بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المائدة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله،،،
نزل هذا القرآن الكريم على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم لينشى ء به أمة ، وليقيم به دولة ، ولينظم به مجتمعا ، وليربي به ضمائر وأخلاقا وعقولا ، وليحدد به روابط ذلك المجتمع ، فيما بينه ، وروابط تلك الدولة مع سائر الدول ، وعلاقات تلك الأمة بشتى الأمم. وليربط ذلك كله برباط قوي واحد ، يجمع متفرقة ، ويؤلف أجزاءه ، ويشدها كلها إلى مصدر واحد ، وإلى سلطان واحد ، وإلى جهة واحدة وذلك هو الدين.
ومن ثم نجد في سورة المائدة - كما وجدنا في السور الثلاث الطوال قبلها- موضوعات شتى ، الرابط بينها جميعا هو هذا الهدف الأصيل الذي جاء القرآن كله لتحقيقه: إنشاء أمة ، وإقامة دولة ، وتنظيم مجتمع ، على أساس من عقيدة خاصة ، وتصور معين ، وبناء جديد. الأصل فيه إفراد الله - سبحانه - بالألوهية والربوبية والقوامة والسلطان ، وتلقي منهج الحياة وشريعتها ونظامها وموازينها وقيمها منه وحده بلا شريك.
وكذلك نجد بناء التصور الاعتقادي وتوضيحه وتخليصه من أساطير الوثنية ، وانحرافات أهل الكتاب وتحريفاتهم . إلى جانب تبصير الجماعة المسلمة بحقيقة ذاتها وحقيقة دورها ، وطبيعة طريقها. إلى جانب أحكام الشعائر التعبدية التي تطهر روح الفرد المسلم وروح الجماعة المسلمة ، وتربطها بربها. إلى جانب التشريعات الاجتماعية التي تنظم روابط مجتمعها ، والتشريعات الدولية التي تنظم علاقاتها بغيرها. إلى جانب التشريعات التي تحلل وتحرم ألوانا من المآكل والمشارب والمناكح ، أو ألوانا من الأعمال والمسالك. كل ذلك حزمة واحدة في السورة الواحدة يمثل معنى "الدين" كما أراده الله.
على أن السياق القرآني لا يكتفي بهذا المعنى الضمني ، إنما ينص عليه نصا ، ويؤكده تأكيدا ، ويتكئ عليه اتكاء شديدا وهو ينص على أن هذا كله هو "الدين" ، وأن الإقرار به كله هو "الإيمان"، وأن الحكم به كله هو "الإسلام" و الذين لا يحكمون بما أنزل الله هم الكافرون، الظالمون، الفاسقون. وأنهم يبتغون حكم الجاهلية. وهذا الأصل الكبير هو الذي يبرز في هذه السورة بروزا واضحا مقررا منصوصا عليه نصا . إلى جانب تصحيح التصور ألاعتقادي الذي يقوم عليه هذا الأصل الكبير.
ومن ثم تتوارد النصوص هكذا في ثنايا السورة ، في تقرير الألوهية الواحدة ، ونفي كل شرك أو تثليث أو خلط بين ذات الله - سبحانه - وبين غيره، أو بين خصائص الألوهية ، وخصائص العبودية على الإطلاق (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم).
ويتضمن سياق السورة أحكاما شرعية منوعة: منها ما يتعلق بالحلال والحرام من الذبائح ومن الصيد. ومنها ما يتعلق بالحلال والحرام في فترة الإحرام وفي المسجد الحرام. ومنها ما يتعلق بالحلال والحرام من النكاح. ومنها ما يتعلق بالطهارة والصلاة. ومنها ما يتعلق بالقضاء وإقامة العدل فيه. ومنها ما يتعلق بالحدود في السرقة وفي الخروج على الجماعة المسلمة. ومنها ما يتعلق بالخمر والميسر والأنصاب والأزلام. ومنها ما يتعلق بالكفارات في قتل الصيد مع الإحرام وفي اليمين. ومنها ما يتعلق بالوصية عند الموت. ومنها ما يتعلق بالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي من الأنعام، ومنها ما يتعلق بشريعة القصاص في التوراة مما جعله الله كذلك شريعة للمسلمين. وهكذا تلتقي الشرائع بالشعائر في سياق السورة بلا حاجز ولا فاصل!
وإلى جوار هذه الأحكام الشرعية المنوعة يجيء الأمر بالطاعة والتقيد بما شرعه الله وما أمر به ، والنهي عن التحريم والتحليل إلا بإذنه ، ويجيء النص على أن هذا هو الدين الذي ارتضاه الله للأمة المؤمنة بعد أن أكمله وأتم به نعمته (يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ، ولا الشهر الحرام ) (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله) وهذا هو الدين كما أخذ الله ميثاق العباد جميعا عليه ، وكما جاء به كل الرسل من عنده.
شأن آخر يتناوله سياق السورة، ذلك هو شأن هذه الأمة المسلمة، دورها الحقيقي في هذه الأرض، وموقفها تجاه أعدائها، وكشف هؤلاء الأعداء، وكيدهم لهذه الأمة ولهذا الدين، وبيان ما هم عليه من الضلالة والانحراف في عقيدتهم، وما هم عليه كذلك من العداء للجماعة المسلمة وإجماع الكيد لها. والتي سبق الحديث عنها في السور الثلاث الطوال السابقة.
إن كتاب هذه الأمة هو كتاب الله الأخير للبشر ، وهو يصدق ما بين يديه من الكتاب في أصل الاعتقاد والتصور ، ولكنه - بما أنه هو الكتاب الأخير- يهيمن على كل ما سبقه وإليه تنتهي شريعة الله التي ارتضاها لعباده إلى يوم الدين ، فما أقره من شرائع أهل الكتاب قبله فهو من شرع الله ، وما نسخه فقد فقد صفته هذه وإن كان واردا في كتاب من الكتب المنزلة.
ومن ثم فإن دور هذه الأمة هو أن تكون الوصية على البشرية ، تقيم العدل في الأرض ، غير متأثرة بمودة أو شنآن ، وغير ناظرة في إقامة العدل إلى ما أصابها أو يصيبها من الناس فهذه هي تكاليف القوامة والوصاية والهيمنة ، ومن مقتضيات أن هذه الأمة هي وارثة الرسالات ألا تتولى من يكفرون بهذا الدين ، ومن يتخذون فرائضه وشعائره هزوا ولعبا، إنما تتولى الله.
ومع تقارب الموضوعات التي تعالجها السور الطوال الثلاث السابقة مع الموضوعات التي تعالجها هذه السورة - كما يبدو من هذا الاستعراض السريع - فإنه تبقى لكل سورة "شخصيتها" أسلوبها الخاص في معالجة هذه الموضوعات ، والطابع البارز لهذه السورة هو طابع التقرير والحسم في التعبير. سواء في ذلك الأحكام الشرعية التي تقتضي بطبيعتها التقرير والحسم في القرآن كله ، أو المبادئ ء والتوجيهات ، التي قد تتخذ في غير هذه السورة صورا أخرى ، ولكنها في هذه السورة تقرر في حسم وصرامة ، في أسلوب التقرير الدقيق ، وهو الطابع العام المميز للسورة . من بدئها إلى منتهاها.
وقبل أن ننهي هذا التقديم السريع للسورة يحسن أن نبرز الحقيقية التي تتضمنها الآية الثالثة منها. فإن قول الله سبحانه لهذه الأمة (اليوم أكملت لكم دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا) يتضمن توحيد المصدر الذي تتلقى منه هذه الأمة منهج حياتها ونظام مجتمعها ، وشرائع ارتباطاتها ومصالحها إلى يوم القيامة ، كما يتضمن استقرار هذا الدين بكل جزئياته الاعتقادية والتعبدية والتشريعية، فلا تعديل فيها ولا تغيير ، فقد اكتمل هذا الدين وتم وانتهى أمره. وتعديل شيء فيه كإنكاره كله ، لأنه إنكار لما قرره الله من تمامه وكماله ، وهذا الإنكار هو الكفر الذي لا جدال فيه. أما العدول عنه كله إلى منهج آخر ، ونظام آخر ، وشريعة أخرى ، فلا يحتاج منا إلى وصف ، فقد وصفه الله - سبحانه- في السورة.
إن هذا المنهج الإلهي المشتمل على التصور الاعتقادي ، والشعائر التعبدية ، والشرائع المنظمة لنشاط الحياة كله ، يحكم ويصرف ويهيمن على نشاط الحياة كله ، وهو يسمح للحياة بأن تنمو في إطاره وترتقي وتتطور ، دون خروج على أصل فيه ولا فرع ، لأنه لهذا جاء ، ولهذا كان آخر رسالة للبشر أجمعين.