[align=center]03 - الرســول مع الناس [/align]
أمانته صلى الله عليه وسلم
الأمانة من أبرز أخلاق الرسل – عليهم الصلاة والسلام-، فنوح, وهود, وصالح, ولوط, وشعيب, في سورة الشعراء يخبرنا الله - عز وجل- أن كل رسول من هؤلاء قد قال لقومه: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}
ورسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم- قد كان في قومه قبل الرسالة وبعدها مشهوراً فيهم بأنه الأمين، وكان الناس يختارونه لحفظ ودائعهم، فيضعونها عنده. ولما هاجر - صلى الله عليه وسلم- وَكَّل علي بن أبي طالب برد الودائع إلى أصحابها.
ولقد بعث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه- إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- من اليمن بذهيبة في أديم مقروظ فقسمها بين أربعة نفر: بين عيينة بن بدر، وأقرع بن حابس، وزيد الخيل، الرابع: إما علقمة، وإما عامر بن الطفيل. فقال رجل من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء. فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماءِ صباحاً ومساءً). البخاري – الفتح- كتاب المغازي, باب بعث علي ابن أبي طالب وخالد إلى اليمن (7/665) رقم (4351), واللفظ له, ومسلم كتاب الزكاة, باب ذكر الخوارج وصفاتهم (2/742) رقم (1063).
لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- آمن الناس، وأصدقهم لهجة منذ كان، ولم يعثر عليه - صلى الله عليه وسلم- أنه خان الأمانة لا قبل النبوة ولا بعدها، ولم يجد خصومه أي خصلة تقدح فيه - صلى الله عليه وسلم-.
وكل هذا يدل على ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم- من الصدق والأمانة وغيرها من الصفات الحميدة.
وبعد ذكر هذه النماذج من صفاته -صلى الله عليه وسلم-، نذكر بعض الحوادث التي جمعت بعض الصفات التي كان يتصف بها نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم-:
المثال الأول: وصف أم المؤمنين خديجة:
لقد وصفت أم المؤمنين خديجة -رضي الله عنها- النبي-صلى الله عليه وسلم- بعدة صفات وذلك عندما رجع إليها بعد نزول الوحي عليه.
قال الحافظ ابن حجر: "وصفته بأصول مكارم الأخلاق؛ لأن الإحسان إما إلى الأقارب أو إلى الأجانب وإما بالبدن، أو بالمال، إما على من يستقل بأمره أو من لا يستقل، وذلك كله مجموع فيما وصفته به).
فتح الباري (1/33)
أخرج البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث عائشة-رضي الله عنها-: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم- رجع عندما نزل عليه الوحي يرجف فؤاده, فدخل على خديجة بنت خويلد- رضي الله عنها- فقال: زملوني زملوني، حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: (لقد خشيت على نفسي)، فقالت خديجة: "كلا والله! ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق" رواه البخاري واللفظ له, ومسلم وزاد تصدق الحديث. البخاري -الفتح- كتاب بدء الوحي, باب بدء الوحي (1/30) رقم (3) ومسلم, كتاب الإيمان, باب بدء الوحي إلى رسول الله رقم (1/139) رقم (160).
ومعنى قولها "تحمل الكل" الكل هو الضعيف، أي تنفق على الضعيف واليتيم والعيال وغيرهم، "وتكسب المعدوم" أي تكسب غيرك المال المعدوم أي تعطيه إياه تبرعاً، أو تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك من نفائس الفوائد ومكارم الأخلاق، "تقري الضيف" أي تكرمه، "وتعين على نوائب الحق" النوائب: جمع نائبة وهي الحادثة، والنازلة.
وفي كلام أم المؤمنين خديجة هذا صفات عديدة للنبي - صلى الله عليه وسلم- هذه الصفات هي: صلة الرحم، وعطفه على الضعيف والمحتاج، وكرمه وجوده، وحسن أخلاقه، ووقوفه مع من نزلت به نازلة، وهذا كله من الصفات الفاضلة التي كانت في النبي-صلى الله عليه وسلم-.
المثال الثاني: قصة هرقل مع أبي سفيان:
في هذه القصة التي وقعت لأبي سفيان مع هرقل دليل واضح على ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم- من الصدق والوفاء بالعهد وغيرها من الصفات الجميلة، وهذا يظهر من شهادة أبي سفيان له - صلى الله عليه وسلم- وكان ذلك منه قبل أن يسلم.
روى البخاري من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما- أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجارا بالشام في المدة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش فأتوه وهم بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم, ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال: أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان فقلت: أنا أقربهم نسباً، فقال: أدنوه مني، وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم إني سائل هذا عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه، فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذباً لكذبت عنه، ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب، قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا، قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا، قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت بل ضعفاؤهم، قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت بل يزيدون، قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا، قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا، قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها، قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة. قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم، قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه، قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والزكاة، والصدق، والعفاف، والصلة، فقال للترجمان: قل له سألتك عن نسبه، فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول؟ فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتسي بقول قِيلَ قبلَه، وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، قلت: فلو كان من آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله، وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت: أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل، وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت: أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم، وسألتك: أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت: أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت: أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر، وسألتك: بما يأمركم؟ فذكرت: أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة، والصدق، والعفاف، فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه؛ لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده، لغسلت عن قدمه، ثم دعا بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل، فقرأه، فإذا فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}. (64) سورة آل عمران.
قال أبو سفيان: فلما قال ما قال، وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب، وارتفعت الأصوات، وأخرجنا، فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أَمُر أَمُر ابن أبي كبشة، إنه يخافه ملك بني الأصفر، فما زلت موقناً أنه سيظهر حتى أدخل الله عليَّ الإسلام، وكان ابن الناظور صاحب إيلياء وهرقل سقفا على نصارى الشأم، يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء، أصبح يوماً خبيث النفس، فقال بعض بطارقته: قد استنكرنا هيئتك، قال ابن الناظور وكان هرقل حزاء ينظر في النجوم، فقال لهم حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الأمة، قالوا: ليس يختتن إلا اليهود، فلا يهمنك شأنهم، واكتب إلى مدائن ملكك فيقتلوا من فيهم من اليهود، فبينما هم على أمرهم أتي هرقل برجل أرسل به ملك غسان يخبر عن خبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا؟ فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن، وسأله عن العرب، فقال: هم يختتنون، فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر، ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية، وكان نظيره في العلم، وسار هرقل إلى حمص، فلم يرم حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي - صلى الله عليه وسلم- وأنه نبي، فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص، ثم أمر بأبوابها فغلقت، ثم اطلع فقال: يا معشر الروم! هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي، فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب، فوجدوها قد غلقت، فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الإيمان، قال: ردوهم عليَّ، وقال: إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت، فسجدوا له ورضوا عنه، فكان ذلك آخر شأن هرقل. البخاري - الفتح- كتاب بدء الوحي, باب بدء الوحي (1/42) رقم (6)، ومسلم كتاب الجهاد والسير, باب كتاب النبي إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام (1/1393) رقم (1773).
وكذلك شهد أبو سفيان أن النبي - صلى الله عليه وسلم- يأمرهم بمكارم الأخلاق، فقال عندما سأله هرقل: بما يأمركم فقال: (يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباءكم، ويأمرنا بالصلاة, والصدق, والعفاف, والصلة..) وهذه شهادة من أبي سفيان قبل أن يسلم عند هرقل؛ لأنه كان يعلم ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم- من هذه الصفات التي لا يستطيع أحد أن ينكرها أو يجحدها؛ لأنها كانت معروفة عند جميع قومه.
المثال الثالث: قصة النجاشي مع مهاجرة الحبشة:
لما رأت قريش أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قد آمنوا واطمأنوا بأرض الحبشة وأنهم قد أصابوا بها داراً وقراراً، بعثوا رجلين من قريش إلى النجاشي ليردهم عليهم، وبعثوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وطلبوا من النجاشي أن يردهم إليهم، فأرسل النجاشي للمسلمين، قالت أم سلمة: "لما جاءهم رسوله اجتمعوا, ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا - صلى الله عليه وسلم- كائناً في ذلك ما هو كائن.
فلما جاءوا، وقد دعا النجاشي أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله، سألهم فقال لهم: ما هذا الدين الذي قد فارقتم به قومكم ولم تدخلوا في ديني، ولا في دين أحد من هذه الملل. قالت: فكان الذي كلمه جعفر بي أبي طالب، فقال له: أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويُّ منا الضعيفَ، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله لتوحيده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان، ويأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. قالت: فعدد عليه أمور الإسلام- فصدقنا وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا فعذبونا، وفتنونا عن ديننا ليردّونا إلى عبادة الأوثان عن عبادة الله تعالى، وأن نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك. قالت، فقال النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟. قالت: فقال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي: فاقرأه عليّ، قالت: فقرأ عليه صدراً من (كهيعص) قالت: فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما تلا عليم، ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة. انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكم ولا يُكادون. سيرة ابن هشام (1/359-362) وقال الألباني: صحيح. انظر فقه السيرة (115).
في هذا الحدث العظيم الذي حدث لصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- مع النجاشي ملك الحبشة دليل واضح يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان صادقاً وأميناً وعفيفاً وكان يأمر بمكارم الأخلاق، ويدعو إلى الفضيلة، وترك الرذيلة.
فقد شهد بذلك ابن عمه بمحفل جامع من المسلمين والمشركين، ولم يعترض أحد على جعفر, ولم يكذبه بل أقروه جميعاً بحضرة ملك الحبشة ، وفي هذا دليل واضح على حسن خلق النبي - صلى الله عليه وسلم- وصدقه وأمانته، وأنه أفضل الناس أخلاقاً، وأن ما جاء به هو الحق من عند ربه - سبحانه وتعالى-.
[align=center]يتبــــــــع....[/align]