وإنك لعلى خلق عظيم
أخرج مسلم عن سعد بن هشام قال: سألت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فقلت: (أخبريني عن خُلقِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: أما تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، فقالت: كان خلقه القرآن).
وأخرج الطبراني برواةٍ ثقاة عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: (إن الله عز وجل لما أراد هدى زيد بن سُعْنَه الذي كان حبراً إسرائيلياً قبل إسلامه رضي الله عنه قال زيد بن سُعْنَه: ما من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه محمد صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبقُ حِلْمُه جهلَه ولا تزيد شدة الجهل عليه إلا حِلْما. قال زيد بن سعنه: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من الحجرات ومعه على بن أبي طالب رضي الله عنه، فأتاه رجل على راحلته كالبدوي فقال: يا رسول الله لي نفر في قرية بني فلان قد أسلموا ودخلوا في الإسلام، وكنت حدثتهم إن اسـلموا أتاهم الـرزق رغـداً (أي واسعاً) وقد أصابتهم سِنة (أي جدب) وشدة وقحط من الغيث، فأنا أخشى يا رسول الله أن يخرجوا من الإسلام طمعاً كما دخلوا فيه طمعا، فإن رأيت أن ترسل إليهم بشيء تغيثهم به فعلت. فنظر صلى الله عليه وسلم إلى جانبه أراه عليًا. فقال يا رسول الله ما بقي منه شيء (أي ما عندنا ما نعطيهم) قال زيد بن سعنه (وهو كتابي حينها لم يسلم) فدنوت إليه فقلت يا محمد هل لك أن تبيعني تمرا معلوماً في حائط بني فلان إلى أجل معلوم إلى أجل كذا وكذا، قال صلى الله عليه وسلم: لا تُسم حائط بني فلان، قلت: نعم، فبايعني فأطلقت هِمْياني (وهو كيس يشد على الوسط تجعل فيه النقود) فأعطيته ثمانين مثقالاً من ذهب في تمر معلوم إلى أجل كذا وكذا فأعطـاه الرجل (أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطى الذهب للرجل الذي طلب مؤونة لجماعته) وقال له صلى الله عليه وسلم اعدل عليهم وأغثهم، وقال سعنه: فلما كان قبل مَحِلَّ الأجل بيومين أو ثلاثة (أي وقت استحقاق اخذ التمر من الرسول صلى الله عليه وسلم لزيد) خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر الصديق وعمر وعثمان رضي الله عنهم في نفرٍ من أصحابه فلما صلى على جنازة ودنا إلى الجدار ليجلس إليه أتيته فأخذته بمجامع قميصه وردائه ونظرت إليه بوجه غليظ، قلت: يا محمد ألا تقضيني حقي؟ فوالله ما عُلِمتم بني المطلب إلا مُطْلاً ولقد كان لي بمخالطتكم علمٌ، ونظرت إلى عمر وعيناه تدوران في وجهه كالفلك المستدير ثم رماني ببصرهِ فقال: يا عدو الله أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسـمع؟ وتصنع بـه ما أرى؟ فوالذي نفسـي بيده لولا ما أحاذر قوته لضربت بسيفي رأسك (الذي يبدو أن الذي يحاذر عمر قوته: هو عدم إيمان زيد بالرسول صلى الله عليه وسلم وهذه فراسة في عمر وكأنه علم بأن زيداً يختبر الرسول صلى الله عليه وسلم) ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليَّ في سكون وتُؤَدةٍ، فقال يا عمر: أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا، أن تأمرني بحسنِ الأداء وتأمرَه بحسن إتباعه، اذهب به يا عُمر فأعطه حقه وزده عشرينَ صاعاً من تمرٍ مكانَ ما رُعته (أي بدل إفزاعك له) قال زيدٌ: فذهب عمرُ فأعطاني حقي وزادني عشرينَ صاعًا من تمرٍ. فقلت: ما هذه الزيادةُ يا عمر؟ قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أزيدك مكان ما رعتُكَ، قال: وتعرفني يا عمر؟ قال: لا، قلت: أنا زيد بن سُعْنه. قال: الحبر؟ قلت: الحبر. قال: فما دعاك إلى أن فعلت برسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلت وقلت ما قلت؟ قلت: يا عمر لم يكن من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفت في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه، يسبق حِلْمُه جهلَه ولا تزيد شدة الجهل عليه إلا حلمًا، وقد اختبرتهما. فأُشهدك يا عمر أني قد رضيتُ بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيًا وأشهدكَ أن شطر مالي (فإني أكثرُها مالاً) صدقة على أُمة محمد صلى الله عليه وسلم قال عمر: أوْ على بعضهم فإنك لا تسعُهُم. قلت: أو على بعضهم. فرجَع عُمر وزيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال زيدٌ: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وآمن به وصدقه وبايعه وشهد معه مشاهَد كثيرة ثم توفي في غزوة تبوك مقبلاً غيرَ مدبرٍ رحمه الله).
أدب الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم
ومحبتُهم له
سؤال: كيف كان تأدبُ الصحابة مع الرسول صلى الله عليه وسلم وحبهم له؟
جواب: حديثُ الأدبِ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم والمحبةِ له حديثٌ يطول، تُفَرُد له عادةً المجلداتُ والكتب. إلا أننا نسوقُ بَعض الآثارِ للدلالةِ والإيماءِ لأنَه أمر يعجز عنه البيان ويكلُ دونه اللسان.
أخرج الترمذيُ عن أنسٍ رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرجُ على أصحابهِ من المهاجرين والأنصار وهم جلوسٌ فيهم أبو بكرٍ وعُمر رضي الله عنهما فلا يرفع أحد منهم إليه بصرَه إلا أبو بكرٍ وعمر فإنهما كانا ينظرانِ إليه وينظرُ إليهما ويبتسمان إليه ويبتسمُ إليهما).
وأخرج الطبرانيُ وابنُ حبان في صحيحه عن أسامَة بن شَريكٍ رضي الله عنهما قال: (كنا جلوساً عند رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كأنما على رؤوسِنا الطير ما يتكلم منا متكلم إذ جاءه أُناس فقالوا: من أحبُ عبادِ الله إلى الله تعالى؟ قال: أحسنهم خُلقاً).
وأخرج أبو يعلى وصححه عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (لقد كنت أريدُ أن أسأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الأمرِ فأؤخر سنتين من هيبته).
أما محبتُهم إليه صلى الله عليه وسلم فقد جَعلها عليه الصلاة والسلامُ مهر الإيمان، فلا إيمان لمن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم أحَب إليه من مالِه وولدِه ونفسِه والناسِ أجمعين. فكانوا رضوانُ الله عليهم متيَّمين في حبه صلى الله عليه وسلم.
أخرج الطبرانيُ عن عائشَة رضي الله عنها قالت: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنك لأحبُ إليَّ من نفسي وإنك لأحبُ إليَّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك وإذا ذكرتُ موتي وموتَكَ عرفتُ أنك إذا دخلتَ الجنة رُفعتَ مع النبيين، وأني إذا دخلت الجَنة خشيتُ أن لا أراك. فلم يردَّ عليه النبيُ صلى الله عليه وسلم حتى نزل جبريل عليه السلامُ بهذه الآية {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّنَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (69 النساء)).
وفي روايةٍ عند الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني لأحبك حتى إني لأذكركَ فلولا أني أجيء فأنظر إليك ظننت أن نفسي تخرج، فأذكر أني إن دخلتُ الجنة صرتُ دونك في المنزلة فيشقُ ذلك علي وأحبُ أن أكون معك في الدرجةِ. فلم يردَّ عليه صلى الله عليه وسلم شيئاً حتى نزلت الآية فدعاه صلى الله عليه وسلم فتلاها عليه).
وأخرج الطبرانيُ عن حُصينِ بنِ وَحْوَح الأنصاري: (أن طَلحةَ بنَ البراءِ رضي الله عنهما لما لقي النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يلصق برسول الله صلى الله عليه وسلم ويقبل قدميه، قال: يا رسول الله مرني إن أحببتَ ولا أعصي لك أمراً. فعجب لذلك النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام فقال له عند ذلك: اذهب فاقتل أباك. فخرج مولياً ليفعل فدعاه فقال له: أقبل فإني لم أُبعث بقطيعة رحم. فمرض طلحةُ بعد ذلك فأتاه النبيُ صلى الله عليه وسلم يعودُه في الشتاء في برد وغيم فوجده مغمى عليه، فقال النبيُ صلى الله عليه وسلم: ما أظن طلحةَ إلا مقبوضاً من ليلته، فإن أفاق فأرسلوا إلي فأفاق طلحةُ في جوف الليل فقال: ما عادني النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: بلى، فأخبروه بمـا قـال، فقـال: لا ترسلوا إليه في هذه الساعة فتلسعُه دابة أو يصيبه شيء، ولكن إذا فُقِدتُ فأقرءوه مني السلام، وقولوا له فليستغفر لي، فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الصبحَ سأل عنه فأخبروه بموتِه وبما قال، فرفع صلى الله عليه وسلم يده وقال: اللهم القَ طلحةَ تضحكُ إليه ويضحك إليك).
مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جديرٌ بهذا الحب وزيادة، وجديرٌ بتلك الآدابِ السامية وزيادة.كيف لا وهو أولُ من يجوز الصراط بأمته يوم القيامة، وبنورهِ تسير الأُمة وعلى محجته. وهو أولُ من برز للوجود من أنوارِ اللهِ الذاتية. جاء في الفتاوي الحديثة لابن حجر الهيثمي المكي ما نصه "أخرج عبدُ الزراق بسندهِ عن جابرِ بن عبد اللهِ الأنصاري رضي الله عنهما قال: (قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أخبرني عن أولِ شيء خلقه اللهُ من قبل الأشياء؟ قال: يا جابرُ إن الله خلق قبل الأشياء نورَ نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم من نورهِ، فجعل ذلك النور يدور بالقدرةِ حيث شاء الله ولم يكن في ذلك الوقت لوحٌ ولا قلمٌ ولا جنةٌ ولا نارٌ ولا ملكٌ ولا سماءٌ ولا أرضٌ ولا شمسٌ ولا قمرٌ ولا إنسٌ ولا جنٌ… الخ) الحديث.
وهو صلى الله عليه وسلم أول الأنبياء في الخلق في عالم الأرواح، وآخرهم في البعث في عالم الأشباح. روى بن سعدٍ مرسلاً بإسنادٍ صحيح قوله صلى الله عليه وسلم: (كنتُ أول الناسِ في الخلق وآخرهم في البعث) فهو الفاتح وهو الخاتم.
وروى الترمذيُ عن أبي هريرَة رضي الله عنه (قالوا: يا رسول الله متى وجبت لك النبوة؟ قال: وآدمُ بينَ الروحِ والجسد). قال الترمذي: حديث حسنٌ وصحيح. ورواه أبو نعيم والبيهقيُ والحاكمُ وصححه، ورواه البزارُ والطبرانيُ وأبو نعيمٍ من رواية ابن عباس رضي الله عنهما.
روى الامام أحمد والبخاري في التاريخ والطبرانيُ والحاكمُ وصححه وقال الحافظ الهيثمي في رجال أحمد و الطبراني: رجالهما رجال الصحيح. عن ميسرةَ الفجر قال: (قلت: يا رسولَ الله متى كنت نبيًا؟ قال: كنت نبيًا وآدم بين الروحِ والجسد).
وتواترتِ الروياتُ عن أنه صلى الله عليه وسلم أولُ شافعٍ، وأولُ مُشفَّعٍ. روى الترمذي وأحمد وابن ماجة وغيرُه عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا سيدُ ولدِ آدَم يومَ القيامة ولا فخر. وبيدي لواءُ الحمد ولا فخر. وما من نبيٍ يومئذٍ آدمُ فمن سواهُ إلا تحت لوائي. وأنا أولُ من تنشقُ عنه الأرض ولا فخر. وأنا أولُ شافعٍ وأولُ مشفَّع ولا فخر).
وهو صلى الله عليه أولُ من يؤذَنُ له حين يستأذنُ على ربه وهو أولُ من يسجدُ لربه يوم القيامة. وروى الأمام أحمد عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا أولُ من يؤذنُ له يوم القيامة بالسجودِ وأولُ من يَرفعُ رأسه فانظر بين يديّ فأعرفُ أمتي بين الأمم من خلفي مثلُ ذلك وعن يميني مثلُ ذلك وعن شمالي مثلُ ذلك. فقال الرجل يا رسولَ الله كيف تعرفُ أمتك من بين الأمم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هم غرٌ محجلون من أثر الوضوء ليس أحدٌ كذلك غيرهم. وأعرفهم أنهم يؤتَوْن كتبهم بإيمانهم وأعرفهم تسعى ذريتُهم بين أيديهم).
ولن يلج الجنة أحد قبله صلى الله عليه وسلم لما رواه مسلم والترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: (قال صلى الله عليه وسلم: آتي باب الجنة فاستفتح فيقول الخازن: من؟ فأقول: محمد. فيقول: بكَ أُمرت أن لا أفتح لأحد قبلك)
تكريمه صلى الله عليه وسلم
سؤال:ما معنى قوله تعالى: {لاَّ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا} (63 النور)؟
جواب: يقول سيدنا الصاوي[1] في تفسير هذه الآية: "{لاَّ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ}أي نداءه كنداء بعضكم بعضاً، بمعنى لا تنادوه باسمه فتقولوا يا محمد ولا بكنيته فتقولوا يا أبا القاسم، بل نادوه وخاطبوه بالتعظيم والتكريم والتوقير. يستفاد من الآية انه لا يجوز نداءُ النبي صلى الله عليه وسلم بغير ما يفيد التعظيم لا في حياته ولا بعد وفاته. فبهذا يعلم انه من استخف بجنابه صلى الله عليه وسلم فهو كافر ملعون في الدنيا والآخرة".
وقال السَيوطي في «الإكليل في استنباط التنـزيل» عند ذكره هذه الآية الكريمة: "تحريمُ ندائه باسمه ووجوبُ تشريفه وتكريمه ليقال يا رسول الله يا نبي الله، والظاهر استمرار ذلك بعد وفاته".
وجاء في «فتح الباري شرح صحيح البخاري» "أنه صلى الله عليه وسلم وإن كان ذا أسماء وكنى لكن لا ينبغي أن ينادى بشيء من تلك فيحرمُ نداؤهُ بها لقوله تعالى {لاَّ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا} مثل يا محمد ويا أحمد". وعن ابن عباس رضي الله عنهما، كانوا يقولون يا أحمد يا أبا القاسم فنهاهم اللهُ عن ذلك وناداه الله تعالى {يا أيها النبي} و{يا أيها الرسول} ولم يوجه الله له النداءَ باسمه فكيف بنا نحن.
[1]. أحد رجال السند في طريقتنا الخلوتية.
سؤال:هل يجوز للمرء أن يقول لأخيه يا سيدي؟ وهل هي لرسول الله من دون الناس؟ وهل السيادة لله كما يقول البعض؟ وما هو حكم الشرع في ذلك؟
جواب: من التقديرِ الواجبِ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم وصحابتهِ وأهلِ بيته وأولياءِ أمتهِ تكريمُهم بألفاظِ التقديرِ والرفعةِ، منها لفظُ السيادة التي ورثناها عن سادتنا الكرام وإخوانِنا في الطريقة الخلوتية الجامعة الرحمانية. وقد رأى الإمام الشافعيُ أن ذكر اسمِ الرسول صلى الله عليه وسلم بلا سيادة، فيه من سوء الأدب ما يكفي، بل إن الإمام ابن عبد السلام أفتى في قضية الطالب الذي قال لا يزاد في الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر سيدنا، بأن يؤدب في السجن، وبقي هناك حتى شُفِّع فيه فخلى سبيله، كما في كتاب «إكمال الإكمال».
والملفت للنظر أن الذين يذكرونَ الاسم الشريف مجرداً هم المستشرقون ومن لا خلاق لهم. فلا يجوزُ أبداً التشبهُ أيضاً بالكفار في ذكره صلى الله عليه وسلم من غير السيادة، لأنهم هم الذين يذكرونَه باسمه مجرداً استهانة بقدره الشريف.
وإذا نظرنا إلى آيات القرآن العظيم نجد أن الله تعالى ذكر السيادة للبشر، فامتدح سيدنا يحيى عليه الصلاة والسلامُ بقوله تعالى {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ} (39 آل عمران) بل إن القرآن الكريم ذكر لفظ السيادة في حق من لا يملكون الرفعة فقال في سورَةِ يوسف {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} (25 يوسف) والأمر نفسه ينطبق على لفظ المولى قال تعالى {يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} (41 الدخان).
أما أولئك الذين يتعللون بالحديث الشريف (السيدُ الله...) فقد حَرموا أنفسهم من خير عميم لجهلهم بأمورِ دينهم، فقد ردَّ عليهم العارفُ بالله ابنُ عجيبةَ في حاشيته على «الجامع الصغير» بأن الحديث يبين أن الله هو الذي يحق له السيادة المطلقة على الكون، بمعنى المالك القاهر والمهيمن، لأنه سيد كل ذي سيادة، إذ الخلق كلهم عبيده، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله لَمَّا خوطب بما يخاطب به رؤساء القبائل من قومهم أنت سيدنا ومولانا (بالمعنى القبلي للسيادة) أنت سيد قريش، وكانوا قريبي عهد بالإسلام وأراد رسول الله صلى الله عليه أن يمكِّن العقيدة في نفوسهم بأن الخضوع التام للمالك الحقيقي وهو الله سبحانه.
وقد نُقل عن الإمام مالك رضي الله عنه امتناع إطلاق السيد على الله، إلا إذا أريد بيان هذا المعنى الذي قصده صلى الله عليه وسلم. ولا شك بأن هذه الشبهة المثارة لا تحمل استدلالاً على عدم التسويد لأن القرآن ذكرها للبشر بحق سيدنا يحيى وبحق العزيز في قصة يوسف.
أما السنة النبوية فقد تواترت فيها الأحاديث في شرعية التسويد وإطلاقه على غير الله تعالى. روى البخاريُ في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (وليقل المملوكُ سيدي وسيدتي فانهم المملوكون والربُ الله عز وجل) في إشارة إلى أنهم كانوا يستخدمون لسادتهم لفظ (ربي) كما ذكر القرآن حكاية قولهم في سورة يوسف {اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ} (42 يوسف) فنهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأمرهم بإطلاق لفظ (سيدي وسيدتي) وفي رواية أبي داودَ أيضاً (وليقل سيدي ومولاي). فإذا كان هذا بالنسبة للعبد مع سيده فكيف لا يكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم!؟.
وكتبَ الشيخ محمد سليمان فرج رسالة بعنوان «دلائل المحبة وتعظيم المقام في الصلاة والسلام على سيد الأنام» بين فيها وجوب ذكر لفظِ السيادة عند ذكرِ اسمه الشريف صلى الله عليه وسلم، وذكر فيها عددا من الأدلة الشرعية نسوق بعضها لإخواننا:
جاء في صحيحِ مسلمٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله يقول للعبد يوم القيامة ألم أكرمك وأسودك)، أي أجعلُك سيداً. فهذا الامتنانُ من الله تعالى بنعمة السيادة يدلنا على أنها شرفٌ للإنسان، فكيف لا يكون أفضل الخلق جديراً بهذا الشرف. وبذلك يتجلى لنا أن من يقول إن السيادة لا تطلق إلا على الله سبحانه وتعالى فقط، لا يُعتدُّ بقوله لأنه مخالف لمنهج القرآن الكريم وصحيح السنة النبوية.وكم من الصفات اشترك بها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الله، تكون لله مطلقةً ولرسوله ولغيره مقيدةً، كاسمي الرحيم والرؤوف، فهما من أسماء الله الحسنى وصفاته، إلا أن الله وصف بهما نبيه فقال {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (128 التوبة) كما أن اسم السيد لم يرد في أسماء الله الحسنى.
وهناك أيضاً شبهة أخرى (أوردها صاحب الرسالة المشار إليها سابقا): "وهي ما يظنه بعض الناس حديثا نبويا وهو قولهم (لا تسيدوني في الصلاة)، فهو لا يصح نسبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لحن فاحش، وخطأ لغوي لا تجوز نسبته لأفصح من نطق بالضاد صلى الله عليه وسلم. لأن الفعل (سَيَّدَ) لم يرد في لغة العرب وإنما (سَوَّدَ). ولذلك أدرك بعض الناس هذا المعنى فقالوا إن الحديث يجب أن يكون بعبارة (لا تسودوني في الصلاة)، ولكن هذا أيضاً أشد بطلانا، وكذبٌ وافتراءٌ على سيدنا رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. وقد أورده الكثير من المحدِّثين في الموضوعات التي وضعت كذباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال بذلك السيوطي والحافظ السخاوي والإمام جلال الدين المحلي والشمس الرملي وابن حجر الهيثمي وبعض فقهاء الشافعية والمالكية والقاري في موضوعاته".
وكذلك قولهم (لا تعظموني في المسجد) فانه باطل أيضاً، وقيل لا أصل له. وقد جاء في «كشفالخطأ» للحافظ العجلوني ما نصه: "قال في المقاصد (أي السخاوي) لا أصل له". وقال الياجي في أوائل مولده المسمى «كنـز العفاة» "بل انه لو فرضنا مجرد احتمال وروده مع أن هذا بعيد أشد البعد، ومع أن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال، فانه يمكن تأويله بما يناسب المقام كما أوّل العلماء حديث (السيد الله…)".
إن التزام الأدب معه صلى الله عليه وسلم مقدمٌ على امتثال الأوامر، كما فعل سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما جاء سيدنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يؤم الناس فتأخر أبو بكر، فأمره أن يثبت مكانه فلم يمتثل، ثم سأله صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من الصلاة عن ذلك فأبدى له أنه فعل ذلك تأدباً معه صلى الله عليه وسلم قائلاً: ما كان ينبغي لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم ينكر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك.
وكذلك التزام سيدنا علي بن أبي طالب الأدب دون امتثال الأمر حين كتب الكتاب للمصالحة في الحديبية وكان فيه لفظ رسولُ الله فقال سهيل والله لو كنا نعلم أنك رسولُ الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب محمد ابن عبد الله. فقال صلى الله عليه وسلم إني رسول الله وان كذبتموني، امحه (أمرٌ لعلي بمحو لفظ رسول الله) فقال سيدنا علي: والله لا أمحوه. ومحاه النبي صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة، ولم يُنكر على الإمام علي حُسن أدبه. قال العلماء المحققون وهذا من الأدب المستحب. وكذلك زيادة لفظ السيد عند ذكر أسمائه صلى الله عليه وسلم من الأدب المستحب، بل إن الأدلة الشرعية الآتية ترقى بذلك إلى درجة الوجوب.
ومن الأدب أيضا أن سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه أخّر الطواف لما دخل مكة في قصة صلح الحديبية مع علمه بوجوب الطواف على من دخل البيت الحرام، أدباً معه صلى الله عليه وسلم أن يطوف قبله وقال:ما كنت لأفعل حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم.فلم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم بعد علمه ذلك.
وجاء في صحيح البخاري ومسلم قولهُ صلى الله عليه وسـلم (أنا سيُد ولد آدم ولا فخر) وقال ابن عباس: السيد:الكريمعلىربه. وقال قتاده: السيد: الذيلايغلبهغضبه.
وفي البخاري ومسلم وأحمد (أنا سيدُ الناس يوم القيامة). وذلك شامل لسيدنا آدم عليه السلام، لقوله صلى الله عليه وسلم (آدمُ فمن دونه من الأنبياء يوم القيامة تحت لوائي). ومما رواه الخطيب قوله صلى الله عليه وسلم {أنا إمام المسلمين وسيد المتقين}.
فهذه الأحاديث الصحيحة التي بلغت حد التواتر تدل دلالة لا لبس فيها على أن لفظ السيادة واجب على كل مسلمٍ محبٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلكَ لفظُ (مولى) للحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد في مسنده و الترمذي والنسائي وابن ماجة (قال صلى الله عليه وسلم من كنت مولاه فعليٌ مولاه). وليس هذا فحسب، بل إن الصحابة الأجلاء وآل بيت رسول الله الكرامَ الأطهار هم سادتنا، فقد روى البخاري ومسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للسيدة فاطمة رضي الله عنها (يا فاطمة ألاترضين أن تكوني سَيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة). فيجب علينا أن نذكر سيدتنا ومولاتنا فاطمة بلفظ السيادة عند ذكرها دائما. وكذلك سيُّدنا الحسن فقد روى البخاريُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عندما رأى سَيِّدنا الحسن (إن ابني هذا سيدٌ يصلح الله على يده بين فئتين متحاربين). وأيضا سيُدنا ومولانا الحسين فقد اخرج الترمذي بسند صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (الحسنُ والحسين سيدا شباب أهل الجنة).
وكذلك ورد في حق سيدنا ومولانا أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه وسيدنا ومولانا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما رواه الترمذي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أبو بكرٍ وعمرُ سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا من النبيين والمرسلين). بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علَّم أصحابه ذلك المعنى بأجلى وضوح، فقد روى البخاريُ ومسلمٌ عن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه أن أهل قريظة لما نزلوا على حكم سعد بن معاذ أرسل إليه الرسول صلى الله عليه وسلم فجاء على حمارٍ فقال صلى الله عليه وسلم للصحابةِ (قوموا إلى سيدكم). فهل بعد ذلك حجة!؟.
فإذا كانت هذه أخلاقُ الإسلام في معاملة أصحاب الفضل والعلم، فكيف تكون المعاملةُ مع أحب الخلق إلى الله وهو بمنزلة الأب الحقيقي للمؤمنين قال تعالى {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (6 الأحزاب) وكان الصحابة ينادون بعضهم بعضاً بهذا اللفظ الذي يشعر بالتكريم والإجلالِ، فقد روى الحاكمُ في المستدرك بسند صحيح (أن أبا هريرةَ رضي الله عنه لما ردَّ السلام على سيدنا الحسن قال وعليك السلام يا سيدي. ثم قال سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول إنه سيد).
وما قاله الفاروق رضي الله عنه: (أبو بكرٍ سيدنا واعتق سيدنا) (أي سيدنا بلال) رضي الله عنه.
وروى الحاكم بسند صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال (سيدُ الشهداء حمزةُ بن عبد المطلب).
وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بالصيغ الوارد عنه صلى الله عليه وسلم، فقد قال المحققون يزاد فيها لفظُ السيادة سواء في الصلاة أو خارجها مستدلين بعمل سيدنا أبي بكر في المحرابِ وامتناع سيدنا علي في قصة الصحيفة وليس في ذلك مخالفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأن هناك قاعدتين: امتثال الأمر، والتزام الأدب، والأرجحُ التزامُ الأدبِ، وبهذا أفتى الإمام عز الدين بن عبد السلام وجماعةٌ من فقهاء الشافعية