أميـــــــــــــــرة
الحلم الذي طاف بكياني اثنين و أربعين شهراً..
هي زوجتي التي نكبت بفقدها في غضون 1975
وتغشاني من ذلك كرب شديد.
أما الكلمة التي أخرجها اليوم بعد أكثر من عشر سنوات
من ملف أوراقي ، و التي لم يطلع عليها إلا ثلة
من أخص الأصدقاء و الأحباب ، فإنما يحفزني إلى نشرها
و وضعها بين يدي القراء ، غيرةٌ بالغة على قطعة من النثر
أودعتها أعز مشاعري و خلجات قلبي ، و صقلتها بأغلى
ما أملك من صلة ما بين جناني و لساني ، و هو صدق الشعور
و عفوية التعبير ، أن تذوي مع الزمن
ثم تضيع في داخل الأدراج.
أما الحادثة فقد طويت ، و أما المصاب فقد أبدلني الله عز و جل
عنه خيراً ،و أما هذه الكلمة ، فقيمة فنية باقية
لمن شاء أن يرى لها هذه القيمة ، و تخليد لوفاء جميل
عمره الدهر كله..ثم إنها عبر كبرى لكل من أراد أن يعتبر.
أميرة
يا أجمل حلم طاف بكياني اثنين و أربعين شهراً
يا سنا برق أومض في حياتي من علياء الجنان
أميرة
يا اسماً غدا آخر زهرة أملكها في واحتها المصوحة ، و جنتي المقفرة ، يا بقية نعيمي المدبر ، و يا ذكرى خميلتي الغناء ، و يا شفق شمس دفنها المغيب.
أميرة
هذه شهور ستة مضت على اليوم الذي أسدل فيه الموت بيني و بينك الحجاب ، و لا تزال كآبة الدنيا في وجهي و حول قلبي كما هي .. لم يغلق الهم دوني بابه، و لم يفتح الأنس أمامي نحوه من سبيل.
لا تزال دنيا الناس من بعدك غريبة عني ، و لا يزال ضوضاؤها يلسع فؤادي كأنه قهقهة الشامتين.
لا تزال جراح قلبي تتنزى بالألم و تغرق في اللهب. لم يطفئها كر الغداة و لا تقادم الأيام ، و لم يخفف من لظاها وطأة اليأس ، لا نسيم الأمل ، و لا هاجس الأحلام...
لقد عادت الدنيا من بعدك تدور دورتها ، و تسير في دربها ، كأن شيئاً لم يقع!..
لا تزال الشمس تطل كل صباح من خلف دارنا كما كانت ، و لا تزال تبعث الأشعة نفسها من خصاص النافذة إلى الجدار المقابل.. حتى إذا جنحت نحو مغيبها اصفرت ذاوية كعادتها ، ثم لملمت أذيال نورها و احتجبت خلف الهضاب.
صفحة السماء في الليل ، لا تزال من بعدك كما هي ، و لا تزال كواكبها المنثورة التي لا تحصى يخفق بياضها في سواد الليل الحالك كحبات الماس التي كانت تخفق فوق خملة فستانك الخمري الجميل.
و الربيع... لقد عاد الربيع من بعدك دون أي اختلاف عن ربيع عامنا الفائت ، يوم كنا نتمرغ فوق سندسه تحت أزهار المشمش و الخوخ في البستان الممتد أمام بيتنا الصغير ، و يوم كنت نستنشق معاً فوح بساطه الملون على سيف البحر في طريقنا إلى اللاذقية!..
لم يختلف شيء من ذلك كله من أجل طول بكائي ، و لم تذبل زهرة واحدة منه في ضرام أشجاني.
و طيوره الصادحة كعهدك بها تماماً ، لم ينقطع تغريدها ، و لا اختلفت أنغامها ، و لم يظهر لأحزاني أي أثر متميز في شدوها و تغريدها الذي تعرفين.
و البنفسج الذي تحبين ، و الزنبق الأصفر البري الذي جمعتِ لي منه باقة من بين غابات كسب ، لا يزال يفوح بالرائحة نفسها دون أي نقص أو اختلاف.
و نقيق الضفادع في الساقية المجاورة ، عاد مع الربيع الجديد يوقظ النائم مع تباشير كل فجر جديد ، في ترنيمة جماعية صاخبة كما تعهدين.
و الناس.. الناس و الأصدقاء الذين اكتأبوا لمصابي و لبسوا سيما الحزن في وجوههم من أجلي ، خلعوا سيماهم بعد ساعات ، و انفضت عني جموعهم ،و انصرف كل إلى شأنه و دنياه.
حتى الأقربون من أهلك ، بكوا ..أو تباكوا لي حيناً من الوقت ، ثم ما كادت جعبة ذاكرتهم تفرغ من عبارات الحزن و الآلام ، و ما كادت ألسنتهم تمل من تكرارها ، حتى عادوا هم أيضاً (فيما بينهم) إلى لهوهم و أفراحهم ، و عادت لياليهم كما كانت ، عامرة بالمآكل الشهية و الأسمار العابثة ، أما الحديث عنك ، فقد أصبح واحداً من الأرقام في قائمة الأحاديث التي تمتع بها النفس و يزجى بها الوقت.
لقد تابع الزمن مساره من بعدك كما كان ، و تابع الناس معه رحلتهم الصاخبة خلال الحياة . و بقيت وحدي الغريب بينهم ، المتخلف عن ركابهم ، الشارد عن سبيلهم .
تشرق الشمس ، فلا أراها إلا مدبرة عني ، كاسفة عن بصري ، فإذا غربت ودعتني بلحن صامت يضرب في أغوار نفسي على قيثارة الموت ، و يمتزج بحشرجة الأنفاس الشاردة لحظة الوداع.
و يقبل الربيع ، بخضرة مروجه ، و فوح زهره و رياحينه ، فلا أرى من ذلك كله إلا ما يذكرني بربيع أيامي معك ، و يعيدني إلى عبير الدنيا في أنفاسك ،و يمرغني على شاطئ سندسي خلاب من دنيا عينيك الخضراوين.
و أنظر إلى الغادين و الرائحين في جوانب الأرض ، و المنغمسين في لهوهم و أفراحهم ،و المتعانقين سعياً وراء أمانيهم و غاياتهم ، فلا أجدني إلا كضائع بينهم ، غريب عن أحوالهم ، و لا أحس في ضجيجهم المرح العابث إلا بمثل ما يحس به المعذب إذ تتعالى من حوله صيحات الشامتين.
أسير معهم في الطريق الذي يسيرون ، و أتقلب معهم حيث يجتمعون و يتجالسون ، و لكن كما تسير سحابة صيف ، وسط رياح لاهبة ساخنة ، أو كما يتقلب غصن من بقايا الخريف بين أمواج تتدافع في عرض البحر.
لا أرى الدنيا إن ضحكت أو اكفهرت إلا مغموسة حولي بالكآبة و السواد ، كأنها لا تزال حبيسة في عمر ذلك اليوم الذي شيعت فيه أحلامي إذ أودعتك داخل صندوق ، ثم دفنتك في التراب!..