منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - المحاكمة العادلة
عرض مشاركة واحدة
قديم 2009-10-24, 17:10   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
kamal_cat
عضو نشيط
 
الصورة الرمزية kamal_cat
 

 

 
إحصائية العضو










M001 تابع

المبحث الثالث
ضمانات المحاكمة العادلة
في النظام الجنائي الإسلامي والمواثيق الدولية
ينبغي الجزم والتأكيد في البداية أن فكرة المحاكمة العادلة تظل أحرفا ميتة وشعارا لا معنى له، إذا لم تجسد في أرض الواقع من خلال مجموعة ضمانات أهمها:
استقلال القضاء. وعلانية الجلسات.والمساواة أمام القضاء، وقرينة البراءة، وسرعة الفصل في الدعوى، وشفوية المرافعة وحق الدفاع. وتسبيب الأحكام . وحق الطعن. وهو ما سنفصله في المطالب الآتية:

المطلب الأول
استقلال القضاء
إذا كانت الحقوق تحفظ بالقضاء، والحريات تصان بالقضاء، والعدل يتحقق بالقضاء، وعمارة المجتمع تكون بالقضاء واستقرار الأوضاع والمعاملات يكون بالقضاء، فينبغي بالمقابل أن يكون للقضاء مظهر يناسب عظمة رسالته هو مظهر الاستقلال.
ويقصد باستقلال القضاء: " ألا يخضع القضاة في ممارستهم لعملهم لسلطات أي جهة أخرى وأن يكون عملهم خالصا لا قرار الحق والعدل خاضعا لما يمليه الشرع والضمير دون أي اعتبار آخر. ويقتضي مبدأ الاستقلال الإحالة دون تدخل أي جهة مهما كانت طبيعتها في أعمال القضاء لتوجيهه وجهة معينة، أو لتعرقل مسيرته، أو لتعترض عن أحكامه. كما تقتضي أن يحاط القضاة بسياج من الضمانات ما يقيهم كل تجاوز أو اعتداء من شأنه أن يخدش المبدأ المذكور ويعدم آثاره.
وبات واضحا اليوم أنه دون وجود قضاء مستقل لن تكون هناك جدوى من إعلان لحقوق الإنسان وحرياته. ولا جدوى عن الحديث عن مبدأ المساواة أمام القانون، أو حتى عن كفالة حق الدفاع. إذ ما الفائدة أن تعترف القوانين للأفراد بمجموعة حقوق مدنية وسياسية واجتماعية واقتصادية وغيرها، إذا لم يكفل للقضاء هيبته ومكانته واستقلاله.وهو الجهاز المكلف بحماية هذه الحقوق جميعا.
ولقد احتل القضاء في نظامنا الإسلامي مكانة لم يرق إليها في ظل الأنظمة الوضعية المعاصرة. فهذا الإمام علاء الدين الطرابلسي يصف القضاء فيقول " إنه من أجل العلوم قدرا وأعزها وأشرفها ذكرا. وهذا النباهي يقول:"...تلك خطة الأنبياء ومن بعدهم فلا شرف في الدنيا بعد الخلافة من القضاء..".
وانطلاقا من هذه المكانة حرصت الشريعة الإسلامية على منح القاضي من وسائل الاستقلال بما يمكنه من القيام بدوره، وبما يحقق هدف المحاكمة العادلة. قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين ولاه قضاء اليمن: بم تقضي يا معاذ؟ قال: بكتاب الله. قال : فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسوله. قال: فإن لم تجد. قال: أجتهد رأيي ولا الو. قال صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي وفق رسول الله لما يرضى الله ورسوله. وعن عائشة رضي الله عنها أن قوما أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت. فقالوا: من يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ومن يجترئ عليه إلا أسامة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكلمه أسامة فقال:أتشفع في حد من حدود الله. ثم قام فخاطب فقال: أيها الناس إنما أهلك الذين قبلكم إنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها.
وهكذا حمل الحديث الأول أرقى قواعد استقلال القاضي وخضوعه فقط للنص .ومنع الحديث الثاني كل تدخل في شؤون القاضي والقضاء من أي كان صونا لاستقلاله.وهو ما يجسد أهم ضمانة من ضمانات المحاكمة العادلة في النظام الإسلامي.
و دأب الخلفاء ومن بعدهم على معاملة قضاتهم انطلاقا من هذا المبدأ. فهذا الخليفة عمر يكتب لقاضيه شريح:"...ما في كتاب الله وقضاء النبي فاقض به. فإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولم يقض به النبي فما قضى به أئمة العدل فأنت بالخيار إن شئت أن تجتهد رأيك أو أن تؤامرني ولا أرى في مؤامرتك أياي إلا أسلم لك."
كما عهد الخليفة عمر رضي الله عنه القضاء لزيد بن ثابت فلقي رجلا فقال له: ما صنعت بخصومتك؟ قال قضى علي وزيد بكذا. قال عمر: لو كنت أنا لقضيت بكذا. قال الرجل: وما يمنعك والأمر إليك؟ قال عمر: لو كنت أردك إلى نص في كتاب الله أو في سنة رسوله لفعلت ولكن أردك إلى اجتهاد والرأي مشترك ولم ينقض ما حكم به زيد وعلي.
من أجل ذلك جاء في طبقات الفقهاء "من سره أن يأخذ بالوثيقة بالقضايا فليأخذ بقضاء عمر فإنه يستشير " .ولم يحد الخليفة عثمان عن منهج الفاروق إذ يروى عنه أنه إذا جاء ه الخصمان قال لهذا اذهب فادع عليا، وللآخر فادع طلحة بن عبيد الله الزبير وعبد الرحمان فجاءوا فجلسوا فقال لهما تكلما ثم يقبل عليهم فيقول أشيروا علي.
وهذا علي رضي الله عنه أرسل كتابا لواليه الأشتر النخعي وأوصاه بالاهتمام بأمر القضاة بغرض تمكينهم من أداء مهامهم قال له فيه:" ...وأفسح له في البذل ما يزيل علته وتقل حاجته إلى الناس وأعطه من المنزلة ما لا يطمع فيه غيرك من خاصتك..." قال بن فرحون :" وينبغي للإمام أن يتفقد أحوال قضاته فإنهم قوام أمره ورأس سلطانه..." وتمكينا للقضاة من استقلالهم خاصة بالنسبة للجهة القائمة بالتعيين ذهب الشافعية والمالكية والحنابلة في رواية إلى عدم قابلية القاضي للعزل مع سداد حاله وإذا لم يكن في عزله تحقيق مصلحة أو درء مفسدة وذلك لتعلق حق الأمة به . وتحقيقا لذات الغرض تم إنشاء منصب قاضي القضاة في العصر العباسي الأول وكانت وظيفته الأساسية تعيين القضاة وعزلهم ومحاكمة الوزراء والأشخاص الذين يهددون الحكم.
ولما كان النظام القضائي الإسلامي قد كفل للقاضي استقلاله ومكانته وهيبته، ومنع التدخل في شؤون القضاة من أي جهة كانت، فإنه وفر بذلك أحد أهم ضمانات المحاكمة العادلة بما يبعث الاطمئنان سواء بالنسبة للمتهم أو الضحية، وبما يحفظ الحقوق ويصون الحريات العامة.
وبالعودة إلى المواثيق الدولية نجد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان قد أدرك أهمية مبدأ استقلال القضاء باعتباره ركيزة أساسية يراد به ضمان محاكمة عادلة. لذلك نصت المادة العاشرة منه على أن " لكل إنسان الحق على قدم المساواة التامة مع الآخرين في أن تنظر قضية أمام محكمة مستقلة...". وتأكد ذات المبدأ بموجب المادة الرابعة عشرة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. وبات اليوم مبدأ استقلال القضاء أحد أهم المقاييس لمدى تحرر النظم القضائية بهدف القيام بدورها الدستوري، وأنه كفيل بتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي وحماية الضعفاء من جور الأقوياء .
أدركت النظم الوضعية أن الضمان الأول للمحاكمة العادلة ألا تصدر الأحكام عن مؤسسات سياسية ،بل بواسطة محاكم مختصة مستقلة مشكلة وفقا للقانون. فاستقلال المحكمة ركن جوهري ولازم لعدالة المحاكمة. وهو الأمر الذي انتهى إليه المؤتمر العالمي لمنع الجريمة الذي عقد في ميلانو إيطاليا بين 26 أغسطس إلى 6 أيلول 1985، وأعتمدت نتائجه بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 29 نوفمبر 1985 . ونصت هذه التوصيات على ضرورة أن تكفل الدولة استقلال السلطة القضائية، وينص عليه دستور البلد وقوانينه، ومن واجب جميع المؤسسات الحكومية وغيرها احترام ومراعاة استقلال القضاء.
المطلب الثاني
علانية الجلسات
لم يكتف النظام الجنائي الإسلامي بالاعتراف للقضاء باستقلاله لضمان محاكمة عادلة، بل أوجب أن تكون جلسات القضاء مفتوحة أمام الجميع فيحضرها الخصوم وغيرهم. ويشهد الحضور فصول المرافعة ويسمعوا أقوال الأطراف وتدخل القاضي وتوضيحات الشهود وأدلة الاثبات. وهو ما من شأنه أن يضفي على العمل القضائي شفافية ووضوحا، مما يزيد في درجة ثقة المتقاضين في جهاز القضاء . وكما قال الدكتور رؤوف عبيد أن حضور الجمهور يجعل منه رقيبا على عدالة إجراءات المحكمة . ولأن سرية الجلسات لا تخلف إلا الشك وتجعل القاضي في موقف الشبهة ودائرة الاتهام. وهو ما من شأنه أن يدفع الجمهور لأن يسحب ثقته من القضاة والهيئة القضائية.
إن المحاكمة العادلة لا تتجسد في أرض الواقع إلا إذا كانت جلسات القضاء مفتوحة أمام الجميع، ليمارس هؤلاء رقابة شعبية على القاضي تدفعه أكثر على تطبيق القانون ،ومراعاة حقوق الخصوم والمساواة بينهم.
وها هو النظام الإسلامي يقر مبدأ الجلسة العلنية، قال بن قدامة: " القضاء في المسجد أمر الناس القديم وبه قال مالك وإسحاق وابن المنذر. وقال الشافعي: "يكره ذلك لما روي أن عمر كتب إلى القاسم بن عبد الله أن لا يقضي في المسجد لأنه تأتيك الحائض والجنب. وقال الإمام مالك أن القضاء قربة وطاعة وإنصاف بين الناس فلم يكره في المسجد. وكان صلى الله عليه وسلم يجلس في المسجد مع حاجة الناس في الفتيا والحكومة". ومن أروع ما قرأنا في مجال تبسيط الإجراءات وتقريب القضاء من المتقاضين ما ذكره فقهاء هذه الأمة من وجوب جلوس القاضي في مكان يتوسط البلد. قال بن قدامة: "وينبغي أن يكون جلوسه في وسط البلد لئلا يبعد على قاضيه".
جاء في حاشية الخرشي: " يجب أن يكون موضع القضاء في وسط البلد في بناء واسع للجلوس فيه وأن يكون في الصيف هويا فسيحا وفي الشتاء كنا كنينا. وقال أيضا حتى لا يحرج القاضي مع البروز إلى الاستئذان عليه."
ولم نجد حكما شبيها مماثلا في الأنظمة الوضعية يوجب تأسيس مجالس القضاء في أمكنة محددة. وهكذا تميز نظامنا الإسلامي في هذه النقطة حتى لا يبعث مشقة في نفوس المتقاضين في معرفة دور القضاء والتوجه إليها.
ومن أرقى قواعد حقوق الإنسان، وحقوق المتهم بالدرجة الأولى، وقواعد المحاكمة العادلة ،ما أقره الفقهاء من وجوب نظر القاضي أولا في قضايا المحبوسين فيقدم هؤلاء على غيرهم. وبرر الفقهاء ذلك بالقول أن الحبس عذاب وربما كان من بين المحبوسين من لا يستحق البقاء فيه فيفرج عنه القاضي. وها هو نظامنا الإسلامي يقر قواعد الإعلام والتبليغ في مجال شؤون القضاء فيخرج مناديا ينادي في البلد ثلاثة أيام أن القاضي فلان بن فلان ينظر في أمر المحبوسين يوم كذا فمن كان له محبوس فليحضر .وهذا ما يؤكد ضمانه علانية الجلسة.
ومن باب التيسير على القضاة والمتقاضين أيضا أجاز الفقهاء لولي الأمر أن يعين في المكان الواحد أكثر من قاض فيعهد لكل قاض نوعا معينا من القضاء، كقاضي الأسرة، وقاضي المياه وما أشبه ذلك . وبهذا يكون النظام الإسلامي سباقا في إقرار نظام تخصص القضاة. وصدق العلامة بن قيم الجوزية عندما كتب :" لا نقول أن السياسة العادلة مخالفة للشريعة الكاملة ، بل هي جزء من أجزائها وباب من أبوابها..." .
ومن المبادئ التي أقرها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لضمان محاكمة عادلة مبدأ علانية الجلسات . إذ جاء في المادة العاشرة منه''لكل إنسان الحق على قدم المساواة التامة مع الآخرين في أن تنظر قضيته أمام محكمة مستقلة نزيهة نظرا عادلا علنيا''. وهو ما أكده العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية وكرسته مختلف الدساتير. ولقد أجاز العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية في نص مادته الرابعة عشرة أن تكون جلسات القضاء سرية أو مغلقة لدواعي الآداب العامة أو النظام العام أو الأمن العام. و ثبت ذلك في مختلف قوانين الإجراءات الجزائية.
المطلب الثالث
المساواة بين الخصوم
يقصد بالمساواة لغة السواء والعدل يقال ساوى الشيء إذا عدل وساويت بين الشيئين إذا عدلت . وقد احتل مبدأ المساواة في الشريعة الإسلامية مكانة متميزة قال تعالى:" إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل". قال أهل التفسير نزلت هذه الآية في ولاة الأمر. وقال علي على الإمام أن يحكم بما أنزل الله وأن يؤدي الأمانة وإذا فعل ذلك حق على الناس أن يسمعوا ويطيعوا ويجيبوا إذا دعوا . وكثيرة هي الآيات التي حثت على العدل في القضاء قال تعالى:" ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا أعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون." ولنا في قصة سيدنا داود عليه السلام والواردة في سورة (ص) خير عبرة بالنسبة لمبدأ المساواة بين الخصوم وفي سماع أقول كل من المدعي والمدعى عليه وعدم الاكتفاء بسماع طرف دون آخر. فالقاضي داود عليه السلام فصل في خصومة بإدعاء واحد وأدرك خطأه وخر ساجدا لربه مستغفرا.
ولقد سبق لنا ذكر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم برواية عائشة رضي عنها بخصوص حادثة المرأة المخزمية حينما قال:" إنما ظل من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها." وبالعودة لسيرة الخلفاء وأخبار القضاة خاصة في صدر الإسلام نجد أن هؤلاء قدموا أروع الأمثلة في تجسيد مبدأ المساواة بين الخصوم كأول خطوة من خطوات المحاكمة العادلة. ذلك أن القاضي إن ميز بين الخصوم في ساحة القضاء فقد عدالته وحياده. ولا غرابة في ذلك فها هو الرسول صلى الله عليه وسلم يوصي قاضيه عليا:" يا علي إذا جلس إليك الخصمان فلا تقضي بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول فإنك إن فعلت ذلك تبين لك القضاء . وقال أيضا: "إذا أبتلي أحدكم بقضاء فليتق الله في مجلسه وفي إشارته" .وهذا الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوصي قاضيه فيقول: "... آس بين الناس في مجلسك ووجهك وقضاءك حتى لا يطمع شريف في حيفك وييأس ضعيف مـن عدلك." ويلزم القاضي بأن يساوي بين الخصوم أيا كانت الحالة الدينية جاء في سراج السالك" والإصغاء لقول كل منهما ولو يكونا كافرا أو مسلما.
وفصل فقهاء الشريعة في أدب القاضي بشكل يتناسب وأهميتها خاصة أدب المساواة بين الخصوم. فهذا القاضي أبو يوسف صاحب الخراج ينصح القضاة فيقول:" على القاضي أولا أن يسألهما أيكما المدعي وهذا أرفق بالناس لأن الخصوم قد تلحقهم مهابة المجلس فيعجزون عن النطق والدفاع عن أنفسهم" . وقال بن فرحون في التبصرة:" إذا حضر الخصمان بين يديه فليسو بينهما في النظر إليهما والتكلم معهما ما لم يتعد أحدهما فلا بأس أن يسوي نظره إليه ويرفع صوته عليه لما صدر منه من
اللدد ونحو ذلك. ويخضهما عند ابتداء المحاكمة على التؤدة والوقار ويسكن جاش المضطرب منهما ويؤمن روع الخائف والمحصر في الكلام حتى يذهب عنه ذلك. وليقعدهما بين يديه ضعيفين كانا أو قويين. ولا يقرب أحدهما إليه، ولا يقبل عليه دون خصمه، ولا يميل إلى أحدهما بالسلام فيخصه به، ولا بالترحيب، ولا يسأل أحدهما حاله ولا خبره ،ولا عن شيء من أمورهما في مجلسهما ولا يساررهما جميعا ولا أحدهما..." . كهذا نظر أسلاف هذه الأمة للقضاء والقضاة، وهكذا جسد قضاتها مبدأ المساواة أحسن تجسيد خوفا من عقاب الله عز وجل . ولا شك أن حضور العلماء مجلس القضاء لمشاورتهم، فيه حث للقاضي على تحري العدل بين الخصوم وإحقاق الحق. فإن حاد عن هذا السلوك نبهه العلماء وأشاروا عليه.
واحتل مبدأ المساواة بشكل عام أهمية خاصة لدى الفلاسفة وعلماء الاجتماع وفقهاء القانون. وأولته المواثيق الدولية والنصوص الدستورية والقواعد القانونية المكانة اللائقة به . حيث جاء في المادة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان :" ...يولد جميع الناس أحرارا متساوين في الكرامة والحقوق". وتكرس مبدأ المساواة في المادة العاشرة من نفس الإعلان والتي أقرت وبصريح العبارة أن لكل إنسان الحق على قدم المساواة التامة في أن تنظر قضيته أمام محكمة ...وتأكد المبدأ في العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية بموجب المادة الثانية والثالثة والمادة الرابعة عشرة منه. وأشارت إليه دساتير عربية كثيرة
ولا مراء في أن نجاح القاضي في المساواة بين الخصوم أثناء النظر في الدعوى يشكل خطوة أولى وأساسية في نجاحه في مهمته بتوفير العدالة للباحثين عنها بصرف النظر عن جنسيتهم أو أصلهم أو سنهم أو جنسهم أو وضعهم المالي والاجتماعي. وأضحى مبدأ المساواة اليوم يمثل ضمانه أساسية من ضمانات المحاكمة العادلة. ولا يجوز بالاعتماد عليه أن تعير الدولة تمييزا بين رعاياها أمام القضاء، أو أن تميز بين الوطنيين والأجانب.كما أن مبدأ المساواة أمام القضاء يتنافى من حيث الأصل مع تخصيص هيئة لتفصل في منازعات تخص فئة اجتماعية معينة دون أخرى. بل ينبغي أن تكون سلطة القضاء واحدة يقف أمامها الجميع، وبذات الإجراءات، وبنفس فرص الدفاع، ودون مراعاة لأي عامل من العوامل التي يختل بها ميزان العدل، ويخرق بها مبدأ المساواة .
وعليه وتطبيقا لهذا المبدأ تعين على كل ذي صفة سياسية أو إدارية أن يتجرد من صفته وهو واقف أمام القضاء. وأن لا يستعمل صفته هذه للتأثير على القاضي. لأن هيئة الحكم تتعامل مع أطراف النزاع باعتبارهم خصوما في منازعة معينة، دون أن تنظر لاعتبار آخر كون أن لأحد أطراف النزاع مركزا إداريا ساميا أو أنه يتمتع بوزن سياسي معين.
وإذا كان مبدأ المساواة أمام القانون بشكل عام مكرس في مواثيق دولية ونصوص دستورية وقانونية كثيرة، فإن هذا المبدأ يظل مجرد شعار وأحرف ميتة إذا لم يتوج بضمانات من شأنها أن تجسده في أرض الواقع. وهذه الضمانات هي:
1-تأكيد وحدة القضاء:
إن مبدأ المساواة أمام القضاء يفرض أول ما يفرض وضع تنظيم موحد لكافة الهيئات القضائية على اختلاف أنواعها ودرجاتها. فلا يعقل أن تختلف الإجراءات بخصوص رفع الدعاوى مثلا، أو آجال الطعن، من هيئة قضائية إلى هيئة قضائية أخرى من نفس الجنس والدرجة. أو أن يراعي الخصوم بامتياز إجرائي معين في منطقة دون أخرى، وأن تسدد رسوم القضاء بشكل في منطقة بما يخالف باقي المناطق داخل الدولة.لأن هذا الاختلاف يتعارض مع مبدأ المساواة أمام القضاء الذي يفرض أن تكون جهة القضاء واحدة لتتولى الفصل في الخصومات المعروضة عليها بإجراءات واحدة تحكم جميع الهيئات القضائية من نفس الدرجة والنوع. ذلك أنه من غير المتصور أن تختلف الأحكام الإجرائية من محكمة ابتدائية إلى أخرى في نفس الدولة، أو من هيئة استئناف إلى أخرى.
ولا تتنافى وحدة القضاء هذه ووحدة الإجراءات، مع تخصيص قضاء إداري يتولى فقط النظر في النزاعات الإدارية دون غيرها. لما يتميز به هذا النوع من القضاء من خصوصيات معينة. فتعمد الدولة إلى تطبيق نظام ازدواجية القضاء بما ينجم عنه من أثر قانوني على مستوى الهياكل أو على مستوى الإجراءات.

2-تأكيد استقلال القضاء على جميع السلطات:
سبق البيان والتأكيد أن طبيعة العمل القضائي تفرض أن يكون جهاز القضاء مستقلا عن كل السلطات حتى لا يتأثر القاضي بأي مؤثر كان وهو يفصل في المنازعات المعروضة عليه. ومبدأ الاستقلال كما رأينا ثابت مكرس بنصوص ومواثيق دولية ونصوص دستورية.
المطلب الرابع
قرينة البراءة
عاملت الشريعة الإسلامية المتهم معاملة حسنة تليق بآدميته وإنسانيته قال تعالى:" ولقد كرمنا بني آدم" .ومن مقتضيات تكريم الإنسان ألا يهان ولا تفقد كرامته لمجرد الإدعاء عليه بارتكاب جرم ما لم يتحقق نسبته إليه بعد. بل وحتى إذا ثبت عليه ارتكاب جرم ما . فلا تطبق عليه إلا العقوبة المقررة فقط لهذا الجرم. ذلك أن الشريعة لا تتصيد أخطاء الناس لأجل إخضاعهم للعقاب أو اهانتهم.
وإذا كان قانون الإثبات في المواد المدنية ينص في مختلف الأنظمة أن على الدائن إثبات الالتزام، فيكون من باب أولى على سلطة الاتهام إثبات وقوع الجريمة ونسبتها إلى متهم خاصة وأن الجريمة أمر عارض وشاذ وقوعها. وكما قال فقهاء القانون الجنائي إذا لم تفترض البراءة في المتهم فإن مهمته ستكون أكثر صعوبة لأنه يلتزم بتقديم دليل مستحيل وفقا للقواعد المنطقية. ويترتب على ذلك أن يصبح المتهم غير قادر على إثبات براءته بما يؤدي إلى التسليم بجرمه.
ويحتل مبدأ قرينة البراءة مكانة متميزة كأحد أهم ضمانات المحاكمة العادلة ، إذ لولاه لتمكنت سلطة الاتهام من أن تعصف بحريات الأفراد وأمنهم وتتخذ من الإجراءات ما يعيق هذه الحرية. لذلك فإن هذا المبدأ تؤيده اعتبارات دينية وأخرى أخلاقية بل واعتبارات حسن سير العدالة في حد ذاتها. كما أن هذا المبدأ يسهم في تلافي واجتناب الأخطاء القضائية بإدانة أشخاص وثبوت براءتهم بعد ذلك ، وهو ما من شأنه أن يزعزع ثقة الأفراد في مرفق القضاء.
من أجل ذلك أقر النظام الجنائي الإسلامي مبدأ البراءة. قال تعالى:" وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا". وقال أيضا:" تكاد تميز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتيكم نذير" . وقال جل شأنه في موضع آخر: " وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلوا عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون". دلت هذه الآيات وغيرها أن الله لا يعاقب على ذنب أو جريمة إلا إذا نبه على ذلك مقدما. وكيف يعاقب وهو من قال:" ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد" . وما دامت الشريعة الإسلامية أقرت مبدأ الشرعية فإن الأصل في الأفعال الإباحة والاستثناء التجريم. وثبوت التجريم لا يأتي إلا بحكم القضاء. فالنتيجة الطبيعية هي براءة المتهم ومعاملته على هذا الأساس.
عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أدرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن وجدتم للمسلم مخرجا فخلوا سبيله فإن الإمام أن يخطىء في العفو خير له من أن يخطىء. روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن عمر بن الخطاب قال: "لئن أعطل الحدود بالشبهات أحب إلي من أن أقيمها بالشبهات." وقال ابن حزم لا يحل الامتحان في شيء من الأشياء بضرب ولا بسجن ولا بتهديد، لأنه لم يوجب ذلك قرآن ، ولا سنة ثابتة، ولا إجماع. ولا يحل أخذ شيء من الدين إلا من هذه الثلاثة. وقال أبو محمد: أما إن لم يكن إلا إقراره فليس بشيء لأنه أخذه بإقرار هذه صفته لم يوجبها قرآن ولا سنة ولا إجماع وقد صح تحريم بشرته ودمه بيقين.
وما يؤكد مبدأ براءة المتهم ومعاملته على هذا الأساس ما أخرجه أبو داود عن أزهر بن عبد الله أن قوما ما سرق لهم متاعا فاتهموا أناسا من الحاكة فأتى المدعون النعمان بن بشير رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتهموا من يظنوا أنهم سرقوا متاعهم ويطلبوا معاقبتهم ليستردوا منهم متاعهم الذي سرق منهم. فحبس النعمان بن بشير المتهمين تثبيتا واحتياطا حتى يتمكن المدعون من إحضار البينة على أنهم سرقوا متاعهم. ولما لم يحضر المدعون البينة أطلق النعمان سراح المدعى عليهم. فأتاه المدعون وقالوا له: خليت سبيلهم بغير ضرب ولا امتحان قال: إن شئتم أن أضربهم فإن خرج متاعكم فذاك وإلا أخذت من ظهوركم مثل الذي أخذت من ظهورهم. وقال صاحب الخراج. من ظن به أو توهم عليه سرقة أو غير ذلك فلا ينبغي أن يعذر بالضرب والتوعك والتخويف فإن أقر سرقة أو بحد أو بقتل وقد فعل ذلك به فليس ذلك بشيء ولا يحل قطعه ولا أخذه بما أقر. وقال بن قيم الجوزية يجب تخلية المتهم إذا لم يظهر عنده شيء مما أتهم به وأن المتهم إذا رضي بضرب المتهم فإن خرج ماله عنده وإلا ضرب هو مثل ضرب من اتهمه.
وبذلك يكون النظام الجنائي الإسلامي سباقا في إقرار قرينة البراءة ومعاملة المتهم على أساسها. كما منع تعريض المتهم لأي نوع من الضرب أو الضغط أو الإهانة أو الإكراه ، بل ورتب بطلان الإقرار في حال ثبوت الإكراه أو التهديد.
وها هو المؤتمر الدولي المنعقد في مدينة سيراكوزا بإيطاليا من 28 إلى 31 مايو 1979 لبحث موضوع حماية حقوق الإنسان وتحقيق العدالة في النظام القضائي الجنائي الإسلامي قد انتهى أن حقوق الإنسان الأساسية المستمدة من روح ومبادئ الشريعة الإسلامية تشتمل الحق في عدم إكراه المتهم على الشهادة ضد نفسه. وها هو الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وبعد قرون عدة يؤكد مبدأ قرينة البراءة كضمانة لتحقيق محاكمة عادلة.
وهذا ما تضمنته المادة الحادية عشرة بقولها:" كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته بمحاكمة علنية". وثبت هذا المبدأ في المادة الخامسة من ذات الإعلان بإقرارها عدم تعريض أي إنسان للتعذيب وللعقوبات أو المعاملات القاسية أو الوحشية أو التي تحط بالكرامة. كما أكدته المادة السابعة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والمادة الرابعة عشرة منه. وتم تكريس هذه الضمانة في اتفاقيات دولية. ومواثيق دولية كالميثاق العربي لحقوق الإنسان المعتمد بموجب قرار مجلس جامعة الدول العربية في نص مادته السابعة .والميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان المعتمد من قبل مجلس الرؤساء الأفارقة في نص مادته السابعة. وتأكد في دساتير دول عربية كثيرة.
المطلب الخامس
شفوية المرافعة و حق الدفاع
تقتضي أصول ومبادئ المحاكمة العادلة أن تجري فصولها كما رأينا بصفة علنية يحضرها الخصوم وغيرهم. كما تقتضي أن تتم المرافعة بصفة شفوية. وهو ما يفرض مواجهة المتهم بما هو منسوب إليه من وقائع وأفعال ليمارس هو بدوره حق الرد والتوضيح والدفاع، بما يضفي على الحكم القضائي شرعية أكثر.
ولقد كتب فقهاء الشريعة الإسلامية الكثير حول سلوك القاضي أثناء المرافعة بما يجسد هدف المحاكمة العادلة قال ابن قدامه:"...وينبغي أن يكون الحاكم قويا من غير ضعف لا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله...ولا يكون جبارا أو عسوفا.." ويتعين على القاضي أن يبدأ بالمدعي أي الضحية فيسمع طلب دعواه وعما ينسبه للمتهم وهو ما ذكره بن فرحون في التبصرة وأشرنا إليه سابقا. وإذا عرف القاضي موضوع الدعوى وطبيعة الواقعة المنسوبة للمتهم تمكن هذا الأخير من الدفاع عن نفسه وتقديم ردوده لتكتمل الصورة أمام القاضي إن براءة أو إدانة.
وبالرجوع للقضاء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده نجده قد اتسم بالإجراءات البسيطة. وأن المرافعة تتم بصورة شفوية. فحينما يجهر المدعي بعد ترخيص القاضي له بالحديث عن دعواه يكون ذلك أمام مسمع ومرأى من الجميع، وليتمكن القاضي بعد السماع من فهم موضوع الدعوى وأصل الفعل المنسوب للمتهم. ويتولى هذا الأخير الرد على مزاعم المدعي. ويقدم كل واحد منهما وسائل إثباته وتأكيد مزاعمه. قال صلى الله عليه وسلم: يا علي إذا جلس إليك الخصمان فلا تقضي بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول فإن فعلت ذلك تبين لك القضاء. والملاحظ أن الحديث ورد فيه عبارة تسمع بما يؤكد شفوية المرافعة.قال بن رشد: وأما كيف يقضي فإنهم أجمعوا على أنه واجب عليه-أي القاضي-أن يسوي بين الخصمين في المجلس ولا يسمع من أحدهما دون الآخر وأن يبدأ بالمدعي فيسأله البينة إن أنكر المدعى عليه.
وقال الماوردي وإذا أتهم بالزنا لم تسمع الدعوى عليه إلا بعد أن يذكر المرأة التي زنى بها ويصف الفعل الموجب للحد.فإن أقر أخده بموجبه وإن أنكر سمع إنكاره واستحلفه .وجاء في حاشية الجمل وإذا زعم أي المحبوس الجهل بسبب حبسه أو قال لا خصم لي نودي عليه بطلب الخصم ثلاثة أيام ولا يحبس مدة النداء ولا يخلى بالكلية بل يراقب .وجاء في سراج السالك والمطلوب من القاضي بعد سماع دعوى المدعي أن يسأل المطلوب وهو المدعى عليه عن أصل ما أدعي به عليه وسببه
وحفظ القضاء الإسلامي للمتهم الحق في المحاكمة العادلة وحق الرد والدفاع ولو كان غائبا. فعن أبي سعيد الخذري قال بينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا جاء يهودي فقال: يا أبا القاسم ضرب وجهي رجل من أصحابك فقال: من؟ قال رجل من الأنصار قال؟أدعوه فقال أضربته؟ قال: سمعته بالسوق يحلف والذي اصطفى موسى على البشر. قلت أي خبيث على محمد صلى الله عليه وسلم فأخذتني غضبة ضربت وجهه. فقال النبي: لا تخيروا بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من تنشق عنه الأرض.
ولما كان القضاء مقصد الجميع عرب وأعاجم ، مسلمون وغيرهم، اعترف النظام الجنائي الإسلامي لغير الناطقين بالعربية بحقهم في مترجم يبلغ أقوالهم بأمانة للقاضي، وينقل أسئلة القاضي إليهم.وهناك من استحب استعانة القاضي بمترجمين عدلين. واشترط الفقهاء في القائم بأعمال الترجمة أن يكون رجل ثقة مأمونا. ولا تقبل ترجمة الكافر أو العبد. ولا بأس بترجمة المرأة إن كانت من أهل العفاف.
ولا يعني مبدأ شفوية المرافعة انعدام الكتابة والتوثيق أثناء جلسة المحاكمة، بل يتعين على القاضي تسجيل أقوال الشهود خاصة. قال الإمام الشافعي :" وإذا شهد الشهود عند القاضي فينبغي أن يكون نسخة بشهادتهم وأن يتولى ختمها".
و أجاز فقهاء الشريعة الإسلامية التوكيل بالخصومة .ولم يقصروا حكمهم على التوكيل في الخصومة المدنية فحسب، بل صرفوه كذلك إلى الخصومة الجنائية. ولا شك أن إجازة التوكيل في إثبات الاتهام يقتضي بالضرورة إجازته في دفعه بل هو باب أولى. لأن من كان في مقام الاتهام هو في أمس الحاجة لمن يدافع عنه نظرا لما قد يعتريه من اضطراب يعجزه عن الدفاع عن نفسه.
ومن الطبيعي القول أن النظام الجنائي الإسلامي كفل ممارسة هذه الحقوق الثابتة للمتهم سواء بالنسبة للمسلمين أو لغيرهم من الذميين والمستأمنين. وهكذا حقق النظام الإسلامي السبق فيما يسمى اليوم بحقوق الأقليات.
ونظرا لما يحتله حق الدفاع كأحد أهم ضمانات المحاكمة العادلة جاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مؤكدا عليه في المادة الحادية عشرة بقوله: "كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته قانونا بمحاكمة علنية تؤمن له فيها الضمانات الضرورية للدفاع عنه".
وأكد العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية في المادة الرابعة عشرة حق المتهم في معرفة الوقائع المنسوبة إليه وبلغة يفهمها وفي أسرع وقت. ومنحه مدة زمنية معقولة لإعداد وسائل دفاعه، واتصالاته ،ومحاكمته حضوريا مع تمكينه من الدفاع عن نفسه بنفسه أو بواسطة مدافع يختاره. بل يجب إعلامه قانونا بحقه في استعمال مدافع عنه. وإن كان لا يستطيع ذلك بحكم وضعه المالي تعين أن تختار له المحكمة مدافعا عنه يتولى المهمة مجانا. وإن كان الشائع في الأنظمة الوضعية أن مثل هذه المكنة تستعمل فقط في مجال الجنايات نظرا لخطورتها.
وأثناء المرافعة أقر العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية في المادة الرابعة عشرة حق المتهم في مناقشة الشهود ونفي أقوالهم وحقه في عدم الضغط عليه بطريق الإكراه لدفعه على الاعتراف ضد نفسه. وهو ما أقره النظام الجنائي الإسلامي كما ذكرنا سابقا. واعترف ذات العهد للمتهم بحقه في مترجم يتولى نقل أقواله للقاضي ونقل أقوال القاضي أو الشهود إليه.وهو ما ثبت في النظام الجنائي الإسلامي كما رأينا. ويتمتع المتهم بكل هذه الضمانات أيا كانت حالته السياسية وسواء سبق له ارتكاب الجرم أو لم يسبق له ذلك .وهو ما أكدته المادة الثانية من العهد الدولي المذكور.
المطلب السادس
سرعة الفصل في الدعوى
إذا كان الأصل في المتهم البراءة ووجوب معاملته أمام هيئات المتابعة وأمام قاضي الحكم على هذا الأساس، فإن قواعد المحاكمة العادلة تفرض التعجيل والإسراع في محاكمة من أعتبر بريئا لتثبت بعد محاكمته إما براءته أو أن تدينه المحكمة بعد ثبوت التهمة عليه. ذلك أن البطء في محاكمة الشخص، وتأكد براءته فيما بعد، يشكل نوعا من الظلم يقع عليه من جهة يفترض فيها العدل.
ولقد سبق لنا القول أن النظام الجنائي الإسلامي أوجب أن ينظر القاضي أولا في شأن المحبوسين لأن الحبس كما ذكر ابن قدامه عذاب ،وربما يكون من ضمن المحبوسين أبرياء. وتحقيقا لذات المقصد ذهب بن فرحون إلى القول ولا يستجيب القاضي لطلبات الخصوم تأجيل الفصل في الدعوى إلا إذا وجد فعلا أن الخصم جاد في طلبه لتجريح الشهود أو لإحضار بينته أو لتجهيز دفاعه أو للنظر في حسابه، وحينئذ يمهله القاضي اليومين والثلاثة أو حسب ما يرى من ظروف الدعوى وجدية الخصم طالب التأجيل.
والحقيقة التي لا ينبغي إنكارها أن النظام القضائي الإسلامي تميز واقعيا بسرعة الفصل في الدعاوى والخصومات وبساطة الإجراءات بما يخفف العبء على المتقاضين. إذ ما الفائدة من إطالة عمر النزاع وتأجيل النظر في الدعوى على حساب مصلحة أطراف القضية.
من أجل ذلك أقر النظام الجنائي الإسلامي للمتهم حقه في محاكمة سريعة وعلنية وبطريقة شفوية. وإذا طلب أحد أطراف الدعوى التأجيل ،نظر القاضي في أسبابه وقدر عما إذا كانت موضوعية تخدم القضية التي بين يديه وتحقق هدف الحكم المنصف والعادل استجاب حينئذ لطلبه. فليس من حق القاضي إذا تمسك الخصم بتأجيل الفصل لإحضار شهوده أن يصرف عنه النظر وألا يمكنه من ذلك . حتى أن بن فرحون في الموضع المشار إليه قال يمهله اليومين والثلاثة. ولأن الفصل بسرعة دون تمكين الطرف من حقه في تحضير وإعداد دفاعه ووسائل إثباته سيقودنا حتما لحكم ظالم متحيز. ومن يجرؤ من القضاة على تحمل وزر هذا الفعل. وبذلك يكون النظام الإسلامي قد وازن بين جميع المصالح. فمنح المتقاضي حق المطالبة بالتأجيل، وأعطى في ذات الوقت سلطة للقاضي في تقدير وفحص مدى جدية الطلب، فإن اقتنع به منح أجلا قصيرا للطرف المعني لتحضير وإعداد ما ادعى به. وجدير بالإشارة أن النظام القضائي الإسلامي أجاز للإمام تعيين أكثر من قاض في المكان الواحد. جاء في حاشية الدسوقي جاز للإمام نصب قاض يستقل كل واحد بناحية يحكم فيها أو بنوع معين من القضاء كقضاء الأسلحة والبيوع. وهو ما من شأنه أن يعطي دفعا لضمانة سرعة الفصل في الدعوى ويخفف العبء على القضاة والمتقاضين.
وها هي المواثيق الدولية تؤكد أهمية هذه الضمانة كأحد أهم آليات المحاكمة العادلة. فهذا العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية قد نص في المادة الرابعة عشرة على أن لكل فرد عند النظر في أي تهمة جنائية موجهة له الحق في أن تجرى محاكمته دون تأخير لا مبرر له. وهو نفس ما تضمنه المادة السادسة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان.
ولا شك أن الزمن الذي يتعين فيه الفصل في الدعوى يتوقف على ظروف كل قضية وخصوصية وقائعها. فليست الجناية كالجنحة، وليست الجنحة كالمخالفة .وليست القضية التي توافرت كل عناصرها كقضايا التلبس، كالقضية التي تتطلب خبرة أو تحقيقا واسعا وهكذا. غير أن القيد العام أنه ينبغي التعجيل بالإجراءات للإسراع في المحاكمة ضمن أجل معقول وهو ما أشارت إليه المواثيق سابقة الذكر.
ولقد أدركت القوانين الوضعية اليوم أن طول أمد النزاع لا يمس فقط بحقوق المتهم وآليات المحاكمة العادلة، بل يكلف خزينة الدولة نفقات أكثر بسبب طول الإجراءات. كما أدركت أن المبالغة في مدة الفصل في القضية يسبب الآلام الكبيرة للمتهم بحكم وضعه موضع الاتهام بما ينجم عن ذلك من مساس بشرفه واعتباره وأسرته. فضلا على أن طول الانتظار قد يؤدي إلى إصابة الشهود بالنسيان مما يؤثر على معرفة الحقيقة.
ومن المفيد التنويه أنه وعلى الرغم من ورود مبدأ سرعة الفصل في الدعوى في مواثيق دولية، إلا أن الملاحظ عمليا في بعض القضايا وفي كثير من الدول هو المبالغة في التأجيل إلى درجة أن بعض المحبوسين يلجأون إلى الاستنكار سواء بذواتهم أو عن طريق محاميهم.كما لجأ البعض إلى القيام بإضراب عن الطعام مما استلزم تدخل جمعيات تهتم بحقوق الإنسان .وهو ما حدث في كثير من الدول.
ومن الإنصاف القول أن تأجيل البت في بعض القضايا، وفي بعض المحاكم ،قد يعود لكثرة الملفات المعروضة على القاضي بما يفرض تدخل الدولة في إعادة تنظيم شؤون جهاز القضاء، على نحو يضمن حركية سريعة للملفات المعروضة عليه، وبما يحقق أهداف المحاكمة العادلة .