بسم الله الرحمن الرحيم
تابع
[align=right]* قول الحافظ ابن حجر العسقلاني:
قال - رحمه الله تعالى - (الفتح 6 / 158): (ولا يلزم من كون جهتي العلو والسفل محال على الله أن لا يوصف بالعلو، لأن وصفه بالعلو، من جهة المعنى، والمستحيل كون ذلك من جهة الحس) اهـ.
وقال - أيضاً - معلقاً على حديث "إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه أو إن ربه بينه وبين القبلة فلا يبزقن أحدكم قبل قبلته ":
(وفيه رد على من زعم أنه - تعالى - على العرش بذاته) اهـ (الفتح 1 /508).
وقال أيضاً منزهاً لله تعالى عن الجهة والمكان عند كلامه على حديث " لا شخص أغير من الله " (الفتح 13 / 413):
(وكأن لفظ الشخص أطلق مبالغة في إثبات إيمان من يتعذر على فهمه موجود لا يشبه شيئاً من الموجـودات، لئلا يفضي به إلى النفي والتعطيـل، وهو نحو قولـه ‘ للجارية " أين الله " قالت: " في السماء "، فحكم بإيمانها مخافة أن تقع في التعطيل لقصور فهمها عمّا ينبغي له من تنزيهـه مما يقتضـي التشبيـه تعـالى الله عن ذلك علوّا كبيراً) اهـ.
وقال أيضاً ناقلاً قول ابن بطال مؤيداً له (الفتح 13/397):
(والله منزه عن الحلول في المواضع، لأن الحلول عرض يفنى، وهو حادث، والحادث لا يليق بالله.) اهـ.
وقال في شرحه لحديث النزول (الفتح 3 / 37):
(استدل به من أثبت الجهة وقال: هي جهة العلوّ، وأنكر ذلك الجمهور، لأن القول بذلك يفضي إلى التحيز تعالى الله عن ذلك. وقد اختلف في معنى النزول على أقوال:
فمنهم من حمله على ظاهره وحقيقته وهم المشبهة، تعالى الله عن قولهم.
ومنهم من أنكر صحة الأحاديث الواردة في ذلك جملة، وهم الخوارج والمعتزلة، وهو مكابرة...
ومنهم من أجراه على ما ورد مؤمناً به على طريق الإجمال منزهاً الله تعالى عن الكيفية والتشبيه وهم جمهور السلف، ونقله البيهقي وغيره عن الأئمة الأربعة والسفيانين والحمّادين والأوزاعي والليث وغيرهم.
ومنهم من أوّله على وجه يليق مستعمل في كلام العرب... ومنهم من فصل بين ما يكون تأويله قريباً مستعملاً في كلام العرب وبين ما يكون بعيداً مهجوراً، فأوّل في بعض وفوّض في بعض، وهو منقول عن مالك وجزم به من المتأخرين ابن دقيق العيد)’اهـ.
* قول الإمام ابن الجوزي:
قال - رحمه الله تعالى - (دفع شبه التشبيه. ص / 136):
(اعلم أن كل من يَتصور وجود الحق سبحانه وجوداً مكانياً طَلَبَ له جهة، كما أن من تخيل أن وجوده وجود زماني طلب له مدة في تقدمه على العالم بأزمنة، وكلا التخيلين باطل.
وقد ثبت أن جميع الجهات تتساوى بالإضافة إلى القائل بالجهة، فاختصاصه ببعضها ليس بواجب لذاته، بل هو جائز فيحتاج إلى مخصص يخصصه ويكون الاختصاص بذلك المعنى زائداً على ذاته وما تطرق الجواز إليه استحال قدمه، لأن القديم هو الواجب الوجود من جميع الجهات، ثم إن كل من هو في جهة يكون مقدّراً محدوداً وهو يتعالى عن ذلك، وإنما الجهات للجواهر والأجسام لأنها أجرام تحتاج إلى جهة، والجهة ليست في جهة، وإذا ثبت بطلان الجهة ثبت بطلان المكان، ويوضحه أن المكان يحيط بمن فيه والخالق لا يحويه شيء ولا تحدث له صفة) اهـ.
وقوله رحمه الله تعالى (والجهة ليست في جهة) أراد أن يردّ فيه زعم الزاعم: لا يُتَعقَّل موجود ليس في جهة. توصّلاً بهذا إلى إثبات الجهة لله تعالى، إذ الجهة موجودة عند هذا الزاعم وهي ليست في جهة من نفسها، إذ لو كانت كذلك لتسلسل الأمر إلى غير نهاية، وهذا باطل، فثبت أن الجهة موجودة بلا جهة، وبه ينتقض زعمهم: لا يُتَعقَّل موجود ليس في جهة من الجهات.
وقال القاضي أبو يعلى (دفع شبه التشبيه 137):
(إن الله عزّ وجلّ لا يوصف بالمكان) اهـ.
قال الإمام ابن الجوزي بعد نقله لقول أبي يعلى الفراء (دفع شبه التشبيه 138):
(فإن قيل: نفي الجهات يحيل وجوده. قلنا: إن كان الموجود يقبل الاتصال والانفصال فقد صدقت، فأمّا إذا لم يقبلهما فليس خلوّه من طرف النقيض بمحال.
فإن قيل: أنتم تلزموننا أن نقرّ بما لا يدخل تحت الفهم. قلنا: إن أردت بالفهم التخيل والتصور فإن الخالق لا يدخل تحت ذلك، إذ ليس يحس ولا يدخل تحت ذلك إلا جسم له لون وقدر، فإن الخيال قد أنس بالمبصرات فهو لا يتوهم شيئاً إلا على وفق ما رآه لأن الوهم من نتائج الحس، وإن أردت أنه لا يعلم بالعقل فقد دللنا أنه ثابت بالعقل، لأن العقل مضطر إلى التصديق بموجب الدليل.
واعلم أنك لمّا لم تجد إلا حسّاً أو عرضاً وعلمت تنزيه الخالق عن ذلك بدليل العقل الذي صرفك عن ذلك، فينبغي أن يصرفك عن كونه متحيزاً أو متحركاً أو منتقلاً.
ولمّا كان مثل هذا الكلام لا يفهمه العامّي قلنا: لا تسمعوه ما لا يفهمه ودعوا اعتقاده لا تحركوه، ويقال إن الله تعالى استوى على عرشه كما يليق به) اهـ.
وهذا واضح في أن الأصل في النصوص المتشابهة التفويض ما لم تدْعُ حاجة إلى التأويل، وهو ما كان عليه جمهور السلف الصالح كما سيأتي من أقوال العلماء التي تفيد ذلك، وأنهم ـ نعني السلف ـ لو وُجد في أزمانهم ما حدث بعد ذلك لجهروا بالتأويل، كيف وقد ثبت التأويل عن جماعات منهم؟!
* قول الإمام القشيري:
قال الإمام القشيري - رحمه الله تعالى - (إتحاف السادة المتقين 2 / 108): (فالرب موصـوف بالعلو وفوقيـة الرتبة والعظمة منزه عن الكون في المكـان وعن المحاذاة) اهـ.
* قول قاضي القضاة ابن المنير:
نقل الحـافظ ابن حجر عن ابن المنيـر مؤيّداً له في تنزيـه الله تعــالى عن المكان والجهة (فتح الباري 13 / 429):
(قال ابن المنير... قوله " رب العرش "... نبّه [يعني البخاري] على بطلان قول من أثبت الجهة أخذاً من قوله " ذي المعارج " ففَـهِمَ - أي مثبت الجهة - أن العلوّ الفوقي مضاف إلى الله تعالى، فبين المصنف [يعني البخاري] أن الجهة التي يصدق عليها أنها سماء والجهة التي يصدق عليها أنها عرش كل منهما مخلوق مربوب محدث، وقد كان الله قبل ذلك وغيره، فحدثت هذه الأمكنة، وقدمه - تعالى - يحيل وصفه بالتحيز فيها والله أعلم) اهـ.
وبهذا تتفق كلمة البخاري وابن المنير والحافظ ابن حجر رحمهم الله تعالى في هذا النص على تنزيه الله تعالى عن المكان والجهة، وهذا قول جميع المنزهين.
* قول الإمام البيضاوي:
وقال الإمام البيضاوي - رحمه الله تعالى - (فتح الباري 3 / 37):
(ولما ثبت بالقواطع أنه سبحانه منزه عن الجسمية والتحيز امتنع عليه النزول على معنى الانتقال من موضع إلى موضع أخفض منه، فالمراد نور رحمته، أي ينتقل من مقتضى صفة الجـلال التي تقتضي الغضب والانتقـام إلى مقتضى صفة الإكرام التي تقتضي الرأفة والرحمة) اهـ.
* قول الإمام القرطبي:
وقال الإمام القرطبي في تفسير قوله تعالى ( وهو القاهر فوق عباده ) (6 / 399): (ومعنى فوق عباده، فوقية الاستعلاء بالقهر والغلبة عليهم، أي أنهم تحت تسخيره لا فوقية مكان) اهـ.
نخلص من هذا إلى أن القول بأن الله تعالى ساكن في السماء، أو أنه على العرش بذاته أو ينزل بذاته أو استوى على العرش بذاته أو على الحقيقة، أو أنه تعالى بائن من خلقه بذاته، كل ذلك وصف لله بما يستحيل في حقه تعالى عقلاً ونقلاً، فهذه نصوص واضحة قاطعة بتنزيه الله تعالى عن المكان والجهة والحيز والاتصال والانفصال والدخول والخروج، وقاضية على من أثبت شيئاً من ذلك لله تعالى بالتشبيه.
ولا يفهم من قول أهل الحق: إن الله تعالى لا يوصف بأنه داخل العالم ولا بأنه خارج العالم. بأنهم يصفونه تعالى بالعدم، معاذ الله، كلا، وإنما مرادهم أن إطلاق هذا اللفظ على الله تعالى لا يجوز وهو منزه عنه، هذا مع إثباتهم أن الله تعالى ليس حالاًّ في العالم وليس شيء من العالم حالاًّ فيه تعالى، أما الدخول والخروج والاتصال والانفصال فلا يجوز أن يضاف شيء منها إلى الله تعالى لأنها من صفات الأجسام.
أما ما جاء في الكتاب والسنة من الألفاظ التي ظاهرها إثبات الجهة والمكان لله تعالى فهي ـ قطعاً وباتفاق علماء السلف والخلف ـ مصروفة عن ظاهرها وحقائقها كما مرّ من أقوال العلماء، ولا خلاف بين المسلمين في ذلك كما نقل الإمام النووي عن القاضي عياض قوله المار قريباً.
وهذا الذي ذكرناه في هذه القضية الهامة إنما كان موضعه - في الأصل - كتب أهل الاختصاص ومجالس العلم التي يُفهم فيها مدلولات الألفاظ، ولكن ما الحيلة وقد أصبح مثل هذا الكلام الخطر والمسلك الوعر ندرة المجالس وحديث العامة في كل مكان، فتجد من لا يعرف نواقض الوضوء وأركان الصلاة وأحكام العبادات يرفع عقيرته بالكلام عن أعظم قضية في الإسلام بلا خوف أو وجل نعني بذلك صفات الله تعالى، وما هذا إلا بسبب ترديد مثل هذه النصوص المتشابهة التي نهى العلماء عن التحدث بها كما مرَّ من قول الإمام مالك وكما قال الإمام ابن رشد معقِّباً على قول مالكٍ ومبيناً لسبب نهيِهِ عن ذلك، قال: (وإنما نهى مالك... مخافة أن يُتحدث بها، فيكثر التحدث بها، وتشيع في الناس فيسمعها الجهال الذين لا يعرفون تأويلها فيسبق إلى ظنونهم التشبيه بها) اهـ.
فاضطررنا إلى ذكره هنا تبياناً للحق، وتنبيهاً على ما وقع بين الناس من فهم غير صحيح لهذه القضية.
عود على بدء، قد بينا الخلاف في أصول الديانات وحكم المخالف في شيء منها، بقي أن نذكر الخلاف في أصول أهل السنة والجماعة، وهذه الأصول لا يحكم على المخالف فيها بالتكفير بيد أن الخلاف فيها غير يسير بل جد خطير.
ومثال هذه الأصول ثبوت عذاب القبرونعيمه والصراط والميزان، والكف عن صحابة رسول الله ‘ والترضي عليهم، والقدر، وعدم تكفير أهل المعاصي من الموحدين، وغير ذلك من المسائل والقضايا التي اتفقت عليها كلمة أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين وتابعيهم. وحكم المخالف في شيء من ذلك الفسق والضلال والخروج عن دائرة أهل السنة والجماعة، وما كان عليه رسول الله ‘ وأصحابه. أعاذنا الله من الفتن.
أما الفروع العقدية وهي ما سوى هذين القسمين مثل جزئيات العقيدة ونمثل لها هنا بما حدث بين الصحابة رضوان الله تعالى عليهم من اختلاف في رؤية النبي ‘ ربه ليلة عرج به إلى السماء، فأثبتها بعضهم كابن عباس، ونفاها البعض كأم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنهم أجمعين، وكتعذيب الميت ببكاء أهله عليه، فأثبته بعضهم ونفاه آخرون. وغير ذلك من المسائل الجزئية الغيبية، ويلحق بهذا النوع من الاختلاف المشروع الذي حدث بين سلف الأمة الطيب الاختلاف في تفويض المتشابهات وتأويلها، فقد نقل العلماء عن السلف أن جمهورهم كان على مذهب التفويض وعن جماعات منهم أنهم أخذوا بالتأويل من هؤلاء ـ نعني الذين قالوا بالتأويل ـ سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من الصحابة وأكابر التابعين وتابعيهم.
وعلى الجملة فإن الخلاف في هذا النوع من القضايا لا يترتب عليه شيء قطعاً، إذ لم ينقل عن الصحابة أو السلف عموماً أنهم ضللوا بعضهم بعضاً بسبب شيء من ذلك خصوصاً وأن اختلافهم في مثل هذه القضايا مستفيض مشهور.
وما حدث بين طوائف أهل السنة من اختلاف في بعض المسائل ملحق بهذا النوع من الاختلاف، نحو ما حدث بين الأشاعرة والماتريدية، فكله لا يستلزم تضليلاً ولا تبديعاً.
قال الحافظ بن عساكر - رحمه الله تعالى - (تبين كذب المفترى ص / 409):
(الأصحاب مع اختلافهم في بعض المسائل كلهم أجمعون، على ترك تكفير بعضهم بعضاً مجمعون، بخلاف من عداهم من سائر الطوائف وجميع الفرق، فإنهم حين اختلفت بهم مستشنعات الأهواء والطرق كفر بعضهم بعضاً، ورأى تبرِّيه ممن خالفه فرضاً) اهـ.
وقال الإمام تاج الدين السبكي - رحمه الله تعالى - (طبقات الشافعية 3 / 378):
(تفحصت كتب الحنفية فوجدت جميع المسائل التي بيننا وبين الحنفية خلاف فيها ثلاث عشر مسألة، منها معنوي ست مسائل، والباقي لفظي، وتلك الست المعنوية لا تقتضي مخالفتهم لنا ولا مخالفتنا لهم فيها تكفيراً ولا تبديعاً صرح بذلك الأستاذ أبو منصور البغدادي وغيره من أئمتنا وأئمتهم وهو غني عن التصريح لظهوره)’اهـ.
وقال العلامة ملا علي القاري - رحمه الله تعالى - (مرقاة المفاتيح 1/ 206):
(وما وقع من الخلاف بين والماتريدية والأشعرية في مسائل فهي ترجع إلى الفروع في الحقيقة، فإنها ظنيات فلم تكن من الاعتقادات المبنية على اليقينيات، بل قال بعض المحققين إن الخُلْفَ بينهما في الكل لفظي) اهـ.
بهذا يتبين خطأ الذين يسارعون في تضليل مخالفيهم وتبديعهم معممين لأحكامهم وغير مراعين لنوع القضايا التي يقع فيها الخلاف، لا سيما المسائل التي نقل عن السلف الطيب خلاف فيها دون إنكار من بعضهم على بعض.
ويتبين أيضاً مجازفة أولئك الذين يضللون الأشاعرة والماتريدية جهلاً ودون روية، متجاهلين كل النصوص المنقولة عن علماء الأمة بالتنويه بفضلهم، ومتجاهلين أيضا كون قضية التفويض والتأويل التي يضللونهم بسببها منقولة عن الصحابة والسلف الطيب، وأنها من نوع المسائل التي لا يترتب عليها ضلال أو بدعة.
* * * * *
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) قال العلامة الكوثري رحمه الله في تعليقه على تبيين كذب المفتري في هامش ص/123 (يطبق شراح رسالته على أن هذه اللفظة إما مدسوسة أو من قبيل الاحتراس بالرفع أي: المجيد بذاته لا بالخدم والخول).
[/align]يتبع بحول الله