المبحث الرابع:
الآثار الاقتصادية والاجتماعية للشركات المتعددة الجنسيات
تعود ملكيـة الشركات المتعددة الجنسيات إلى دول عدّة : هولندية أو ألمانية، فرنسية أو سويسريّة، إيطالية أو كندية، سويدية أو يابانية. لكن ملكية أكثرها تعود إلى شركات أميركية المنشأ.
وتجلت سيطرة هذه الشركات على أسواق أميركا عقب الحرب العالميـة الثانية، بعد أن اضطُرَّت الصناعة فيها للاعتماد على نفط هذه الشركات التي حققت بالتالي أرباحاً خياليـة. وكان هذا، بخلاف ما توصلت إليه أوروبا واليابان في نهاية عام 1993 من قوة اقتصادية بدأت تنافس الشركات الأميركية في العالم. ويتبدى هذا الضعف الذي اعترى الشركات الأميركيـة خلال السنوات الأخيرة، من زيارات الرئيس الأميركي جورج بوش إلى كل من اليابان وبعض الدول الأوروبية عام 1992، ضمن إطار اتفاقات الغات للتجارة الدولية، وذلك لدعم الميزان التجاري فيها والذي سجل عجزاً كبيراً وصل إلى 60 مليار دولار لصالح اليابان.
وفي هذا الإطار، أكّد عدد من الباحثين في هيئة الأمم المتحدة أن هناك في الوقت الراهن (1993) ما لا يقل عن 35 ألف شركـة متعددة الجنسية تسيطر على نحو 170 ألف فرع أجنبي تابع لها خارج حدود الدولة الأم. وتضيف هيئة الأمم في مكان آخر من تقريرها، أن اكثر من 100 شركة متعددة الجنسيات تستحوذ على ما قيمته 3 تريليون دولار. ويقع ما قيمته 1.2 تريليون دولار منها خارج بلدان هذه الشركات. وكما تشير الإحصاءات العائدة لوزارة التجارة الأميركية، فإن قيمة الأصول العائدة لراس المال الخاص غير المقيم في الولايات المتحدة (الأجنبي) بلغت 8.5 تريليون دولار عام 1990(1).
منهج العلاقة مع العالم الصناعي
يشير أحد الباحثين إلى الدور الذي تضطلع به الشركات المتعددة الجنسيـة، بأن هناك نقصاً كبيراً في المعلومات والدراسات حول ممارسات هذه الشركات في البلدان العربية. ويبدو من خلال الوثائق، أن الدخل الأساسي إلى المنطقة بدأ في قطاع النفط، من خلال شركات لا يتعدَّى عددها السبع، كانت تسيطر على ما يزيد عن 80 بالمئة من مجموع إنتاج النفط العالمي. وبدأت الدول وشركاتها التدخل أكثر في شؤون البلدان النفطية بتحديد كميات الإنتاج فيها وفرض مناصفة في الأرباح، ما لبثت أن صارت مشاركة فيها. وقد استفادت البلدان المنتجة للنفط من حريّة تحديد الإنتاج والأسعار بعد أن كانت في أيدي الشركات الكبرى. وتم ذلك بعد التعاون بين الشركات المذكورة وبلدان النفط في إطار منظّمة (الأوبك)، وهي البلدان العربية المنتجة للنفط.
وقبلت الشركات والدول التابعة لها هذه النتائج، ثم استطاعت بعدها الالتفاف على جميع المكتسبات التي حصلت عليها الدول المنتجـة، وذلك بأخذ نسبة كبيرة من عائدات النفط (خلال السبعينات) عبر العمل في قطاعات البنوك والمال، وقطاع الصناعات التحويليّة، وقطاع السياحة. ولعبت البنوك وشركات الاستثمار التي أسّستها تلك الشركات في البلدان العربيـة وخاصة النفطية منها، ولا تزال، دوراً مهماً في توجيه وتوظيف أموال الفوائض النفطية نحو الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية الصناعية.
في هذا الصدد، كتب "ريمون فيرنون"، وهو أستاذ في جامعة هارفرد وأحد أبرز المهتمّين بظاهرة الشركات المتعددة الجنسيّة، في كتاب أصدره عام 1977 تحت عنوان "عاصفة فوق الشركات المتعددة الجنسيّات" :
"إن هذه الشركات قد أصبحت تجسّد كل ما هو فاسد في المجتمع الصناعي الحديث...، وهي في ظل هيمنتها على الاقتصاد العالمي، نراها لا ترحم في حساباتها الشعوب النامية، ومنها العالم العربي، وسوف تستمر في التأثير على الحكومات في هذه البلدان. علماً أن رؤوس الأموال الخاصة بالشركات الكبرى المتجهـة نحو البلدان النامية ضعيفة، في حين تتركز وتنصب على الدول الغنيّة من العالم. فبينما توجهت 25 بالمئـة من رساميل الشركات الكبرى بهدف الاستثمارات، في السبعينات، إلى البلدان النامية، إنخفضت هذه النسبة إلى دون الـ15 بالمئة من تلك الرساميل خلال الثمانينات، بحيث أمسى العديد من البلدان النامية معزولاً عن أسواق رأس المال العالمية بسبب المشاكل وتزايد الديون الخارجية.
وبخلاف ذلك، تشهد بلدان أميركا الشمالية وبلدان المجموعة الأوروبية واليابان، إزالة الحواجز التي تحدّ من حرّية انتقال وتدفّق رؤوس الأموال وحركة السلع والخدمات والعمالة، وذلك في إطار منظّمة التجارة الدولية (الغات.(
حيال هذا الواقع، وقف الباحثون أمام أزمة العلاقة بين الشركات المصدّرة للتقنيات ودول العالم النامي، ومنها العالم العربي المستهلك لها، مواقف تراوحت بين التشدّد والاعتدال. فالتيار الأول، أكّد على أخذ الحذر من طبيعة النظام الرأسمالي لأنه يعمل على إثراء الدول الصناعية عن طريق التراكم الرأسمالي، مقابل إفقار دول الجنوب الواقعة على أطراف النظام المذكور. أما الاتجاه المعتدل، فيؤكّد على الترابط بين العالمين (الأول والثالث)، وضرورة تطوير أوضاع الاقتصاد العالمي بهدف تحسين نصيب العالم الثالث، ومنه العالم العربي، من مردود عائدات التجارة الدولية.
ونظراً لاحتكار الشركات الكبرى للأسواق، وبما أن الهمّ الأول والأخير هو الربح في موضوع بيع التكنولوجيا للعالم النامي، يقترح بعض الباحثين العرب إعادة نظر جذريّـة بنمط العلاقات مع العالم الصناعي، وهو ما اصطُلح على تسميته بالعالم الأول، بحيث تصبح العلاقة محصورة في استيراد ما لا يمكن إنتاجه في العالم العربي من سلع استهلاكية عادية وتجهيزيّة، وفي تأمين نجاح سياسة توطين العلم والتكنولوجيا محلياً، وممارسة سياسة انتقائيّة شديدة في طريقة استقدام الخبرات من الخارج وإرسال الطلاب العرب إلى العالم الخارجي سعياً وراء التعاقد بشكل مدروس مع الشركات المتعددة، بعد اختيار أنسب التجهيزات، آخذين في الاعتبار الظروف المحليّة ومستويات الكفاءة والخبرة المتوفرة.
وقد يطول الوقت، كما يقول أحد خبراء الاقتصاد العرب، قبل أن يدخل العالم العربي تدريجاً في مسار خبرة تكنولوجية ذاتية وتراكم لها. ويضيف إنَ التخفيف من التبعيّة هو تأمين التناسق بين مصالحنا السياسية كعرب مع العالم الأول، ويتم ذلك بالجهد الذاتي الجماعي، الذي يتطلّب تضحيـات في مستويات الاستهلاك، للحصول على الحد الأدنى من مستوى الإنتاج الصناعي والزراعي المستقل
والجدير بالذكر، أن الشركات الأجنبية في العالم العربي لا يزال لها حصّة الأسد في تنفيذ المشاريع التنمويـة العديدة، على الرغم من وجود بعض الشركات العربية الناشطـة التي يُسمح لها بالدخول في منافسة أكثر توازناً مع الشركات المتعددة الجنسيّة. إن توسيع ظاهرة التبعيّة الاقتصادية العربية للعالم الأول في السنين العشر الماضية، إضافة إلى التبعية التكنولوجية؛ دفع العالم العربي إلى "تبعيّة غذائية" نتيجة تطور أنماط الاستهلاك مع نمو عدد السكان، مقابـل ركود وتراجع في الإنتاج الزراعي العربي. كل هذه الأمور دفعت بالعالم العربي إلى "تبعيّة مالية" بالنسبة إلى مراكز المال في العالم الأول (الصناعي)، وغرق بعض بلدان المنطقـة العربية في بحر من الديون الخارجية، التي أصبحت أسيرة المساعدات والقيود من دول العالم الأول للحفاظ على مستويات الإنتاج والاستهلاك، إضافة إلى توظيف دول النفط العربية أموالها في أسواق المال الدولية.
أما في ما يتعلق بالتجارة الخارجية، فقد تزايدت نسبة نصيب الدول الصناعية الرأسمالية في هذه التجارة مع البلدان العربية، وارتفع هذا النصيب خلال السبعينات بحيث أصبح يتجاوز ثلاثة أرباع التجارة الخارجية العربية في الصادرات والواردات على السواء.
كل هذا أدّى إلى اعتماد بعض البلدان العربية، بشكل متزايد، على الأسواق المالية للدول الصناعية في الحصول على القروض اللازمة لتمويل مشاريع التنمية فيها.
وبذلك أصبحت البلدان العربيـة، شأنها شأن بعض دول العالم الثالث، مرتبطة بشبكة كبيرة من العلاقات الاقتصادية متعددة الجوانب مع مجموعة الدول الصناعية الغربية. وهذا من شأنه أن ينتقص من حرية اتخاذ القرارات في هذا المجال.