخراج النفط وكذلك البحوث التي تتعلق بالتقنية النووية والذرية(). ويسمى هذا النمط من البحث (بالبحث التكنولوجي)().
ثالثاً- التنازل عن مصنف مستقبلي:
يشترط في البحث بوصفه محل عقد البحث العلمي –استناداً لما تقرره القواعد العامة في العقود- أن يكون ممكناً أو معيناً أو قابلاً للتعيين ومشروعاً.
فالبحث ينبغي أن يكون ممكناً لأنه لا التزام بمستحيل والا كان العقد باطلاً()، كمن يطلب أو يعد بحثاً علمياً بشأن اجراء تجارب محظورة على جسم الانسان. وينبغي كذلك ان يكون البحث معيناً أو قابلاً للتعيين، ويكون البحث معيناً اذا ذكرت أوصافه، واذا لم يكن معيناً فينبغي على الاقل أن يكون قابلاً للتعيين(). واخيراً ينبغي أن يكون البحث مشروعاً، فإن كان غير مشروع بأن كان مخالفاً للقانون أو النظام العام أو الآداب كان العقد باطلاً().
كما تقضي القواعد العامة لنظرية العقد في القانون المدني بانه يجوز التعامل بالاموال المستقبلية شريطة أن تحدد تحديداً نافياً للجهالة والغرر، فقد نصت الفقرة الاولى من المادة (129) من القانون المدني العراقي()، على انه: ((يجوز أن يكون محل الالتزام معدوماً وقت التعاقد اذا كان ممكن الحصول في المستقبل وعين تعييناً نافياً للجهالة والغرر)).
وفي مقابل ذلك فأن التشريعات الخاصة بحماية حق المؤلف تحرم التعامل بالانتاج الفكري المستقبلي للمؤلف، فقد نصت المادة (39) من قانون حماية حق المؤلف العراقي على أنه: ((يعتبر باطلاً تصرف المؤلف في مجموع انتاجه الفكري المستقبل))().
ويرجع سبب التحريم هذا الى منع سلب حرية المؤلف الفكرية، فتعاقده على انتاج مصنف في المستقبل يعد ضرباً من التقييد الفكري له، فقد لايتمكن من انجازه او قد ينتج شيئاً غير ما اتفق عليه عند التعاقد أو انه لم يعد مقتنعاً بموضوع المصنف المتفق عليه مسبقاً().
كما إن تحريم التعامل بمصنف لم ينجز بعد يلحق ضرراً بمصالح متعددة يفرضها الواقع العملي. فالمنتج لفلم سينمائي أعد له مبلغاً كبيراً قد يكون ضحية امتناع كاتب القصة او السيناريو عن انجاز المصنف الذي اتفق عليه مسبقاً(). وقد يتعذر على المستفيد –في عقد البحث العلمي- الاستفادة مما ينتجه الباحث من انتاج فكري في المستقبل على الرغم من التزام الباحث بذلك بموجب عقد البحث العلمي.
وأمام هذا التعارض في المصالح حاول الفقه الفرنسي وضع حلول مناسبة لتفسير النص التشريعي، وذلك عن طريق الابتعاد عن التفسير الحرفي للنص. ويمكن ان نحصر الاراء المختلفة في الفقه الفرنسي مع موقف القضاء بشأن بطلان التصرف الوارد على انتاج فكري مستقبلي في فقرتين: نرى في الفقرة الاولى، الاتجاه الرافض لبطلان التصرف. وفي الثانية، الاتجاه المؤيد لبطلانه، ثم نطرح في فقرة ثالثة مااقترح من حل مناسب في القوانين العربية الخاصة بحماية حق المؤلف.
1- الاتجاه الرافض لبطلان التصرف:-
يرى انصار هذا الاتجاه، انه اذا فسرنا النص (الفرنسي)() حرفياً فإنه سوف يؤدي الى استحالة تطبيق النص الا في حدود ضيقة جداً.
لهذا يرى الفقيه (Destois) ان هذه المادة تعتبر التصرف باطلاً اذا لم يذكر عنوان المصنف في التصرف على الاقل().
ويرى الفقيه (Strcholm) انه ينبغي ان ننظر الى النص نظرة مرنة، فإذا كان موضوع التصرف مجموعة من المصنفات المستقبلية يتنازل المؤلف عن كل حقوقه منها فإنه يمكن ان نعتبر التصرف باطلاً لأن فيه ضرراً جسيماً للمؤلف، أما إذا كان الاتفاق يرد على مصنف مستقبلي واحد او اجراء تعديل على مصنف موجود اثناء انعقاد التصرف فلايمكن الحكم بالبطلان لأنه لايوجد ضرر يلحق بالمؤلف طالما انه قد حدد فيه مدة انجاز المصنف وعنوانه(). ويضيف الفقيه (Colombet)، في معرض تأييده للاتجاه السابق، أن قصد المشرع من هذا النص هو منع تنازل المؤلف عن مصنف مستقبلي لم يدرك أهميته والاثار التي تترتب عليه، من دون قصد منع تنازله عن مصنفاته المستقبلية بصورة عامة، لهذا لايمنع من تنازل المؤلف عن حقوقه المالية الناشئة عن مصنفه المستقبلي شريطة ان يكون المؤلف قد حدد موضوعه وعنوانه اثناء ابرام العقد، لأنه اذا توصل الى ذلك فيعتمد ذلك انه قد أدرك اهميته والاثار التي سوف تترتب على انتاجه له في المستقبل().
وقد تبنت محكمة النقض الفرنسية هذا الاتجاه منذ اوائل السبعينات، مع وضع معايير دقيقة لتفسير النص، فقد جاء في قرار لها: ((ان التنازل عن مصنف مستقبلي مشروع اذا حدد في التصرف الفترة التي يجب انجازه فيها شريطة ان لايمس التنازل حقوق المؤلف الادبية))(). ويراد بعدم المساس بالحقوق الادبية للمؤلف انه لايجوز فرض التزام على المؤلف يتنازل به عن أحد هذه الحقوق، مثل فرض التزام عليه باختيار الاسلوب التعبيري للموضوع أو حريته في اختيار الطريقة المعينة لمعالجة الموضوع، لأن المساس بمثل هذه الحقوق يؤثر في الروح الابداعية للمؤلف، فأي التزام يرغمه عليها لايعترف به وينبغي تعويض المؤلف عن أي ضرر ناشئ عن المساس بها حتى لو لم يتم تنفيذ التصرف موضوع المصنف المستقبلي().
ويرى الدكتور نوري حمد خاطر(): ان الاتجاه السابق ليس الا تأكيداً للقواعد العامة في القانون المدني الخاصة بالتعامل بالاموال المستقبلية شريطة ان تحدد هذه الاموال في العقد تحديداً نافياً للجهالة الفاحشة والا حكم عليها بالبطلان()، فلكي يصح التصرف الوارد على مصنف مستقبلي ينبغي تحديد عنوانه وموضوعه اضافة الى تحديد المدة. وهذا ما دعا القضاء الفرنسي الى أن يتجنب تطبيق نص المادة ( 131 - 1) الخاصة ببطلان التصرف الوارد على مصنف مستقبلي على الرغم من صراحتها. أما بشأن الحقوق المعنوية (الادبية) فأمر منطقي ان يكون التصرف الذي يرد عليها باطلاً سواء كانت تتعلق بمصنفات منجزة اثناء ابرام التصرف او تتعلق بمصنفات مستقبلية لأنها من النظام العام().
2- الاتجاه المؤيد للبطلان:-
لم يؤيد انصار هذا الاتجاه، الاتجاه السابق الذي دعا الى رفض بطلان التصرف الوارد على انتاج فكري مستقبلي. ودعا الى احترام نص
المادة ( 131 - 1 ) من قانون الملكية الفكرية الفرنسية –المشار اليها سابقاً-، وايجاد مخرج لهذا النص افضل من اهماله خاصة وانه صريح للغاية، بعدم جواز التعامل بالانتاج الفكري المستقبلي.
إذ ذهب الفقيه (Lucas) الى القول بأنه: ينبغي الحكم على التصرف بالبطلان ولكن البطلان النسبي. إذ يرى أن نص المادة (131 - 1) تقضي ببطلان التصرف الذي يرد على مصنف مستقبلي، وهذا مايعارض نص المادة (1130) من القانون المدني الفرنسي الخاصة بجواز التعامل في الاموال المستقبلية، وحسب اعتقاده فإن هذا النص في مصلحة المؤلف ولكن لايبدو واضحاً بما فيه الكفاية، إذ يرى ان هذا النص يتعلق بالتنازل عن حقوقه بالنسبة لمصنف يوجد في المستقبل من دون ان يتعلق بمصنف مطلوب ومحدد أو مصنف يكلف العامل باعداده في المستقبل تحت إشراف وتوجيه رب العمل. ولايمكن تفسير النص بانه لاينطبق الا على التنازل الكلي عن الحقوق المالية لمصنف مستقبلي بل التنازل عن أي حق من هذه الحقوق().
ويستند هذا الفقيه في ذلك الى قرار حديث لمحكمة النقض الفرنسية الذي ابطل تصرفاً يرد على تنازل المؤلف عن حقه في تحوير مصنفه الذي لم يعد بعد()، وطالما ان البطلان جاء لحماية المؤلف فينبغي ان يكون بطلاناً نسبياً، أي ان العقد الذي يرد على مصنف مستقبلي يصبح قابلاً للإبطال اذا لم يجزه المؤلف، وذلك حسب نص المادة (1304) من القانون المدني الفرنسي الخاصة بالبطلان النسبي. ولكن اذا انجز المصنف انقلب العقد لازماً لان الغاية من الابطال قد انتفت. أما اذا اختار المؤلف الابطال قبل انجاز مصنفه فله حق المطالبة بالتعويض عن الضرر الذي لحق به لحرمانه من فرصة استغلال مصنفه بشكل صحيح().