منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - رسالة الحب الخالد -إلى أميرة-
عرض مشاركة واحدة
قديم 2009-08-12, 07:03   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
sam2009777
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية sam2009777
 

 

 
الأوسمة
وسام افضل موضوع 
إحصائية العضو










Flower2 الجزء الثالث و الأخير

أميرة
هل أحدث فيك وهماً ، جسدته في خيالي أصداء ماض طواه بئر الزوال؟..
أم أناجي فيك حقيقة تراني و لا أراها ، و تدركني دون أن أجد سبيلاً لرؤيتها أو الشعور بها؟..
معاذ الله!..
لقد علمت فيما درست من معارف الحياة الإنسانية ، و أيقنت بعد إيماني الجازم بالله و بكتابه و رسله ، أن هذا الذي نسميه موتاً إنما هو اليقظة الكبرى ، إنما هو شعور متكامل يخضع لأحكام و موازين غير التي تخضع لها حياتنا الدنيوية اليوم!..
هو ، فيما نرى ، من هدأة الجسم بعد حركته ، و انطفاء سر الحياة فيه بعد اشتعاله و التماعه ، عدمٌ تحكم به العين ، و زوال يحكم به الإحساس.
و لكن هيهات أن تكون منافذ الحس في هذه الحياة الإنسانية محيطة بسر الحياة أو دائرة الروح.
إن الحواس الإنسانية أثر من آثار هذه الحياة الدنيوية الضيقة ، و فرع صغير في أغصانها الكثيرة. فكيف يكون الفرع محيطاً بحقيقة الأصل ، عليماً بنهايته و مصيره؟
إن الموت ليس إلا لحظة انطلاق و تحرر للروح من ذلك القفص الجسدي الذي كانت حبيسة فيه ، و إن بدا أنه لحظة خمود و إقفار في حساب ذلك الجسد نفسه.
و من يدري ؟.. لعل الأموات يمارسون حيويتهم و انطلاقهم في جوانب الكون أكثر مما نمارسها نحن الذين أثقلتنا هياكل هذه الأجساد!..
من يدري.. لعل هؤلاء الأموات الذين نسميهم أمواتاً ، يمرون على مقابرنا الجسمية ، فيلحظونها بنظرة إشفاق على الروح الحبيسة في داخلها ، و يدعون لها بانبعاث قريب إلى عالم الأحياء!..
لقد عرفت كل هذا يا حبيبتي يوم أن منحني الله عقلاً حررته من التبعيات و الأغلال ، و وهبني إيماناً أقمته على بينات العلم و نواميس الوجود.
و إيماني هذا هو العزاء الوحيد الذي يمنحني نعمة الصبر على سعير ابتعادي عنك.
أنا أعلم علم اليقين أن الموت لم يطحنك بين شدقي العدم ، و لكنه انتقل بكينونتك الذاتية من عالم إلى آخر ، كل الذي أسدله الموت بيني و بينك هو حجب المقاييس و القوانين المتغيرة.
و إنني على يقين أننا سنلتقي .. سأنفذ إليك من الباب الذي سبقتني إليه ، و لسوف تعود قصة حبنا من جديد.
هذا إن أكرمني الله بخاتمة ترضيه ، و إلا...فوا كبدي للنذير الرهيب الذي يصرع اللب: ( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ).
و يوم يفقد المحب الصادق نعمة هذا الإيمان ، ثم يضرب الموت بينه و بين حبيبه بسوره الرهيب الذي لا مرد له ، فإن جميع مبهجات الدنيا لا تبلغ أن تكون عزاء له.
بل لا بد له أن ينتهي إلى أحد نتيجتين : جنون مطبق ، أو انتحار مريع!..
غير أن هذه الحقيقة مهما كانت واضحة ، فإنها لا تحطم شيئاً من رهبة الموت في نفوس الأحياء.
أما أنا ، فإن شيئاً واحداً حطم هذه الرهبة من نفسي و محاها من كياني .
ألا و هو الأنس الذي شاع في حقيقة الموت بعد أن حللت في عالمه الغريب.
لقد كان الموت في عيني شبحاً رهيباً ، فإذا هو اليوم كائن جميل ، و لقد كان وادياً أجرد موحشاً ، فإذا هو اليوم واحة رائعة غناء .
لقد غدوت من بعدك ملاحاً غريباً تائهاً ، تتقاذفني أمواج حياة دكناء ، أرقب اللحظة التي تلوح لعيني فيها بارقة نور يهديني إلى شاطئ الموت.
كل ما أخشاه ، أن تزل بي قدم إلى ما لا يرضي مالكي العظيم جل جلاله ، فأتنكب بذلك عن سبيل السعادة ، ثم أقبل على الموت بخاتمة تقصيني عن رحمة الله ، و تضرب بيني و بينك حجاباً لا أملك اختراقه ، و تلك هي الشقوة التي تذيقني غصة الموت و الحياة.
إنني لشديد الخوف من هذه العاقبة!..
و لست أملك ضمانة تحفظني منها ، إلا الأمل برحمة الله.
إنني لا أتصور أن يقسو علي مولاي إلى هذا الحد ، مهما كنت شارداً عن سبيله ، مقصراً في القيام بواجباته.
إن ظني به أنه سيحوطني برعايته و إن لم أكن لها أهلاً ، و إني لمتعلق بعد ذلك بقوله: أنا عند ظن عبدي بي.
أمل آخر ، لا يغيب عني نوره ، و لا أزال أستنشق الأنس في بريقه ، و أعيش في طمأنينة من روحه.
إنه بعض من كلماتك النورانية في رسائلك الباقية الخالدة لي من بعدك .. إنه هذه الشذرات:
( يا منية النفس...و توأم الروح..و أنشودة القلب..يا سعيد..جعلك الله سعيداً في الدنيا و الآخرة..سعيداً في حبك..سعيداً في حياتك..و جعلني سر سعادتك الدنيوية و الأخروية ، بل النبع الذي تروي به ظمأك ، و الدوح الذي ترتاح إليه نفسك ، و المنارة التي تضيء لك الطريق .. الطريق إلى الله.. طريق الحب الرباني .. لنسير معاً.. لنصل إلى شاطئ الأمان..شاطئ السلامة.. سر المعرفة الربانية..و لنرتشف معاً الحب الإلهي الخالص..
سعيد.. يا أسعد أيامي بقربك..إنني أنظر إلى المستقبل ..و ألمح بارقات الأمل تتراءى مبتسمة من بعيد..لأن الله جل و علا هو الذي ربط بين قلبينا بأوثق ما يكون من رباط..و كلله برحيق المحبة و الهناء ، و رزقنا المودة الأبدية في الدنيا و الآخرة..)
إنني لأظن يا حبيبتي أن روحك الوادعة الجميلة لا تفتأ تدعو لي بهذا الدعاء:
( جعلك الله سعيداً في الدنيا و الآخرة..و جعلني سر سعادتك..) وأنت في مقام القرب من مولاك ، في مقعد صدق عند مليكك الكريم الوهاب..و إن هذا لبعض حق الوداد فيما بيننا.
و إنني على يقين أن ما كنت تلمحينه من بارقات الأمل ، إنما هو المستقر الأبدي السعيد الذي هيأه الله تعالى لنا في أكناف رحمته ، و تحت ظل غفرانه و لطفه، كشف الله عن سريرتك سبيلاً لشهوده و رؤيته.
و لكنك تجاوزت مخاطر هذه الدنيا و أهوالها ، بخاتمة يغبطك عليها الصديقون ، و بقيت من بعدك أتقلب في طياتها ، و أجدف عني أخطارها في دروب حالكة لا عاصم فيها إلا رحمة الله.
فيا نور السموات و الأرض ، يا من يجير و لا يجار عليه ، يا من أنقذ خليله من نار نمرود ، أنقذ عبدك من سعي هذه الدنيا ، و يسر لي في أكنافها سبيلاً إلى خاتمة ترضيك .
إملأ بقية أيامي في هذه الحياة رضا ، بل سعادة بحكمك ، و سخرني في كل لحظة منها لخدمة دينك ، ثم اختم حياتي بأحب الأعمال إليك ، حتى ألقاك و أت عني راضٍ يا أرحم رحيم ،و يا أكرم مسؤول.


أميرة
قيل لي : لقد ماتت ، فروض فكرك بعد اليوم على نسيانها ، فإن تعلق الحي بالميت سعي باطل لا حصيلة له!..
و لا و الله ، ما طرقت سمعي كلمة ـ مما قيل لي في باب التعزية و السلوى ـ أشد من هذه الكلمة و لا أوحش.
معاذ الله أن أكون قد شربت من محبتك كأساً بلغت بها الثمالة عند الموت!..
و معاذ الله أن يكون الموت عندي إلا تصعيداً لهذا الحب و تكريراً لرحيقه.
ما أحببت فيك مجرد قد معتدل ، شكل جميل ، و لقد منحك الله منهما الشيء الكثير.
و ما فتنت منك بمجرد أنوثة مما يهفو إليها الرجال ، على أنك كنت تقبلين إلي من ذلك بفن و تدبرين بفن.
و لكن الذي علقني بك فوق ذلك كله ، إنما هو صفاء روحك ، سمو إحساسك ، إشراقة قلبك.
أحببت فيك حبك الرائع لمولاك العظيم جل جلاله..
أحببت فيك الليالي التي كنت تساهرينني فيها بأنوثة عارمة ، و حب موله لا مزيد عليه ، حتى إذا اعتدل الليل ليمضي ، و رنق النعاس في العين ، و هفا الجنب إلى مضجعه ، جافيت جنبك عن المهاد ، و تسللت إلى الغرفة المجاورة ، و قمت تناجين محبوبك الأعظم بعيون ملؤها الدمع ، ثم ركعت فأطلت بين يديه الركوع ، و سجدت فأطلت على أعتابه السجود.
أحببت فيك حنينك إلى الله .
أحببت فيك أشواق قلبك و رقة شعورك.
أحببت فيك الذكر النابض بين كل عشية و ضحاها على لسانك.
أحببت فيك القلب الذي كنت أسمعه يخفق في هدأة النوم فأرى لسانك يتجاوب معه بذكر الله.
ألا سلمت يد تلك الصديقة التي غرست في فؤادك و فؤاد أترابك هذا السر الإلهي العظيم.
أحببت فيك النهاية..تلك النهاية التي توجت فيها عمر شبابك الغض بلحظة قدسية أخيرة اهتز لها سمع الزمان و المكان ، عندما قلت بملء فمك الجميل: الله.
مثل هذا الحب ، يولد ميلاداً جديداً بالموت.
و مثل هذا الحب يتلظى سعيره من جديد إذا دخله تاريخ الموت.
يا رفيقة الدرب في حياتي و موتي.
يا أنيسة العمر ، شبحاً و روحاً في عالم الأحياء ، و سراً روحانياً عظيماً في عالم الأموات : أما إن موتك زادني حباً على حب ، و لسوف يبقى حبي لك في ازدياد ، حتى يتمم الله فضله ، و تحين ساعة اللقاء.
و بعد..
هل تذكرين يا أميرة ، يوم كنت تسألينني أن أكتب لك فصلاً أشرح فيه مكنون حبي لك ، و أصور فيه عواطفي نحوك ، و كيف كنت تتلطفين لي بعرض هذا الرجاء بأسلوبك العذب الرقيق؟؟
يا للندامة..!
لقد تقثقلت يومها عن النهوض بتحقيق هذا الرجاء ، معتذراً لك بأن الرسائل إنما تكتب في حال البعاد ..و ما دام اللقاء موفوراَ فإن حديث اللسان أعذب و أقوى في البيان مما تخطه الأقلام.
واكبدي!.. لقد أورثتني هذه القسوة أمام ما كنت تتلطفين في رجائه ، ناراً هي اليوم لا تنفك تفري فريها الشديد في أحشائي.
لقد كان في قضاء الله أن تتأخر استجابتي لسؤالك إلى هذا اليوم.
فاقبلي يا حبيبتي رسالتي هذه إليك ، و إن جاءت متأخرة..و ليكن شفيعي أن ما أنفقت من دموع ، تعدل ما استهلكته عليها من مداد.
استلميها مني بطريقتك الجديدة ، في عالمك الجديد ، بعد أن كتبتها بطريقتي القديمة في عالمي البلقع المهجور.


بقلم
الشيخ العلامة الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي











رد مع اقتباس