بلاد الأندلس واستيراد النصر وقفة عابرة
لقد تعودت بلاد الأندلس استيراد النصر من خارجها كانت هذه مقولة ملموسة طيلة العهود السابقة لبلاد الأندلس، فلقد ظلت لأكثر من مائتي عام تستورد النصر من خارج أراضيها، فمرة من المرابطين، وأخرى من الموحدين، وثالثة كانت من بني مارين وهكذا، فلا تكاد تقوم للمسلمين قائمة في بلاد الأندلس إلا على أكتاف غيرهم من بلاد المغرب العربي وما حولها.
ومن الطبيعي ألا يستقيم الأمر لتلك البلاد التي تقوم على أكتاف غيرها أبدا، وأبدا لا تستكمل النصر، وأبدا لا تستحق الحياة، لا يستقيم أبدا أن تنفق الأموال الضخمة في بناء القصور في غرناطة مثل قصر الحمراء الذي يعد من أعظم قصور الأندلس ليحكم منها ابن الأحمر أوغيره وهو في هذه المحاصرة من جيوش النصارى، ثم يأتي غيره ومن خارج الأندلس ليدافع عن هذه البلاد وتلك القصور.
ولا يستقيم أبدا لابن الأحمر أن يُنشئ الجنان الكثيرة (أكثر من ثلاثمائة حديقة ضخمة في غرناطة، وكان يطلق على كل حديقة منها اسم (جنّة) لسعتها وكثرة الثمار والأشجار فيها) وينفق كل هذا الإنفاق والبلاد في حالة حرب مع النصارى، ثم حين يأتي وقت الجهاد يذهب ويستعين بالمجاهدين من البلاد المجاورة.
وعلى كلٍ فقد أتى بنو مارين كما ذكرنا واستطاعوا أن يردوا الهجوم عن غرناطة، وحفظها الله من السقوط المدوي
وفاة محمد الأول وولاية محمد الفقيه
في ذات العام الذي رُدّ فيه جيش النصارى، وفي سنة إحدى وسبعين وستمائة يموت محمد بن الأحمر الأول وقد قارب الثمانين من عمره، وقد استخلف على الحكم ابنه، ومثل اسمه واسم معظم أمراء بني الأحمر كان اسم ابنه هذا محمد، فكان هو محمد بن محمد بن يوسف بن الأحمر، وكانوا يلقبونه بالفقيه؛ لأنه كان صاحب علم غزير وفقه عميق.
لما تولى محمد الفقيه الأمور في غرناطة نظر إلى حال البلاد فوجد أن قوة المسلمين في بلاد الأندلس لن تستطيع أن تبقى صامدة في مواجهة قوة النصارى، هذا بالإضافة إلى أن ألفونسو العاشر حين مات ابن الأحمر الأول ظن أن البلاد قد تهاوت، فما كان منه إلا أن أسرع بالمخالفة من جديد وبالهجوم على أطراف غرناطة، ما كان أيضا من محمد الفقيه إلا أن استعان بيعقوب المنصور الماريني رحمه الله.
وفي سنة ثلاث وسبعين وستمائة من الهجرة يجهز المنصور جيشا قوامه خمسة آلاف رجل فقط، ويضع نفسه على رأسه، ويعبر به إلى بلاد الأندلس حتى يساعد محمد الفقيه في حربه ضد النصارى.
وهناك وفي مكان خارج غرناطة وبالقرب من قرطبة يلتقي المسلمون مع النصارى، المسلمون تعدادهم عشرة آلاف مقاتل فقط، خمسة آلاف من جيش بني مارين، ومثلهم من جيش غرناطة، وفي مقابلتهم تسعون ألفا من النصارى، وعلى رأسهم واحد من أكبر قواد مملكة قشتالة يدعى دون نونيو دي لارى ( تعمدنا ذكر اسمه لأن الموقعة التي دارت بين المسلمين والنصارى في هذا المكان عُرفت بموقعة الدونونيّة؛ نسبة إلى اسمه).
موقعة الدونونيّة ونصر مؤزر
في سنة أربع وسبعين وستمائة من الهجرة تقع موقعة الدونونية، وكان على رأس جيوش المسلمين المنصور الماريني رحمه الله، وقد أخذ يحفز الناس بنفسه على القتال، وكان مما قاله في خطبته الشهيره في تحفيز جنده في هذه الموقعة
، ألا وإن الجنة قد فتحت لكم أبوابها، وزينت حورها وأترابها، فبادروا إليها وجِدُّوا في طلبها، وابذلوا النفوس في أثمانها، ألا وإنّ الجنّة تحت ظلال السيوف [إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ] {التوبة111} . فاغتنموا هذه التجارة الرابحة، وسارعوا إلى الجنة بالأعمال الصالحة؛ فمن مات منكم مات شهيدا، ومن عاش رجع إلى أهله سالما غانما مأجورا حميدا، فـ [اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] {آل عمران200} .
كان من جراء هذا أن عانق الناس بعضهم بعضا للوداع، وبكوا جميعا،
وبهؤلاء الرجال الذين أتوا من بلاد المغرب، وبهذه القيادة الربانية، وبهذا العدد الذي لم يتجاوز العشرة آلاف مقاتل حقق المسلمون انتصارا باهرا وعظيما، وقتل من النصارى ستة آلاف مقاتل، وتم أسر ثمانية آلاف آخرون، وقتل دون نونيو قائد قشتاله في هذه الموقعة، وقد غنم المسلمون غنائم لا تحصى، وما انتصر المسلمون منذ موقعة الأرك في سنة إحدى وتسعين وخمسمائة من الهجرة إلا في هذه الموقعة، موقعة الدونونية في