قلت : هذه نقول الأئمة الأعلام التي تضمنت بالصراحة التي لا يتناطح عليها عنزان ، أن كتاب الإبانة ليس مدسوسًا على أبي الحسن الأشعري كما زعمه الأغمار من المقلدة ، بل هو من تواليفه التي ألفها أخيرًا واستقر أمره على ما فيها من عقيدة السلف التي جاء بها القرآن الكريم والسنة النبوية ، وبعد هذا رغبت أن أتحف القارئ بقطعةٍ من عقيدة هذا الإمام التي رجع إليها وذكرها في إبانته ، أذكرها بفصها ونصها ليظهر لكل منصفٍ قرأها يفهم أن أبا الحسن الأشعري تاب من التعطيل والتأويل ، كما أنه ليس بممثلٍ بل هو مثبتٌ ومعتقدٌ كل ما أخبر الله به عن نفسه في كتباه أو أخبر به عنه نبيه عليه الصلاة والسلام من غير تعطيلٍ ولا تأويلٍ ولا تمثيلٍ ، أقول : قال أبو الحسن الأشعري في إبانته بابٌ في إبانة قول أهل الحق والسنة : فإن قال لنا قائلٌ : قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون قيل له : قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها التمسك بكتاب ربنا عز وجل وسنة نبينا عليه السلام وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ، ونحن بذلك معتصمون وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون ، ولما خالف قوله مخالفون ، لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق ورفع به الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين فرحمة الله عليه من إمامٍ مقدمٍ وجليلٍ معظمٍ مفخمٍ .
وجملة قولنا : أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله بما جاؤوا به من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا نرد من ذلك شيئًا ، وأن الله عز وجل إلهٌ واحدٌ لا إله إلا هو فردٌ صمدٌ لم يتخذ صاحبةً ولا ولدًا ، وأن محمدًا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ، وأن الساعة آتيةٌ لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور ، وأن الله مستوٍ على عرشه كما قال : " الرحمن على العرش استوى " ، وأن له وجهًا كما قال : " ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام " ، وأن له يدين بلا كيفٍ كما قال : " لما خلقت بيدي " ، وكما قال : " بل يداه مبسوطتان " وأن له عينين بلا كيفٍ كما قال : " تجري بأعيننا " ، وأن من زعم أن أسماء الله غيره كان ضالاًّ ، وأن لله علمًا كما قال : " أنزله بعلمه " ، وكما قال : " وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه " ، ونثبت لله السمع والبصر ، ولا ننفي ذلك كما نفته المعتزلة والجهمية والخوارج ، ونثبت أن لله قوةً كما قال :" أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوةً " ، ونقول : إن كلام الله غير مخلوقٍ ، وأنه لم يخلق شيئًا إلا وقد قال له : كن كما قال : " إنما قولنا لشيءٍ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون " وأنه لا يكون في الأرض شيءٌ من خيرٍ وشرٍ إلا ما شاء الله ، وأن الأشياء تكون بمشيئة الله عز وجل ، وأن أحدًا لا يستطيع أن يفعل شيئًا قبل أن يفعله ، ولا يستغني عن الله ، ولا يقدر على الخروج عن علم الله عز وجل ، وأنه لا خالق إلا الله ، وأن أعمال العبد مخلوقةٌ لله مقدرةٌ كما قال : " خلقكم وما تعملون " ، وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئًا وهم يخلقون كما قال : " هل من خالقٍ غير الله : " وكما قال: " لا يخلقون شيئًا وهم يخلقون " وكما قال : " أفمن يخلق كمن لا يخلق " ، وكما قال :" أم خلقوا من غير شيءٍ أم هم الخالقون " .
وهذا في كتاب الله كثيرٌ ، وأن الله وفق المؤمنين لطاعته ولطف بهم ونظر لهم وأصلحهم وهداهم ، وأضل الكافرين ولم يهدهم ولم يلطف بهم بالآيات كما زعم أهل الزيغ والطغيان ، ولو لطف بهم وأصلحهم لكانوا صالحين ، ولو هداهم لكانوا مهتدين ، وأن الله يقدر أن يصلح الكافرين ويلطف بهم حتى يكونوا مؤمنين ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم وخذلهم وطبع على قلوبهم ، وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره ، وإنا نؤمن بقضاء الله وقدره خيره وشره حلوه ومره ، ونعلم أن ما أخطأنا لم يكن ليصيبنا وأن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا ، وأن العباد لا يملكون لأنفسهم ضرًّا ولا نفعًا إلا بالله كما قال عز وجل ، ونلجئ أمورنا إلى الله ، ونثبت الحاجة والفقر في كل وقتٍ إليه ، ونقول إن كلام الله غير مخلوقٍ ، وأن من قال بخلق القرآن فهو كافرٌ ، وندين بأن الله تعالى يُرى في الآخرة بالأبصار كما يُرى القمر ليلة البدر يراه المؤمنون ، كما جاءت الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونقول : إن كافرين محجوبون عنه إذا رآه المؤمنون في الجنة ، كما قال عز وجل : " كلا إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون " ، وأن موسى عليه السلام سأل الله عز وجل الرؤية في الدنيا ، وندين بأن لا نكفر أحدًا من القبلة بذنبٍ يرتكبه كالزنى والسرقة وشرب الخمر ، كما دانت بذلك الخوارج وزعمت أنهم كافرون ، ونقول إن من عمل كبيرةً من هذه الكبائر مثل الزنى والسرقة وما أشبههما مستحلا لها غير معتقدٍ لتحريمها كان كافرًا ، ونقول إن الإسلام أوسع من الإيمان وليس كل إسلامٍ إيمانٌ ، وندين الله عز وجل بأنه يقلب القلوب بين أصبعين من أصابع الله عز وجل وأنه عز وجل يضع السماوات على أصبع والأرضين على أصبع ، كما جاءت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وندين بأن لا ننزل أحدًا من أهل التوحيد والمتمسكين بالإيمان جنةً ولا نارًا إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ، ونرجوا الجنة للمذنبين ونخاف عليهم أن يكونوا بالنار معذبين ، ونقول إن الله عز وجل يخرج قومًا من النار بعد أن امتحشوا بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم تصديقًا لما جاءت به الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونؤمن بعذاب القبر وبالحوض وأن الميزان حقٌّ والصراط حقٌّ والبعث بعد الموت حقٌّ ، وأن الله عز وجل يوقف العباد في الموقف ويحاسب المؤمنين ، وأن الإيمان قولٌ وعملٌ يزيد وينقص ، ونسلم الروايات الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقات عدلٌ عن عدلٍ حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وندين بحب السلف الذين اختارهم الله عز وجل لصحبة نبيه عليه السلام ، ونثني عليهم بما أثنى الله به عليهم ونتولاهم أجمعين ، ونقول إن الإمام الفاضل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكرٍ الصديق رضوان الله عليه وإن الله أعز به الدين وأظهره على المرتدين ، وقدمه المسلمون بالإمامة كما قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة ، وسموه أجمعهم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم عثمان بن عفان رضي الله عنه وإن الذين قاتلوه قاتلوه ظلمًا وعدوانًا ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فهؤلاء الأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافتهم خلافة النبوة ، ونشهد بالجنة للعشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بها ، ونتولى سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ونكف عما شجر بينهم ، وندين الله بأن الأئمة الأربع خلفاء راشدون مهديون فضلاً لا يوازيهم في الفضل غيرهم ، ونصدق بجميع الروايات التي يثبتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا ، وأن الرب عز وجل يقول : هل من سائلٍ هل من مستغفرٍ وبسائر ما نقلوه وأثبتوه ، خلافًا لما قال أهل الزيغ والتضليل ، ونعول فيما اختلفنا فيه على كتاب ربنا وسنة نبينا وإجماع المسلمين وما كان في معناه ، ولا نبتدع في دين الله ما لم يأذن لنا ، ولا نقول على الله ما لا نعلم ، ونقول إن الله عز وجل يجيء يوم القيامة كما قال : " وجاء ربك والملك صفًّا صفًّا " وأن الله عز وجل يقرب من عباده كيف شاء كما قال : " ونحن أقرب إليه من حبل الوريد " وكما قال : " ثم دنا فتدلى . فكان قاب قوسين أو أدنى " ومن ديننا أن نصلي الجمعة والأعياد وسائر الصلوات والجماعات خلف كل برٍّ وغبره كما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يصلي خلف الحجاج وأن المسح على الخفين سنةٌ في الحضر والسفر خلاف لمن أنكر ذلك ، ونرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح والإقرار بإمامتهم ، وتضليل من رأى الخروج عليهم إذا ظهر منهم ترك الاستقامة ، وندين بإنكار الخروج بالسيف وترك القتال في الفتنة ، ونقرّ بخروج الدجال كما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونؤمن بعذاب القبر ونكير ومنكر ومسائلتهما المدفونين بقبورهم ، ونصدق بحديث المعراج ، ونصحح كثيرًا من الرؤيا في المنام ، ونقر أن لذلك تفسيرًا ، ونرى الصدقة عن موتى المسلمين والدعاء لهم ، ونؤمن أن الله ينفعهم بذلك ونصدق بأن في الدنيا سحرةً وسحرًا وأن السحر كائنٌ موجودٌ في الدنيا ، وندين بالصلاة على من مات من أهل القبلة برهم وفاجرهم وتوارتهم ، ونقر أن الجنة والنار مخلوقتان وأن من مات وقتل فبأجله مات وقتل ، وأن الأرزاق من قبل الله يرزقها عباده حلالاً وحرامًا ، وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويسلكه ويتخبطه خلافًا لقول المعتزلة الجهمية كما قال الله عز وجل : " الذين يأكلون الربى لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " وكما قال : " من شر الوسواس الخناس . الذي يوسوس في صدور الناس . من الجنة والناس " آونقول إن الصالحين يجوز أن يخصهم الله عز وجل بآياتٍ يظهرها عليهم ، وقولنا في أطفال المشركين أن الله يؤجج لهم في الآخرة نارًا ثم يقول لهم : اقتحموها كما جاءت بذلك الرواية ، وندين الله عز وجل بأنه يعلم ما العباد عاملون وإلى ما هم صائرون وما كان وما يكون وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون ، وبطاعة الأئمة ونصيحة المسلمين ، ونرى مفارقة كل داعيةٍ إلى بدعته ومجانبة أهل الهوى . انتهى بحروفه.
هذا مجمل عقيدة الإمام أبي الحسن الأشعري التي استقر أمره عليها بعد أن أقام على مذهب الاعتزال أربعين عامًا .
ذكره في أول كتابه الإبانة وفصله بابًا بابًا ، فراجعها إن شئت تجد ما يشفي ويكفي .
فتأمل أيها الأخ المنصف هذه العقيدة ما أوضحها وأبينها ، واعترف بفضل هذا الإمام العالم الذي شرحها وبيّنها ، وانظر سهولة لفظها فما أفصحه وأحسنه ، وكن ممن قال الله فيهم : " الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه " وتبين فضل أبي الحسن الأشعري واعرف إنصافه واسمع وصفه للإمام أحمد بن حنبل بالفضل لتعلم أنهما كانا في الاعتقاد متفقين وفي أصول الدين ومذهب السنة غير مفترقين .
ولعمري إن هذه العقيدة ينبغي لكل مسلمٍ أن يعتقدها ، ولا يخرج عن شيءٍ منها إلا من في قلبه غشٌ ونكدٌ .
نسأل الله تعالى الثبات عليها ونستودعها عند من لا تضيع عنده وديعةٌ ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ معلم الخيرات ، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومٍ تجزى فيه الحسنات .
حماد بن محمد الأنصاري