وبعد إتمام هذا البحث حول رجوعه عن الاعتزال نقرأ بحثًا ثانيًا في صحة نسبة " الإبانة في أصول الديانة إليه " ، ردًّا على بعض الأغمار الذين زعموا أنها مدسوسةً عليه ، وهذا هو بيت القصيد فنقول و بالله نستعين :
ثبوت نسبة الإبانة إلى أبي الحسن الأشعري والرد على من أنكر ذلك وزعم أنها مدسوسةً .
وقبل البحث في صحة نسبة هذا الكتاب إلى أبي الحسن الأشعري نذكر نبذةً قليلةً من تواليفه التي ألفها بعد توبته من الاعتزال ، فنقول : قال الحافظ ابن عساكر في كتابه " تبيين كذب المفتري " : ذكر ابن حزم الظاهري أن لأبي الحسن الأشعري خمسةً وخمسين تصنيفًا ، ثم قال : ترك ابن حزم من عدد مصنفاته أكثر من مقدار النصف ، وبعد ذلك سردها فقال : منها كتاب اللمع ، وكتابٌ أظهر فيه عوار المعتزلة سماه بكتاب " كشف الأسرار وهتك الأستار " ، ومنها تفسيره "المختزن " وهو خمسمائة مجلدٍ ، لم يترك فيه آيةً تعلق بها بدعيٌّ إلا أبطل تعلقه بها وجعلها حجةً لأهل الحق وبيّن المجمل وشرح المشكل ونقض فيه ما حرّفه الجبائي والبلخي في تفسيريهما ، ومنها الفصول في الرد على الملحدين والخارجين على الملة كالفلاسفة والطبائعيين والدهريين وأهل التشبيه ، ومنها مقالات المسلمين استوعب فيه جميع اختلافهم ومقالاتهم ، وذكرها الحافظ ابن عساكر بأسمائها وموضوعاتها في كتابه " التبيين " من صفحة 128 إلى صفحة 136 ، وقد أطلعت أنا الجامع لهذه الرسالة على ثلاثةٍ من الكتب المذكورة وهي مطبوعة : اللمع والإبانة والمقالات الإسلامية ، وقال ابن عساكر في صفحة 28 من التبيين : وتصانيف أبي الحسن الأشعري بين أهل العلم مشهورةٌ معروفةٌ وبالإجادة والإصابة للتحقيق عند المحققين موصوفةٌ ، ومن وقف على كتابه المسمى بالإبانة عرف موضعه من العلم والديانة .
ثم قال في صفحة 152 : فإذا كان أبو الحسن كما ذكر عنه من حسن الاعتقاد مستصوب المذهب عند أهل المعرفة بالعلم والانتقاد يوافقه في أكثر ما يذهب إليه أكابر العباد ، ولا يقدح في معتقده غير أهل الجهل والعناد ، فلا بد من أن نحكي عنه معتقده على وجهه بالأمانة ، ونتجنب أن نزيد فيه أو ننقص منه تركًا للخيانة ، لتعلم حقيقة حاله في صحة عقيدته في أصول الديانة ، فاسمع ما ذكره في أول كتابه الذي سماه بالإبانة ، ونذكر ما يأتي في آخر الرسالة إن شاء الله تعالى .
ثم قال في صفحة 171 في جملة أبياتٍ نسبها لبعض المعاصرين له :
لو لم يصنف عمره ***** غير الإبانة واللمع
لكفى فكيف وقد *** نفنن في العلوم بما جمع
مجموعةً تربي على المئتـ ** ين مما قد صنع
لم يأل في تصنيفها ***أخذًا بأحسن ما استمع
فهدى بها المسترشد *** ين ومن تصفحها انتفع
تتلى معاني كتبه ****فوق المنابر في الجمع
ويخاف من إفحامه ***** أهل الكنائس والبيع
فهو الشجا في حلق من ***ترك المحجة وابتدع
وممن عزا الإبانة إلى أبي الحسن الأشعري الحافظ الكبير أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البهيقي الشافعي المتوفى في سنة 458هـ ، قال في كتاب " الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد " في باب القول في القرآن صفحة 31 : ذكر الشافعي رحمه الله ما دل على أن ما نتلوه من القرآن بألسنتنا نسمعه بآذاننا ونكتبه بمصاحفنا يسمى كلام الله عز وجل ، وإن الله عز وجل كلم به عباده بأن أرسل به رسوله صلى الله عليه و سلم ، و بمعناه ذكره أيضًا علي بن إسماعيل في كتاب " الإبانة " .
وقال في صفحة 32 من الكتاب المذكور آنفًا : قال أبو الحسن علي بن إسماعيل في كتابه يعني الإبانة : فإن قال قائلٌ حدثونا أتقولون : إن كلام الله عز وجل في اللوح المحفوظ قيل له : نقول ذلك ، لأن الله قال : " بل هو قرآنٌ مجيدٌ . في لوحٍ محفوظٍ " فالقرآن في اللوح المحفوظ وهو في صدور الذين أوتوا العلم وهو متلوٌّ بالألسنة ، قال تعالى : " لا تحرك به لسانك " والقرآن مكتوبٌ في مصاحفنا في الحقيقة محفوظٌ في صدورنا في الحقيقة متلوٌّ بألسنتنا في الحقيقة مسموعٌ لنا في الحقيقة كما قال تعالى : " فأجره حتى يسمع كلام الله " .
ثم قال في صفحة 26 بعد سرد الأدلة عل أن القرآن كلام الله غير مخلوقِ : وقد احتج علي ابن إسماعيل الأشعري رحمه الله بهذه الفصول . أ هـ من نسخةِ مخطوطةِ يرجع تاريخ خطها إلى سنة 1086هـ .
وممن ذكر الإبانة وعزاها لأبي الحسن الأشعري ، الحافظ المعروف بالذهبي قال في كتابه " العلو للعلي الغفار " صفحة 278 ، قال الأشعري في كتاب " الإبانة في أصول الديانة " له في باب الاستواء : فإن قال قائلٌ : ما تقولون في الاستواء قيل : نقول إن الله مستوٍ على عرشه كما قال : " الرحمن على العرش استوى " إلى آخر ما في الإبانة .
ثم قال : وكتاب الإبانة من أشهر تصانيف أبي الحسن الأشعري ، شهره الحافظ ابن عساكر واعتمد عليه ونسخه بخط الإمام محيي الدين النووي ، وذكر الذهبي عن الحافظ أبي العباس أحمد بن ثابت الطرقي أنه قال : قرأت في كتاب أبي الحسن الأشعري الموسوم بالإبانة أدلةً على إثبات الاستواء ، ونقل عن أبي علي الدقاق أنه سمع زاهر بن أحمد الفقيه يقول : مات الأشعري رحمه الله ورأسه في حجري فكان يقول شيئًا في حال نزعه : لعن الله المعتزلة موهوا ومخرقوا . ا هـ كلام الذهبي .
وممن نسبها إلى أبي الحسن الأشعري ابن فرحان المالكي ، قال في كتابه "الديباج " صفحة 193 إلى صفحة 194 : ولأبي الحسن الأشعري كتبٌ منها كتاب اللمع الكبير وكتاب اللمع الصغير وكتاب الإبانة في أصول الديانة . أ هـ .
وممن عزاها لأبي الحسن الأشعري أبو الفلاح عبد الحي بن العماد الحنبلي المتوفى سنة 1089هـ ، قال في الجزء الثاني من كتابه " شذرات الذهب في أعيان من ذهب " صفحة 303 : قال أبو الحسن الأشعري في كتابه الإبانة في أصول الديانة ، وهو آخر كتابٍ صنفه : وعليه يعتمد أصحابه في الذبّ عنه عند من يطعن عليه ، ثم ذكر فصلاً كاملاً من الإبانة .
و ممن عزاها لأبي الحسن الأشعري السيد مرتضى الزبيدي ، قال في " إتحاف السادة المتقين بشرح أسرار إحياء علوم الدين " في الجزء الثاني صفحة 2 قال : صنف أبو الحسن الأشعري بعد رجوعه من الاعتزال الموجز ، وهو في ثلاث مجلداتٍ كتابٌ مفيدٌ في الرد على الجهمية والمعتزلة ومقالات الإسلاميين وكتاب الإبانة .
وقد تقدم حكايةً عن ابن كثير أن الإبانة هي آخر كتابٍ صنفه أبو الحسن الأشعري ، وممن ذكر أن الإبانة تأليف أبي الحسن الأشعري : أبو القاسم عبد الملك بن عيسى بن درباس الشافعي ، قال في رسالته " الذب عن أبي الحسن الأشعري " : اعلموا معشر الإخوان أن كتاب الإبانة عن أصول الديانة الذي ألفه الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري هو الذي استقر عليه أمره فيما كان يعتقده ، وبه كان يدين الله سبحانه وتعالى بعد رجوعه من الاعتزال بمنّ الله ولطفه ، و كل مقالةٍ تنسب إليه الآن مما يخالف ما فيه فقد رجع عنها وتبرأ إلى الله سبحانه منها ، وكيف وقد نص فيه على أن ديانته التي يدين الله سبحانه بها ، وروى وأثبت أنه ديانة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث الماضين ، وقول أحمد بن حنبل رضي الله عنهم أجمعين ، وأن ما فيه هو الذي يد ل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فهل يسوغ أن يقال : إنه رجع عن هذا إلى غيره ، فإلى ماذا يرجع أتراه يرجع عن كتاب الله وسنة نبي الله خلاف ما كان عليه الصحابة والتابعون وأئمة الحديث المرضيون ، وقد علم أنه مذهبهم ورواه عنهم ؟ ! .
هذا لعمري ما لا يليق نسبته إلى عوام المسلين ، وكيف بأئمة الدين ، أو هل يقال : إنه جهل الأمر فيما نقله عن السلف الماضين مع إفنائه جُلّ عمره في استقراء المذاهب وتعرف الديانات ، هذا مما لا يتوهمه منصفٌ ولا يزعمه إلا مكابرٌ مسرفٌ.
وقد ذكر الإبانة واعتمد عليها وأثبتها عن الإمام أبي الحسن الأشعري وأثنى عليه بما ذكره فيها وبرّأه من كل بدعةٍ نسبت إليه ، ونقل منها إلى تصنيفه جماعةٌ من الأئمة الأعلام من فقهاء الإسلام وأئمة القراء وحفاظ الحديث وغيرهم .
وذكر ابن درباس طائفةً من الذين قدمنا ذكرهم ، وزاد الحافظ أبا العباس أحمد بن ثابت العراقي ، وذكر عنه أنه قال في بيان مسألة الاستواء من تأليفه : رأيت هؤلاء الجهمية ينتمون في نفي علو الله على العرش وتأويل الاستواء إلى أبي الحسن الأشعري ، وما هذا بأول باطلٍ ادعوه وكذبٍ تعاطوه ، فقد قرأت في كتابه الموسوم بالإبانة عن أصول الديانة أدلةً من جملة ما ذكرته على إثبات الاستواء ومنهم الإمام الأستاذ الحافظ أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد الصابوني ، ذكر عنه أنه ما كان يخرج إلى مجلس درسه إلا بيده كتاب الإبانة لأبي الحسن الأشعري ويظهر الإعجاب بها ، ويقول : ما الذي ينكر عليّ من هذا الكتاب شرح مذهبه ، هذا قول الإمام أبي عثمان وهو من أعيان أهل الأثر بخراسان ، ومنهم إمام القراء أبو علي الحسن بن علي بن إبراهيم الفارسي ذكر الإمام
أبا الحسن الأشعري رحمة الله عليه فقال : وله كتابٌ في السنة سماه كتاب الإبانة صنفه ببغداد لما دخلها ، و ذكر ابن درباس أنه وجد كتاب الإبانة في كتب أبي الفتح نصر المقدسي رحمه الله ببيت المقدس ، وقال : رأيت في بعض تأليفه أصولاً منها بخطه .
ومنهم الفقيه أبو المعالي مجلى صاحب كتاب الذخائر في الفقه ، قال ابن درباس : أنبأني غير واحدٍ عن الحافظ أبي محمد المبارك بن علي البغدادي ، ونقلته أنا من خطه في آخر كتاب الإبانة ، قال : نقلت هذا الكتاب جميعه من نسخةٍ كانت مع الشيخ الفقيه مجلى الشافعي ، أخرجها في مجلدةٍ فنقلتها وعارضت بها ، وكان رحمه الله يعتمد عليها وعلى ما ذكره فيها ، ويقول : لله من صنفه ، ويناظر على ذلك من ينكره ، وذكر ذلك لي وشافني به وقال : هذا مذهبي وإليه أذهب ، نقلت هذا في سنة 540 هـ بمكة ، وهذا آخر ما نقلت من خط ابن الطباخ ، وذكر فيمن عزاها إلى أبي الحسن أبا محمد بن علي البغدادي نزيل مكة ، قال ابن درباس : شاهدت نسخةً من كتاب " الإبانة " بخطه من أوله إلى آخره ، وهي بيد شيخنا الإمام رئيس العلماء الفقيه الحافظ العلامة أبي الحسن بن المفضل المقدسي ، ونسخت منها نسخةً وقابلتها عليها بعد أن كنت كتبت نسخةً أخرى مما وجدته في كتاب الإمام نصر المقدسي ببيت المقدس ، ولقد عرضها بعض أصحابنا على عظيمٍ من عظماء الجهمية المنتمين افتراءً إلى أبي السحن الأشعري ببيت المقدس فأنكرها وجحدها وقال : ما سمعنا بها قط ولا هي من تصنيفه واجتهد آخرًا في إعمال رويته ليزيل الشبهة بفطنته فقال بعد تحريك لحيته : لعله ألفها لما كان حشويًّا ، قال ابن درباس : فما دريت من أي أمرٍ به أعجب أمن جهله بالكتاب مع شهرته وكثرة من ذكره في تصانيفه من العلماء ، أو من جهله بحال شيخه الذي يفتري عليه بانتمائه إليه واشتهاره قبل توبته من الاعتزال بين الأمة عالمها وجاهلها ، فإذا كانوا بحال من ينتمون إليه بهذه المثابة ، فكيف يكونون بحال السلف الماضين وأئمة الدين من الصحابة والتابعين وأعلام الفقهاء والمحدثين وهم لا يلوون على كتبهم ولا ينظرون في آثارهم ، وهم والله بذلك أجهل وأجهل كيف لا وقد قنع بعض من ينتمي منهم إلى أبي الحسن الأشعري بمجرد دعواه ، وهو في الحقيقة مخالفٌ لمقالة أبي الحسن التي رجع إليها واعتمد في تدينه عليها ، قد ذهب صاحب التأليف إلى المقالة الأولى وكان خلاف ذلك أحرى به وأولى لتستمر القاعدة وتصير الكلمة واحده ، انتهى كلام ابن درباس رحمه الله .
وممن ذكر الإبانة ونسبها إلى أبي الحسن الأشعري تقي الذدن أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام الشهير بابن تيمية ، المتوفى سنة 728هـ قال في الفتوى الحموية الكبرى صفحة 72 : قال أبو الحسن الأشعري في كتابه الذي سماه " الإبانة في أصول الديانة " : وقد ذكر أصحابه أنه آخر كتابٍ صنفه ، وعليه يعتمدون في الذب عنه عند من يطعن عليه ، فقال : فصلٌ في إبانة قول أهل الحق والسنة ، وذكر ما في أول كتاب الإبانة بحروفه ، وسيأتي ذكره إن شاء الله قريبًا .
وممن عزاها إلى أبي الحسن الأشعري شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي ، المعروف بابن قيم الجوزية الحنبلي الدمشقي المتوفى سنة 751هـ ، قال في كتابه " اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية " الطبعة الهندية صفحة 111 : قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ولما رجع الأشعري من مذهب المعتزلة سلك طريق أهل السنة والحديث وانتسب إلى الإمام أحمد بن حنبل ، كما قد ذكر ذلك في كتبه كلها كالإبانة والموجز والمقالات وغيرها .
ثم قال ابن القيم : وأبو الحسن الأشعري وأئمة أصحابه كالحسن الطبري وأبي عبد الله بن المجاهد والقاضي أبي عبد الله بن المجاهد والقاضي أبي بكر الباقلاني ، متفقون على إثبات الصفات الخبرية التي ذكرت في القرآن كالاستواء والوجه واليدين ، وعلى إبطال تأويلها وليس للأشعري في ذلك ولأبي المعالي الجويني في تأويلها قولان أولها : في الإرشاد ورجع عن تأوليها في رسالته النظامية وحرمه ، ونقل إجماع السلف على تحريمه وأنه ليس بواجبٍ ولا جائزٍ ، ثم ذكر ابن القيم قول أبي الحسن الأشعري إمام الطائفة الأشعرية ، ثم قال : نذكر كلامه فيما وقفنا عليه من كتبه كالموجز والإبانة والمقالات ، وقال ابن القيم في قصيدته النونية التي سماها الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية الطبعة المصرية صفحة 68 : والأشعري قال تفسير استوى بحقيقة استولى من بهتان :
هو قول أهل الاعتزال وقول أتـ ***باع لجهم وهو ذو بطلان
في كتبه قد قال ذا من موجز ****وإبانة ومقالة ببيان
وقال في صفحة 69 من الكتاب المذكور آنفًا :
وحكى ابن عبد البر في تمهيده *** وكتاب الاستذكار غير جبان
إجماع أهل العلم أن الله فو **** ق العرش بالإيضاح والبرهان
وأتى هناك بما شفى أهل الهدى *** لكنه مرض على العميان
وكذا علي الأشعري فإنه **** في كتبه قد جاء بالتبيان
من مؤجز وإبانة ومقالة **** ورسائل للثغر ذات بيان
وأتى بتقرير استواء الرب فو *** ق العرش بالايضاح والبرهان
وأتى بتقرير العلو بأحسن التقر *** ير فأنظر كبته بعيان . انتهى