منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - جريمة الابادة في القضاء الجنائي الدولي
عرض مشاركة واحدة
قديم 2009-10-19, 23:17   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
kamal_cat
عضو نشيط
 
الصورة الرمزية kamal_cat
 

 

 
إحصائية العضو










15 تابع

ب- سعة نطاق السلوك الجرمي:

يستخلص من تحليل مختلف الإجتهاد والأحكام القضائية الصادرة عن المحاكم الجنائية الدولية الخاصة أو المؤقتة adhoc بشأن جريمة الإبادة الجماعية أن هذه الجريمة تنطوي على نشاط جرمي واسع الإنتشار وجسيم الأثر بالنسبة للأشخاص المنتمين للجماعة المستهدفة من هذا السلوك الجرمي، وانها يجب أن ترتكب في "سياق نمط سلوك مماثل".

وقد عبرت المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا عن هذه الفكرة في حكمها الصادر 2/9/1998 في قضية Askayesu بقولها إنه: "لإعتبار أي فعل من الأفعال المجرمة في الفقرة (2) من المادة (2) من النظام الأساسي للمحكمة مكونا لجريمة إبادة جماعية، فلا بد أن يرتكب ضد شخص أو أكثر من الأشخاص المنتمين لجماعة معينة بسبب إنتمائهم لهذه الجماعة....." فإرتكاب الفعل الجرمي في جريمة الإبادة الجماعية يتجاوز – وفقا لحكم المحكمة – مجرد تحقيقه المادي وإخراجه إلى الوجود، فهو مخصص في الأصل لتدمير الجماعة تدميرا كليا أو جزئيا لا لقتل الشخص الضحية بصفته الفردية .

الفعل المكون للإبادة الجماعية لا يوجه ضد الشخص بصفته الفردية، فهو يتعدى تلك الغاية إلى غاية أخرى هي تدمير إحدى الجماعات المحددة في تعريف الإبادة الجماعية. ومن الملاحظ أن شرط وجوب أن يكون الفعل المكون للإبادة قد إرتكب "في سياق نمط سلوك مماثل" هو شرط أوردته اللجنة التحضيرية للمحكمة الجنائية الدولية في تقريرها الخاص بالصيغة النهائية لمشروع نص أركان الجرائم ضمن الأركان الخاصة يصور إرتكاب الإبادة الجماعية كلها . وهو الشرط الوحيد الذي لم يكن مقررا في تعريف الإبادة الجماعية الواردة في المادة 2 من إتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948.

ومن الجدير بالذكر في هذا الخصوص أن هناك صلة واضحة بين الطبيعة العامة للأفعال المكونة للجريمة أو سعة وإنتشار المذابح المرتكبة وبين قيام القصد الخاص في هذه الجريمة. ففي قضية Akayesu، أستخلصت المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا أن إنتشار حالات القتل المرتكبة في رواندا واتساعها لتشمل الدولة كلها تساعد على القول بوجود جرائم إبادة جماعية وقد إستندت المحكمة إلى وجود خطة لإبادة جماعة التوتسي، وإلى تنظيم المذابح وتوجيهها ضد أشخاص سيؤدي هلاكهم إلى تدمير الجماعة، وأن المذابح التي إرتكبت في رواندا عام 1994 لم تكن عشوائية بل جاءت في سياق نمط كامل هدفة إبادة جماعة التوتسي .

أما المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة فقد أوضحت في قضية Jelisic 14/12/1999 أن إثبات توافر قصد الإبادة لدى المتهم في هذه القضية لم يكن ميسورا، لعدم وجود خطة لتدمير الجماعة المسلمة في المنطقة التي وقعت فيها الأفعال المنسوبة للمتهم ولا يتوجب ان يفهم من رأي المحكمة السابق استحالة قيام جريمة الإبادة الجماعية دون وجود خطة لإرتكابها، إلا أنها تبقى مسألة نادرة الحدوث، وقد عبرت المحكمة في الحكم ذاته عن ذلك بقولها: "قد يكون عسيرا أو صعب المنال من الناحية العملية إثبات قصد الإبادة لدى شخص ما، إذا لم تكن أفعاله الصادرة عنه متصفة بالجسامة وإذا لم يكن السلوك الجرمي المنسوب إليه قد جاء في إطار عمل منظم" .

ويبدو أن ثمة إستقرار في أحكام المحاكم الجنائية الدولية إزاء "العنصر السياقي" Lelement contextual، حيث أكدت المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا مجددا في حكمها الصادر في قضية Kayishema et Ruzindana في 21/5/1999 أنه من الصعب إرتكاب جريمة الإبادة الجماعية دون خطة أو تنظيم مسبقين .

يتضح مما سبق أن الركن المادي لجريمة الإبادة الجماعية يتحقق في الواقع عند إتصاف الأفعال المكونة لها بالإتساع وبالإنتشار الواسع. ومن هذه الناحية، فإن جريمة الإبادة الجماعية لا تختلف عن الجرائم ضد الإنسانية، فكلاهما يجب أن يكون الفعل المكون لها جزءا من هجوم واسع النطاق أو منهجيا أما العنصر الذي يميزهما فعلا فهو الصفة التمييزية أو الإنتقائية للجريمة، حيث يعمد الفاعل إلى توجيه فعله ضد ضحايا ينتمون إلى إحدى الجماعات المحمية بمقتضى جريمة الإبادة الجماعية. أما في الجرأئم ضد الإنسانية، فيكون الهجوم موجها ضد السكان المدنيين على وجه العموم دونما تمييز بينهم على أساس العرق أو الإثنية أو القومية أو الدين. وهذه الصفة التمييزية للفعل لا تكفي وحدها في هذا المجال، فلا بد من توافر نية التدمير الكلي أو الجزئي للجماعة المستهدفة، وهو ما يعبر عنه بقصد الإبادة أو بالقصد الخاص لجريمة الإبادة الجماعية.

ثالثا: الركن المعنوي للجريمة:

يتمثل الركن المعنوي في جريمة الإبادة الجماعية بإتجاه إرادة الفاعل لارتكاب أحد الأفعال المكونة للسلوك الجرمي في الجريمة مع علمه بأن هذا الفعل محظور ومعاقب عليه. وذلك بغية تدمير جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية تدميرا كليا أو جزئيا، فلا يكتفي في جريمة الإبادة الجماعية بالقصد العام، بل لا بد من قصد خاص يتمثل في "نية الإبادة" genocidal intent أو في نية التدمير الكلي أو الجزئي للجماعة. وقد وصفت جريمة الإبادة الجماعية "بجريمة الجرائم" Le crime des crimes على أساس القصد الخاص الواجب توافره لقيامها، فهو ضابط أساسي يميزها عما خلاها من الجرائم الدولية .

يجب لقيام جريمة الإبادة الجماعية أيضا أن يتزامن الركن المعنوي mens rea مع الركن المادي للجريمة . وبمعنى آخر يجب أن يتآزر الركن المادي والركن المعنوي معا ليكونا وحدة واحدة، وليظهران سويا في هيئة سلوك جرمي ينطبق عليه الوصف المقرر قانونا للإبادة الجماعية .

قد تظهر إزاء اشتراط المعاصرة بين الركن المادي والركن المعنوي في جريمة الإبادة الجماعية صعوبة كبيرة، فمن المألوف أن ترتكب هذه الجريمة من خلال هرمية وظيفية معينة وعبر سلسلة من الأوامر، فعلى رأس هذه السلسلة هناك الأشخاص المخططون والموجهون لإرتكاب هذه الجريمة، ومن الطبيعي أن تتوافر "نية تدمير الجماعة المستهدفة" لدى هؤلاء الأشخاص. وفي نهاية السلسلة يوجد الأشخاص الذين يقومون بتنفيذ الخطة أو بتنفيذ الأوامر الصادرة لهم من الأعلى بإتيان جملة من الأفعال الجرمية، وليس شرطا أن يتوافر القصد الخاص أو "نية الإبادة" لدى هؤلاء الأشخاص جميعا .

إذا كانت الفقرة الثالثة من المادة الخامسة والعشرين من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية قد عالجت هذه المسألة معالجة عامة من خلال تأكيدها على أن الشخص يكون مسؤولا جزائيا "إذا إرتكب الجريمة بصفته الفردية أو بالإشتراك مع آخر أو عن طريق شخص أخر، كما قد يكون مسؤولا عنها إذا امر بإرتكابها أو حث على إرتكابها أو قدم عونا أو حرض أو ساعد باي شكل آخر لتيسير إرتكابها"، فإن الأمر يبدو أكثر تعقيدا بخصوص جريمة الإبادة الجماعية. فما هي العلاقة بين "نية تدمير الجماعة" وبين العلم بالجريمة؟ وهل ثمة صلة بين "القصد الخاص" وحجم الجماعة المستهدفة؟ وكيف يمكن إثبات "نية التدمير" لدى مرتكبي الأفعال الجريمة؟
أ‌- العلاقة بين القصد الخاص والعلم في جريمة الإبادة الجماعية:

يثار التساؤل حول إمكانية إدانة شخص ما بإرتكاب جريمة إبادة جماعية في الحالة التي يشارك فيها في إتيان فعل من الأفعال الجرمية المكونة للركن المادي للجريمة وكان عالما أو كان يتوجب عليه العلم بأنه يساهم في سلوك جرمي سيفضي إلى تدمير كلي أو جزئي للجامعة الواقع عليها السلوك الجرمي والتي تصلح أن تكون محلا لإبادة جماعية.

ثمة إتجاه فقهي يتجه نحو إعتبار القصد الخاص أو "نية الإبادة" متحققة عندما يرتكب الفاعل فعله وهو عالم بأن الأثر الظاهر لفعله سيكون التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية بصفتها هذه . لكن هذه النزعة الفقهية لا تخلو من عيب فحواه أن تطبيقها قد يجعل الضابط المعول عليه لقيام الجريمة متمثلا في النتيجة المترتبة على السلوك الجرمي، وهي تدمير الجماعة. وستؤدي بالنتيجة إلى أن تحل النتيجة الجرمية المتوخى تحقيقها محل إدراك مرتكب الجريمة . وكما هو معلوم فإن قيام جريمة الإبادة الجماعية ليس مرتبطا بتحقق النتيجة المرجوة فعلا، فيكفي توافر "نية الإبادة" لدى الفاعل لقيامها.

وقد قضت المحكمة الجنائية الدولية لرواندا أن أي شخص متهم بالإبادة الجماعية أو بالمساهمة الجرمية في الإبادة الجماعية يجب أن تتوافر لديه "نية الإبادة" . فلا يكفي أن يكون المتهم إذا عالما بأنه يساهم في التدمير فقط.

ومن الملاحظ في هذا المجال أن اللجنة التحضيرية للمحكمة الجنائية الدولية أشارت في مشروع نص أركان الجرائم إلى أن الإبادة الجماعية بالقتل – على سبيل المثال – تتحقق عند توافر الأركان الآتية:

1. أن يقتل مرتكب الجريمة شخصا أو أكثر.
2. أن يكون الشخص أو الأشخاص منتمين لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية معينة.
3. أن ينوي مرتكب الجريمة إهلاك تلك الجماعة القومية أو الإثنية أو العرقية أو الدينية كليا أو جزئيا بصفتها تلك.
4. أن يصدر التصرف في سياق نمط سلوك مماثل واضح موجه ضد تلك الجماعة أو أن من شأن ذلك التصرف أن يحدث بحد ذاته إهلاك الجماعة .

وليس واضحا من النص السابق إشتراط أن يكون مرتكب الجريمة عالما أن فعله يصدر في سياق نمط سلوك مماثل. وقد أصبح شائعا أن عمد المحاكم إلى التحقق من وجود سياق خاص بالإبادة الجماعية من خلال معيار موضوعي يقوم على اتساع حجم ونطاق الجرائم المرتكبة وجسامتها .
ومن الجدير بالذكر في هذا المجال أن اللجنة التحضيرية للمحكمة الجنائية الدولية كانت قد اقترحت في الصيغة الأولية لمشروع نص أركان الجرائم وجوب أن يكون مرتكب الجريمة "عالما أو قادرا على العلم بأن فعله سيهلك الجماعة كليا أو جزئيا"، لكنها عدلت عن هذا الإقتراح في الصيغة النهائية للمشروع .

يستنتج مما سبق ان الإبادة الجماعية تكون متحققة عند توافر القصد الخاص بهذه الجريمة ولا يشترط أن يكون الفاعل عالما أو قادرا على العلم بأن سلوكه سيفضي إلى تدمير الجماعة كليا أو جزئيا. ويلاحظ في هذا الشأن أن مقدمة المادة (6) من الصيغة النهائية لمشروع نص أركان الجرائم المقدم من اللجنة التحضيرية للمحكمة الجنائية الدولية قد أوضحت أنه: "على الرغم من الشرط المعتاد الخاص بالركن المعنوي المنصوص عليه في المادة 30 ( من نظام روما الأساسي) ومع التسليم بأن العلم بالظروف تجري معالجته عادة لدى إثبات القصد بإرتكاب الإبادة الجماعية، فإن المحكمة هي التي تقدر على أساس كل حالة على حدة الشرط المناسب – إن وجد – للركن المعنوي المتعلق بهذا الظرف".

وتنص المادة 30 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (1998) على أنه لا يكون الشخص مسؤولا جنائيا عن جريمة تدخل ضمن الإختصاص النوعي للمحكمة إلا إذا تحققت الأركان المادية مع توافر القصد والعلم، ولأغراض تطبيق المادة 30 فإن القصد يكون متحققا لدى الشخص عندما:

أ‌- يقصد هذا الشخص – فيما يتعلق بسلوكه – إرتكاب هذا السلوك.
ب‌- يقصد هذا الشخص – فيما يتعلق بالنتيجة – التسبب في تلك النتيجة أو يدرك أنها ستحدث في إطار المسار العادي للاحداث". وقد حددت المادة ذاتها في الفقرة الثالثة منها المقصود بالعلم، فنصت على أن "العلم" هو "أن يكون الشخص مدركا أنه توجد ظروف أو ستحدث نتائج في المسار العادي للأحداث".

يظهر من النصوص السابقة جميعها أن المحكمة الجنائية الدولية تتمتع بسلطة التقرير في كل قضية على حدة وجوب توافر العلم بوجود الظروف والسياق المتعلقين بإرتكاب الجريمة، بالإضافة إلى القصد الخاص المشترط توافره في هذه الجريمة وهو نية تدمير الجماعة محل الجريمة.

ت‌- العلاقة بين "نية الإبادة" وحجم الجماعة المستهدف تدميرها:

أثارت العلاقة بين عبارة "نية التدمير" وعبارة "الكلي أو الجزئي" جدلا واسعا وكبيرا وقد بدأ هذا الجدل منذ الأعمال التحضيرية المتعلقة بإتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، فإذا كانت عبارة "الكلي أو الجزئي" قد أضيفت بناء على إقتراح المندوب النرويجي في اللجنة السادسة التابعة للأمم المتحدة، فإن الغرض الأساسي من هذا الإقتراح كان التأكيد على فكرة مؤداها أنه لا يشترط لقيام هذه الجريمة هلاك أعضاء الجماعة كافة، وقد أبدى عدد من المندوبين آنذاك وجهات نظر متباينة إزاء هذا الإقتراح ، ورغم ذلك إعتمد الإقتراح بنسبة عالية من الأصوات.
فالأعمال التحضيرية الخاصة بإتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لا تساعد في تحديد العلاقة بين "نية التدمير" وحجم الجماعة المستهدف القضاء عليها وإبادتها. فما هو المقصود بالقضاء على الجماعة "كليا أو جزئيا؟ وهل يقصد بذلك تدمير الجماعة في شتى أنحاء العالم بأكملها وأينما وجدت، أم يكفي لقيام الجريمة وتوافر "نية الإبادة" إستهداف جزء من هذه الجماعة جرى تحديده من قبل مرتكبي الجريمة؟ فسرت عبارة "التدمير الكلي أو الجزئي" من خلال الإجتهادات القضائية بأنها تعني إهلاك نسبة معتبرة أو مهمة كما أو كيفا من أعضاء الجماعة المتعرضة للإبادة . وأوضحت هذه الإجتهادات القضائية أن المقصود بالعدد الجوهري أو المعتبر كمياً أو نوعياً يعني اتجاه القصد لإلحاق أذى بأغلبية واسعة من الجماعة المعرضة للإبادة أو اتجاه القصد الجرمي لإلحاق أذى بالأعضاء الذين يؤدي هلاكهم إلى اختفاء الجماعة أو تدميرها .

كما أقرت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة بإمكانية قيام جريمة الإبادة الجماعية عند إرتكابها في منطقة جغرافية محدودة أو ضيقة، ما دام الفعل الجرمي والقصد الجرمي يتجهان إلى التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة، وما دامت أركان متحققة في هذه الحالة .

يستطاع القول أن مسألة تحديد حجم التدمير الجزئي الواجب حصوله من الناحية العملية، وعلاقة حجم هذا التدمير بقيام القصد الخاص في جريمة الإبادة الجماعية ليست هينة أو يسيرة، فما زالت بحاجة إلى تفصيل وبيان أكثر دقة ووضحوا من قبل المحاكم الجنائية الدولية، حيث يصعب القول إن هناك نسبة عددية محددة أو مقررة بمقتضى الصكوك الدولية في هذا الخصوص . ويبدو أن هذه المسألة من الأفضل أن تبقى متروكة لسلطة المحاكم ذاتها، بحيث تخضع لتحليل وفحص في كل حالة على حدة، وفي ضوء المعطيات المتعلقة بكل حالة منها. ولعل اللجنة التحضيرية للمحكمة الجنائية الدولية قد أدركت هذه المسألة بدقة، مما دفعها إلى تضمين الصيغة النهائية من مشروع نص أركان الجرائم ركنا خاصا بإرتكاب جريمة الإبادة الجماعية يتعلق بهذا الأمر. فقد تضمن أركان جريمة الإبادة الجماعية وجوب إرتكاب الفعل ضد شخص أو أكثر من الأشخاص المنتمين لإحدى الجماعات المشمولة بتعريف الجريمة . وهذا يعني أن المسؤولية الجزائية عن جريمة الإبادة الجماعية تنهض في مواجهة مرتكبها عندما يقترف هذا الأخير الفعل الجرمي لمرة واحدة، حتى لو لم يكرره ثانية، ويشترط أن يكون هذا الفعل المنفرد جزءا من سياق نمط مماثل يهدف إلى تدمير جزء معتبر وجوهري من الجماعة.

ج- إثبات "نية الإبادة" :
من المستقر في إجتهادات المحاكم الجنائية الدولية الخاصة أو المؤقتة أن
"نية الإبادة" يمكن إستخلاصها وإثباتها بطرق الإثبات كافة ، فقد تستنبط من وقائع مادية معينة أو من نمط معين من السلوك الهادف لتدمير الجماعة المستهدف القضاء عليها.

لقد إستندت المحكمة الجنائية الدولي لرواندا في قضية Akayesu إلى أنه بالنظر للعدد الكبير من المذابح المرتكبة ضد جماعة التوتسي وبالنظر للطبيعة الواسعة لهذه الجرائم، حيث إرتكبت في مناطق عديدة في رواندا، ولأن الضحايا جرى اختيارهم وتحديدهم بصورة عمدية ومنظمة وعلى أساس انتمائهم إلى جماعات أخرى تم إقصاؤها واستبعادها من حياة المجتمع ووجوده، فإن المحكمة تستطيع الإستدلال على وجود قصد خاص لإرتكاب جرائم الإبادة الجماعية .

فالقصد الخاص في جريمة الإبادة الجماعية يستخلص في العادة كلما كان هناك دليل كاف على وجود نمط سلوكي، أو على وجود سلوك مؤثر جدا يكفي لتدمير الجماعة كليا أو جزئيا . ويضاف إلى ذلك أن القصد الخاص في هذه الجريمة يمكن إستنباطه من التحقق بوجود العلم بالنمط الأوسع أو بالسياق القائم على إحداث التدمير الكلي أو الجزئي للجماعة ، وهي مسألة جرى تحليلها في موضع سابق من هذه الدراسة. من المعلوم أنه لا يشترط لقيام جريمة الإبادة الجماعية هلاك الجماعة التي تتعرض لهذه الجريمة كليا، وهذا واضح تماما من الألفاظ المستخدمة في النص الخاص بتعريف جريمة الإبادة.

وبمعنى آخر، فإنه لا يشترط لإثبات "نية الإبادة" أن يكون السلوك الجرمي موجها نحو الجماعة المستهدفة بأكملها، وهي مسألة متروكة لتقدير المحكمة في كل حالة على حدة.


الخاتمـة

ساهمت المحاكم الجنائية الدولية الخاصة أو المؤقتة بإضاءة المكونات المختلفة لجريمة الإبادة الجماعية وبتطوير مفهوم هذه الجريمة. وقد عمدت هذه الدراسة إلى تفكيك مفهوم جريمة الإبادة الجماعية في ضوء الممارسة الدولية المعاصرة من أجل الكشف عن الدلالات الحديثة لكل ركن من أركان هذه الجريمة.

ومن الخصائص المميزة لمفهوم جريمة الإبادة الجماعية في القانون الدولي المعاصر أن الجماعات المحمية بمقتضى منع جريمة الإبادة الجماعة قد عرفت بصورة واسعة، ولكن هذا التفسير الموسع لم يتضمن البتة سحب آثار الحماية إلى جماعات جديدة غير تلك المحددة بتعريف الإبادة الجماعية. أما الإنتماء إلى هذه الجماعات، فلم يعد يستند إلى معيار موضوعي بل جرى تحديد هذا الإنتماء إستنادا إلى معيار شخصي وذلك لتحقيق أكبر قدر من الفعالية.

ومن المسائل الأخرى التي ميزت الممارسة الدولية المعاصرة المتعلقة بجريمة الإبادة الجماعية، عدم توسيع دائرة العقاب عن هذه الجريمة ليشمل الأشخاص الذين لم يكن يتوافر لديهم سوى العلم بخطة الإبادة، ويستثني من ذلك الأشخاص الذين توافرت بحقهم عناصر المساهمة الجرمية.

ويبدو أنه من المستحسن في هذا المجال جعل العلم كمرحلة اولى لاستنباط توافر "نية الإبادة". فإذا تعذر إثبات وجود هذه النية، يكون المتهم مسؤولا جزائيا عن مساهمته الجرمية في جريمة إبادة جماعية.

أصبح القانون الدولي المعاصر ثريا جدا جراء الأحكام القضائية والصكوك الدولية المختلفة المتعلقة بالمسؤولية الجزائية الفردية عن الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان الأساسية، وقد غدت تلك الإنتهاكات تعد من ضمن العوامل التي تخل بالسلم والأمن الدوليين. فجريمة الإبادة الجماعية – المعتبرة بحق كأشد صورة من صورة انتهاكات الحقوق الاساسية – ذات صلة وثيقة بالسلم والأمن الدوليين. فلم يعد مفهوم السلم والأمن الدولي مقتصرا عن "أمن الدول"، بل إنه إمتد ليشمل "أمن البشر" وغدت حماية الأشخاص في مواجهة جرائم الإبادة الجماعية على وجه الخصوص، وفي مواجهة الجرائم الدولية الأخرى على وجه العموم جزءا من النظام العام الدولي، والتزامات دولية "حجية على الكافة" مقررة لصالح الجماعة الدولية ذاتها.

يمثل تكريس المسؤولية الجزائية الدولية عن الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان تطورا جذريا في بنية النظام القانوني الدولي، فهو يصب في خانة النزعات والإتجاهات الفكرية الحديثة الداعية إلى فكرة "الجماعة الدولية"، وإلى إقامة مجتمع دولي مؤسسي بدلا من المجتمع الدولي القائم حاليا والذي يعد مجتمعا علائقيا أو بينيا في المقام الأول.