الخبر عن الكاهنة وقومها جراوة من زناتة وشأنهم مع المسلمين عند الفتح:
كانت هذه الأمّة من البربر بأفريقية والمغرب في قوّة وكثرة وعديد وجموع، وكانوا يعطون الإفرنجة بأمصارهم طاعة معروفة وملك الضواحي كلّها لهم، وعليهم مظاهرة الإفرنجة مهما احتاجوا إليهم. ولما أطلّ المسلمون في عساكرهم على أفريقية للفتح ظاهروا جرجير في زحفه إليهم حتى قتله المسلمون، وانفضّت جموعهم وافترقت رياستهم ولم يكن بعدها بأفريقية موضع للقاء المسلمين بجمعهم لما كانت غزواتهم لكل أمّة من البربر في ناحيتها وموطنها ومع من تحيّز إليهم من قبل الإفرنجة.
ولما اشتغل المسلمون في حرب عليّ ومعاوية أغفلوا أمر أفريقية، ثم ولاّها معاوية بعد عام عقبة بن نافع الفهري فأثخن في المغرب في ولايته الثانية، وبلغ إلى السوس، وقتل بالزاب في مرجعه. واجتمعت البربر على كسيلة كبير أوْربة. وزحف إليه بعد ذلك زهير بن قيس البلوي أيام عبد الملك بن مروان فهزمه وملك القيروان وأخرج المسلمين من افريقية. وبعث عبد الملك حسان بن النعمان في عساكر المسلمين فهزموا البربر، وقتلوا كسيرة واسترجعوا القيروان وقرطاجنة وإفريقية وفر بقية الإفرنجة والروم إلى صقلية والأندلس، وافترقت رياسة البربر في شعوبهم. وكانت زنانة أعظم قبائل البربر وأكثرها جموعا وبطوناً، وكان موطن جراوة منهم بجبل أوراس، وهم ولد كراو بن الديرت بن جانا. وكانت رياستهم للكاهنة دهيا بنت تابنة بن نيقان بن باورا بن مصكسري بن أفصد بن وصيلا بن جراو. وكان لها بنون ثلاثة ورثوا رياسة قومهم عن سلفهم وربوا في حجرها، فاستبدت عليهم وعلى قومها بهم، وبما كان لها من الكهانة والمعرفة بغيب أحوالهم وعواقب أمورهم فانتهت إليها رياستهم.
قال هاني بن بكور الضريسي: ملكت عليهم خمسا وثلاثين سنة وعاشت مائة
وسبعا وعشرين سنة. وكان قتل عقبة بن نافع في البسيط قبلة جبل أوراس بإغرائها برابرة تهودا عليه، وكان المسلمون يعرفون ذلك منها. فلما انقضى جمع البربر، وقتل كسيلة زحفوا إلى هذه الكاهنة بمعتصمها من جبل أوراس، وقد ضوي إليها بنو يفرن ومن كان بإفريقية من قبائل زناتة وسائر البتر فلقيتهم بالبسيط أمام جبلها. وانهزم المسلمون واتبعت آثارهم في جموعها حتى أخرجتهم من إفريقية، وانتهى حسان إلى برقة فأقام بها حتى جاءه المدد من عبد الملك، فزحف إليهم سنة أربع وسبعين وفض جموعهم، وأوقع بهم وقتل الكاهنة، واقتحم جبل أوراس عنوة واستلحم فيه زهاء مائة ألف.
وكان للكاهنة ابنان قد لحقا بحسان قبل الواقعة، أشارت عليهما بذلك أمهما دهيا لأثارة علم كان لديها في ذلك من شيطانها فتقبلهما حسان. وحسن إسلامهما واستقامت طاعتهما. وعقد لهما على قومهما جراوة ومن انضوى إليهم بجبل أوراس. ثم افترق ففهم من بعد ذلك وانقرض أمرهم. وافترق جراوة أوزاعا بين قبائل البربر، وكان منهم قوم بسواحل مليلة، وكان لهم آثار بين جيرانهم هناك. وإليهم نزع ابن أبي العيش لما غلبه موسى بن أبي العافية على سلطانه بتلمسان أول المائة الرابعة حسبما نذكره. فنزل إليهم وبنى القلعة بينهم إلى أن خربت من بعد ذلك. والفل منهم بذلك الوطن إلى الآن لهذا العهد مندرجون في يطوفت ومن إليهم من قبائل غمارة، والله وارث الأرض ومن عليها.
الخبر عن مبتدأ دول زناتة في الإسلام ومصير الملك إليهم بالمغرب وإفريقية:
لما فرغ شأن الردة من إفريقية والمغرب، وأذعن البربر لحكم الإسلام وملكت العرب، واستقل بالخلافة ورياسة العرب بنو أمية اقتعدوا كرسي الملك بدمشق، واستولوا على سائر الأمم والأقطار، وأثخنوا في القاصية من لدن الهند والصين في المشرق، وفرغانة في الشمال والحبشة في الجنوب، والبربر في المغرب، وبلاد الجلالقة والإفرنجية في الأندلس. وضرب الإسلام بجرإنه، وألقت دولة العرب بكلكلها على الأمم. ثم جدع بنو أمية أنوف بني هاشم مقاسميهم في نسب عبد مناف، والمدعين
استحقاق الأمر بالوصية. وتكرر خروجهم عليهم، فأثخنوا فيهم بالقتل والأسر، حتى توغرت الصدور واستحكمت الأوتار، وتعددت فرق الشيعة باختلافهم في مساق الخلافة من علي كرم الله وجهه إلى من بعده من بني هاشم: فقوم ساقوها إلى آل العباس، وقوم إلى آل الحسن، وآخرون إلى آل الحسين، فدعت شيعة آل العباس بخراسان وقام بها اليمنية فكانت الدولة العظيمة الحائزة للخلافة ونزلوا بغداد واستباحوا الأمويين قتلا وسبيا. وخلص من جاليتهم إلى الأندلس عبد الرحمن بن معاوية بن هشام، فجدد بها دعوة الأمويين، واقتطع ما وراء البحر عن ملك الهاشميين فلم تخفق لهم به راية.
ثم نفس آل أبي طالب على آل العباس ما أكرمهم الله به من الخلافة والملك، فخرج المهدي محمد بن عبد الله المدعو بالنفس الزكية في بني أبي طالب على أبي جعفر المنصور، وكان من أمرهم ما هو مذكور واستلحمتهم جيوش بني العباس في وقائع عديدة. وفر إدريس بن عبد الله أخو المهدي ناجيا من بعض وقائعهم إلى المغرب الأقصى فأجاره البرابرة من أوروبة ومغيلة وصدينة، وقاموا بدعوته ودعوة بنيه من بعده، ونالوا به الملك وغلبوا على المغرب الأقصى والأوسط، وبثوا دعوة إدريس وبنيه من أهله بعده في أهله من زناتة مثل بني يفرن ومغراوة وقطعوه من ممالك بني العباس، واستمرت دولتهم إلى حين انقراضها على يد العبيديين.
ولم يزل الطالبيون أثناء ذلك بالمشرق ينزعون إلى الخلافة ويبثون دعاتهم بالقاصية، إلى أن دعا أبو عبد الله المحتسب بإفريقية إلى المهدي ولد إسمعيل الإمام ابن جعفر الصادق، فقام برابرة كتامة ومن إليهم من صنهاجة وملكوا إفريقية من يد الأغالبة. ورجع العرب إلى مركز ملكهم بالمشرق، ولم يبق لهم في نواحي المغرب دولة، ووضع العرب ما كان على كاهلهم من أمر المغرب ووطأة مضر بعد أن رسخت الملة فيهم، وخالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، واستيقنوا بوعد الصادق أن الأرض لته يورثها من يشاء من عباده.
فلم لنسلخ الملة بانسلاخ الدولة ولا تقوضت مباني الدين بتقويض معالم الملك،
وعدا من الله لن يخلفه في تمام أمره وإظهار دينه على الدين كله. فتناغى حينئذ البربر في طلب الملك والقيام بدعوة الأعياص من بني عبد مناف يسترون منها حسواً في ارتغاء إلى أن ظفروا من ذلك بحظ مثل كتامة بإفريقية،
ومكناسة بالمغرب. ونافسهم في ذلك زناتة، وكانوا من أكثرهم جمعا وأشدهم قوة فشمروا له حتى ضربوا معهم بسهم، فكان لبني يفرن بالمغرب وإفريقية على يد صاحب الحمار، ثم على يد يعلى بن محمد وبنيه ملك ضخم. ثم كان لمغراوة على يد بني خزر دولة أخرى تنازعوها مع بني يفرن وصنهاجة. ثم انقرضت تلك الأجيال وتجرد الحلك بالمغرب بعدهم في جيل آخر منهم، فكان لبني مرين بالمغرب الأقصى ملك، ولبني عبد الواد بالمغرب الأوسط ملك آخر تقاسمهم فيه بنو توجين والفل من مغراوة حسبما نذكر ونستوفي شرحه، ونجلب أيامهم وبطونهم على الطريقة التي سلكناها في أخبار البربر، والله المعين سبحانه لا رب سواه ولا معبود إلا إياه.