أبو حنيفة بين التوثيق والتجريح:
أولاً: بالغ بعض الأحناف في توثيق أبي حنيفة، بل تجاوزوا إلى أن قالوا: بأنه فوق التوثيق، وهو ناقد.
ودليلهم صنيع الذهبي في تذكرة الحفاظ، بأن من ترجم لهم في التذكرة يؤخذ قولهم في الجرح والتعديل.
وقالوا: هو من الأئمة في الجرح والتعديل، لأن الفقيه لا بد أن يكون كذا وكذا، وأن له أربعة آلاف شيخ؟
وهذه مبالغة لا يُعَتدّ بها، وفق ميزان الجرح والتعديل.
ثانياً: أقوال المعدِّلين:
اختلف النقاد في الاحتجاج بحديثه على قولين: فمنهم من قبله ورآه حجة. ومنهم من لينه لكثرة غلطه في الحديث(23).
قال ابن معين فيما رواه عنه صالح بن محمد جزره وغيره: أبو حنيفة ثقة. وقال أحمد بن محمد بن القاسم بن محرز عن يحيى بن معين فيه: لا بأس به.
قال أبو داود: رحم الله أبا حنيفة كان إماماً.
قال إسرائيل بن يونس: كان نعم الرجل النعمان، ما كان أحفظه لكل حديث فيه فقه، وأشد فحصه عنه، وأعلمه بما فيه من الفقه، وكان قد ضبط عن حماد فأحسن الضبط عنه(24).
ثالثاً: أقوال المجرِّحين:
قال علي بن المديني: قيل ليحيى القطان: كيف كان حديث أبي حنيفة؟ قال: لم يكن بصاحب حديث.
قال البخاري: ضعيف تركوا حديثه.
قال النسائي: ليس بالقوي في الحديث، وهو كثير الغلط والخطأ على قلة روايته.
قال النَّضر بن شُميل: هو متروك الحديث.
وقال ابن عدي: عامة ما يرويه غلط وتصحيف، وزيادات، وله أحاديث صالحة، وليس من أهل الحديث.
قال الثوري: ليس بثقة.
وقال ابن معين: لا يكتب حديثه. وقال مرة: هو أنبل من أن يكذب..(25)، قلت: وبالجملة فهو إمام بلا مدافعة ولا منازعة ولكن أهل الحديث قد اختلفوا فيه كما تقدم.
وقد ذكره ابن شاهين في كتابه: "ذكر من اختلف العلماء ونقاد الحديث منه (51) ومما قاله فيه: حديثه فيه اضطراب، وكان قليل الرواية، وكان بالرأي أبصر من الحديث، وإنما طعن عليه من طعن من الأئمة في الرأي، وإذا قلّ بصيرة العالم بالسنن، وفتح الرأي تكلم فيه العلماء بالسنن.
مؤلفاته:
لم يكن العصر الذي عاش فيه أبو حنيفة عصر تأليف أو تدوين بالمعنى الذي عرفناه فيما بعد، وكان قد شغل نفسه بالتدريس، حيث توافد عليه الطلاب من شتى الأقطار يسألونه ويقرؤون عليه، ولهذا لم تكن له مؤلفات إلا القليل، بل ذهب بعض المؤرخين إلى أنه لم يثبت له كتاب؟! ومما نسب إليه من مؤلفات ما يلي:
1- الفقه الأكبر، برواية حماد بن أبي حنيفة(26).
2- الفقه الأكبر، برواية أبي مطيع البلخي(27).
3- العالم والمتعلم، برواية أبي مقاتل السمرقندي(28).
4- رسالة الإمام أبي حنيفة إلى عثمان البتي(29).
5- الوصية، برواية أبي يوسف(30).
وهناك مؤلفات نسبت إليه مثل: (المقصود في الصرف)، نسب إلى أبي حنيفة في زمن متأخر كما ذكر فؤاد سزكين(31) وكتاب (الحيل) ذكره الخطيب في تاريخ بغداد(32)، وهناك مؤلفات كثيرة أوردها سزكين إلا أنها لم تشتهر كما اشتهرت الكتب الخمسة السابقة، وقد قام الدكتور محمد الخميِّس بدراستها من خلال رجال إسنادها، وخلص إلى ما يلي: "أن هذه الكتب من ناحية الرواية ووفق منهج المحدثين في النقد لا تثبت للإمام أبي حنيفة"، ومما قال: "ولم أقف على رواية صحيحة أو نسخ معتمدة حتى نقطع أنها للإمام أبي حنيفة، ولاسيما وقد صرح بعض الحنفية كالزَّبِيدي، وأبي الخير الحنفي، بأن هذه الكتب ليست من تأليف الإمام مباشرة بل هي أماليه وأقواله التي قام تلاميذه بجمعها وتأليفها(33).
ولعل من أهم ما يذكر للإمام أبي حنيفة من تأليف كتاب (الآثار) والذي يرويه صاحباه أبو يوسف ومحمد بن الحسن، وهو مطبوع بالروايتين، وهو أوثق كتاب في روايات أبي حنيفة.
الحديث عن مسنده:
انشغل أبو حنيفة بطلب العلم، واهتم بعلم الحديث، فسمع الحديث من شيوخ أجلاء، تقدم ذكر بعضهم، وارتحل في سبيل ذلك(34)، ومع ذلك فهو: "مقل في رواية الحديث".
ولعل السبب في ذلك تشدده في الرواية، فهو يقول: لا حجة إلا فيما رواه الراوي من حفظه(35).
واختلف العلماء في نسبة "المسند" إليه، وهل ألفه أبو حنيفة، أو هو رواية أصحابه عنه، تلقوه بالطريقة التي تلقوا بها فقهه.
والراجح: كما ذهب إليه المحققون من المحدثين أنه لا يوجد تصنيف له في الحديث، وإنما هناك مسانيد أُلِّفتَ بعد وفاته ليست من تأليفه، وإنما هي روايات عنه رتبها وبوَّبها من رواها عنه وفي رسالة الدكتور شاكر ذيب فياض عن أبي حنيفة ذكر أن روايات أبي حنيفة في مسند الحَصْفَكي بلغت 600 بإسناده إلى أبي حنيفة وفي مسند الخوارزمي (655).
وخلال دراسته تلك استبعد كتاب جامع المسانيد للخوارزمي لأمور هي:
1- الخوارزمي نفسه لم يجد من وثقه، حتى من ترجم له من الحنفية كالقرشي في الجواهر المضية لم يذكر سوى أنه تفقه على ثلاثه وقدم دمشق.
2- عمله في الجامع يدل على عدم تمكنه في الحديث على عصبية للمذهب لا ينبغي أن يتصف بها.
3- يورد أحاديث موضوعه في الثناء على أبي حنيفة ولا ينتقدها.
4- ثم هو يورد ذكر أصحاب المسانيد، ويصفهم بأعلى درجات التوثيق، والأمر ليس كذلك، بل فيهم المتهم، والكذاب، والضعيف.
5- ويؤكد الخوارزمي أنه جمع جامعه من 15 مسنداً، والواقع لا يؤيده. ولم يجد حديثاً واحداً من رواية ابن عدي، أو أبي يوسف، مع أنه ذكر أنه جمع مسانيدهم، أما من مسند أبي نعيم فأورد حديثين فقط.
6- وقد ذكر الخوارزمي أن بعض الجاهلين نسبه إلى قلة رواية الحديث، وقال: فلحقتني حمية دينية ربانية، وعصبية حنفية نعمانية فأردت أن أجمع من 15 مسنداً.
7- ثم إن بعض أصحاب المسانيد ممن لا يعتمد على روايتهم، ولا يصح الاحتجاج بهم مثل: