وليس بعيدا عن هذا الوصف والتعريف ذهبت المحكمة الإدارية العليا في مصر إلى القول :" إنّ العقد الإداري هو العقد الذي تكون الإدارة طرفا فيه ويتصل بنشاط مرفق عام من حيث تنظيمه وتسييره بغية خدمة أغراضه وتحقيق احتياجاته مراعاة لوجه المصلحة العامة. وتأخذ فيه الإدارة بأسلوب القانون العام بما تضمنه من شروط استثنائية غير مألوفة في عقود الأفراد.".
الفرع الثاني: تطبيقات القضاء الإداري الجزائري للمعايير التشريعية.
إذا كان المشرّع الجزائري قد خصّ العقود الإدارية أو الصفقات العمومية بتشريع خاص ولم يخضعها للقانون الخاص (المدني والتجاري)، فقد حرص من جهة أخرى على تحديد جملة من المعايير الّتي تميّز الصفقات العمومية عن غيرها من عقود الإدارة المختلفة.
والحقيقة التي لا يمكن إنكارها أنّ هذه المعايير سابقة الذكر ساهمت مساهمة كبيرة في مساعدة أجهزة القضاء الإداري لتطبيق أو إبعاد قواعد الصفقات العمومية بحسب توافر هذه المعايير من عدم توافرها وفيما يلي بعض هذه التطبيقات:
1- معيار أو شرط الكتابة:
لقد تشدّد القضاء الإداري الجزائري ممثلا في مجلس الدولة بشأن شرط الكتابة في قرار له صدر بتاريخ 14-05-2001 بين بلدية بوزريعة ومقاولة تحت رقم 001519 الغرفة الرابعة غير منشور بالقول :" ...من المقرّر قانونا وفقا للمادة 3 من المرسوم التنفيذي رقم 91-434 المتضمّن تنظيم الصفقات العمومية فإنّها تعتبر الصفقات العمومية عقودا مكتوبة وإنّه يلزم تحت طائلة البطلان أن تتضمّن بيانات محدّدة على سبيل الحصر بما يستفاد منه أنّ الكتابة شرط لانعقاد الصفقة العمومية وتتعلّق بالنظام العام."
ويتبيّن لنا من خلال هذا القرار أنّ مجلس الدولة طبق نصوص قانون الصفقات العمومية تطبيقا كاملا ولم يحد عنها. فالمشرّع وصف في قانون الصفقات الصفقة على أنّها عقد مكتوب، وما كان على القضاء الإداري إلا أن يعترف بهذا العنصر المميّز للعقود الإدارية كونها عقود مكتوبة ولما تنطوي عليه كما رأينا من أهمية وخطورة في ذات الوقت. وبالتّالي فإنّنا نثنّي على ما ذهب إليه مجلس الدولة في قراره المذكور. ولا نعتقد أنه سيغير موقفه خاصة وأن المادة 3 من المرسوم الرئاسي 02/250 لا تختلف في صياغتها عن المادة 3 من المرسوم التنفيذي لسنة 1991 من حيث اعتبار الصفقات العمومية عقود مكتوبة.
2- المعيار العضوي :
في قرار له صدر بتاريخ 05-11-2002- ملف رقم 003889 ذهب مجلس الدولة إلى التقيّد حرفيا بنصوص القانون وأقرّ مبدأ عدم خضوع المؤسسات ذات الطابع الصناعي والتجاري لقانون الصفقات العمومية. وبالتبعية أقر أيضا عدم اختصاص القاضي الإداري للبت في النّزاع القائم بخصوص إبرام مؤسسة عمومية ذات طابع صناعي وتجاري لصفقة عمومية.
وإذا كان مجلس الدولة في القرار أعلاه أصاب إصابة بالغة من حيث مضمون القرار، إلا أنّه لم يكن موفقا في تأصيله وتسبيبه فبدل أن يشير القرار في حيثياته للمادة الثانية من المرسوم التنفيذي 91-434 سابقة الذكر والّتي ورد فيها فقط عبارة الإدارات العمومية والهيئات الوطنية المستقلّة والولايات والبلديات والمؤسسات العمومية ذات الطابع الإداري، وهو ما يعني إقصاء وإبعاد المؤسسات العمومية ذات الطابع الصناعي والتجاري بعدم ورودها و ذكرها في نص المادة الثانية من المرسوم 91-434. أشار القرار للأمر 67-90 والذي أقرّ عدم خضوع عقود هذه المؤسسات لمحتوى أحكامه رغم أنّ هذا الأمر كما مرّ بنا من خلال التطوّر التاريخي لتشريع الصفقات العمومية قد ألغيت تقريبا كل مواده بموجب المرسوم 82-145- وبموجب المرسوم التنفيذي 91-434 وخاصة المواد المتعلّقة بالمعيار العضوي وبمجال التطبيق.
وأسس مجلس الدولة قراره على المادة 59 من الأمر 67-90 والّتي أقرّت عدم خضوع المؤسسات ذات الطابع الصناعي والتجاري لمقتضيات الأمر 67-90 المؤرخ في 17 جوان 1967 المتعلّق بالصفقات العمومية.
وكان حري بمجلس الدولة والنزاع منشور أمامه سنة 2002 أن يطبق التشريع الجاري به العمل ساعة عرض النّزاع وهذا التشريع هو المرسوم التنفيذي رقم 91-434 دون حاجة لذكر تشريعات أخرى سبق أن أقرّ إلغائها أكثر من مرة كما تقدم معنا البيان ونعني بذلك الأمر 67/90 المذكور.
ونعتقد أن المحاكم الإدارية ستواجه إشكالية كبرى في مجال الاختصاص خاصة بالنظر للمعيار العضوي كون أن المادة 800 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية اكتفت بذكر المؤسسات العمومية ذات الصبغة الإدارية ولم يرد فيها أي إشارة لباقي المؤسسات الأخرى كالمؤسسة العمومية ذات الطابع العلمي والثقافي والمهني. وستتعمق الإشكالية أكثر إن كان أحد أطراف النزاع مؤسسة عمومية ذات طابع صناعي وتجاري. وسنفصل هذا الأمر عند التطرق لمنازعات الصفقات العمومية.
3- معيار أو شرط الحد المالي الأدنى المطلوب لإبرام صفقة عمومية:
لقد طبق القضاء الإداري الجزائري ممثلا في مجلس الدولة شرط الحد الأدنى المالي المطلوب لإبرام صفقة عمومية وهذا من خلال المنازعات المعروضة عليه.
ففي قرار له صدر بتاريخ 30-07-2001 الغرفة الرابعة الفهرس 07/17 رقم القرار 003955 ذهب مجلس الدولة إلى القول: " شرط الصفقة ليس ضروريا في الأشغال التي تقلّ قيمتها عن ثلاثة ملايين 3.000.000 د.ج- اتفاق على تقديم أشغال لصالح البلدية نهاية الأشغال وتسليمها – تقويم الأشغال ب 1.214.800 د.ج اعتبار البلدية بالدين- شرط الصفقة ليس ضروريا في الأشغال التي تقلّ قيمتها عن 3.000.000 د.ج ."
وعليه قرّر المجلس إلزام بلدية مولاي العربي بدفع مبلغ 1.214.800 د.ج كمبلغ أصلي و 100.000 د.ج تعويض.
وفي قرار له غير منشور بتاريخ 08-10-2001 ذهب مجلس الدولة إلى القول :" من المقرّر قانونا أنّ الاتفاق على الأشغال والّتي تبرمه الإدارة ولا يفوق قيمته 3000.000 د.ج 3 ملايين دينار جزائري لا يكون صفقة عمومية ولا يخضع في إجراءاته في حالة النّزاع إلى المادتين 99 و 100 من المرسوم التنفيذي رقم 91-434 المتعلّق بالصفقات العمومية."
وفي قرار لنفس المجلس غير منشور صادر بتاريخ 30-10-2001 أكد المجلس على هذا الشرط بقوله: " من المقّرر قانونا أن الأشغال الّتي تقلّ قيمتها على ثلاثة ملايين دينار جزائري ليس من الضروري فيها شرط عقد الصفقة وعلى عرض القضية على اللجنة الاستشارية. والثّابت في قضية الحال أنّ الدين ثابت باعتراف المستأنف عليها ولا نزاع فيه وأنّ قيمته تقلّ عمّا استوجبه القانون في عقد الصفقة وبالتّالي فلا مجال للحديث عن شرط الصفقة".
وفي قرار له مؤرخ في 16-12-2003 ذهب مجلس الدولة إلى القول : " إنّ المبلغ المحدّد للحد الأدنى من أجل إبرام صفقة عمومية قد طرأ عليها عدة تعديلات بموجب المرسوم التنفيذي رقم 94- 178 المرسوم التنفيذي 96-84 و المرسوم التنفيذي رقم 98-87 المؤرخ في 7 مارس 1998 وأنّ هذا المرسوم الأخير قد حدّد الحد الأدنى للمبلغ 4000.000 د.ج ( أربعة ملايين دينار جزائري)، ومتى ثبت في قضية الحال أنّ إبرام اتفاقية إنجاز الأشغال بين طرفي النّزاع كان بتاريخ 16-05-1998 وبقيمة 3847165.98 أي أقلّ من 4000.000 د.ج المحدّد في المرسوم التنفيذي رقم 98-87 المؤرخ في 07-03-98. وهو الواجب التطبيق في هذه الحالة فإنّ طرفي النزاع لم يكونا ملزمين بإبرام عقد الصفقة العمومية." وبذلك يكون القضاء الإداري الجزائري قد طبق حرفيا الحد الأدنى المطلوب لإبرام صفقة عمومية والمبيّن بموجب نصوص رسمية.
الفرع الثالث: المعايير الفقهية للعقد الإداري " الصفقة العمومية"
سبق البيان أنّ الفقه عرّف العقد الإداري على أنّه: " عقد يبرمه شخص من أشخاص القانون العام بقصد إدارة مرفق عام أو بمناسبة تسييره وتظهر نيته في الأخذ بأسلوب القانون العام. وذلك بتضمين العقد شرطا أو شروطا غير مألوفة في عقود القانون الخاص. وانطلاقا من هذا التعريف رسم الفقه معايير العقد الإداري المتمثلة في:
- المعيار العضوي .
- المعيار الموضوعي ( ارتباط العقد بالمرفق)
- معيار البند غير المألوف أو وسيلة القانون العام.
نوضح ذلك فيما يلي :
- المعيار العضوي :
ويقصد به أن تكون الإدارة طرفا في العقد، أي أن يكون أحد أطراف العلاقة العقدية شخص من أشخاص القانون العام. ويقصد بأشخاص القانون العام الأشخاص الإقليمية كالدولة والولاية والبلدية،
والأشخاص المرفقية وهي عبارة عن مؤسسات عامة. ويتولى التشريع المنظّم للصفقات العمومية تحديد نوعها وطبيعتها وعما إذا كانت معنية بالخضوع لقانون الصفقات أم أنّها غير معنية به، بحسب ما تقدّم معنا بالنسبة للتشريع الجزائري.
- المعيار الموضوعي:
ويقصد به أن يتعلق موضوع العقد بإدارة وتسيير مرفق عام. ويمكن تعريف المرفق العام على أنّه منظمة عامة تنشئها الدولة وتكون تحت إشرافها. أو أنّه نشاط تتولاه الإدارة ويستهدف النّفع العام. وهذا العنصر كما جاء في الفقه يجعلنا نطوف مرة أخرى حول الشرط العضوي في العقد الإداري كون الإدارة طرفا في العقد.
غير أنّ هذا الشرط على غاية من الأهمية اعتبارا من أنّ العقود الّتي تبرمها المرافق التجارية والصناعية لا يمكن اعتبارها عقودا إدارية بالرغم أنّها مرافق عامة .
- معيار إتباع وسيلة القانون العام:
لا يكفي أن تكون الإدارة طرفا في العقد لإضفاء الطابع الإداري عليه ومن ثمّ إخضاعه لقانون الصفقات العمومية وبالتّالي التصريح باختصاص القاضي الإداري بالفصل في المنازعة الناتجة عن هذا العقد. بل ينبغي أن تكشف جهة الإدارة عن رغبتها في استخدام وسيلة القانون العام عند تعاقدها.
إنّ الثابت والمؤكّد أنّ الدولة والولاية والبلدية والمؤسسة العامة ذات الطابع الإداري كلّها من أشخاص القانون العام. غير أنّها لا تخضع فقط للقانون العام، بل تخضع في بعض الحالات للقانون الخاص. ومرد خضوعها للقانون العام أم الخاص مبعثه الأسلوب المتبّع من جانب الإدارة في مباشرة النّشاط. فإن ضمنت عقدها شروطا استثنائية وغير مألوفة على صعيد القانون الخاص، كأن نصت في العقد على حقّها في الفسخ المنفرد أو التعديل المنفرد فإنّها عبّرت بهذه الشروط الاستثنائية عن نيتها في ممارسة آلية القانون العام وامتيازات السلطة العامة، بما ينبغي معه اعتبار الرابطة العقدية الّذي تجمعها بالطرف الآخر عقدا إداريا.
بل أكثر من ذلك حتى ولو لم يتضمن عقد الصفقة أي إشارة لأي سلطة من سلطات الإدارة كسلطة الفسخ مثلا ،فإن تنظيم الصفقات اعترف لها بممارسة هذه السلطة وإن لم يتضمن العقد إشارة إلى ذلك طالما اتبعت الإدارة المعنية إجراءات إبرام صفقة عمومية حسب التنظيم المعمول به.
إنّ الحكمة في استفادة وتمتّع جهة الإدارة بامتيازات القانون العام في مجال العقود الإدارية تعود بالأساس إلى اختلاف مكانة الأطراف بين العقد الإداري والعقد المدني .ففي القانون المدني الأصل أن يتمّ التعاقد بين طرفين متساويين يهدف كل منهما إلى تحقيق مصلحة شخصية. في حين أنّه وفي مجال القانون الإداري يتمّ التعاقد بين مصلحتين غير متساويتين، إدارة بوصفها سلطة عامة تهدف بتعاقدها إلى تحقيق نفع عام. ومتعاقد معها من الأفراد يستهدف بهذا التعاقد تحقيق نفع خاص.
ولمّا اختلف العقد الإداري من حيث الهدف من إبرامه عن العقد المدني، وجب أن تحكمه قواعد تتميّز عن هذا الأخير. بما يضمن لجهة الإدارة تحقيق هدفها من خلال الدخول في العلاقة العقدية. والشروط الاستثنائية أو غير المألوفة قد يتضمنها العقد نفسه فتحتويها بنود العقد وعندئذ تصبح شريعة للمتعاقدين كبنود العقد المدني وقد يتضمّنها دفتر الشروط. وقد ينص عليها القانون أو التنظيم كما هو الحال بالنسبة لقانون الصفقات العمومية الجزائري الّذي اعترف للإدارة بحق الفسخ المنفرد للصفقة حسبما بينته المادة 99 من المرسوم الرئاسي 02-250 المذكور.