حمزة بن عبد المطلب
لم يكن رسول الله ببعيد عن قريش، ومكة.. فهو: حفيد عبد المطلب، سيد بني هاشم.. وهاشم، عمرو بن عبد مناف ينتهي إلى عدنان، وهو الذي ما طعمت مكة ولا سقيت من يدين أبسط من كفيه، وأندى من راحتيه، وأجمل من خلقه..
وما أن نامت عين هذا الانسان العظيم، على هذه الجوانب الانسانية الرائعة، حتى فتحتها على ولده عبد المطلب، شيبة الحمد..
وكان هذا الرجل قد بلغ في قريش خاصة، والعرب عامة منزلة لم يكد يبلغها أحد.. وحتى قالت العرب فيها قولتها المعروفة: "لو كان نبي على عهد عبد المطلب لكان هو نبي العرب".
وهو: ابن (عبد الله) أحد أولاد عبد المطلب العشرة الذين إذا طافوا بالبيت أخذوا بالأبصار، وجمعوا القلوب الطيبة حولهم.
وهو: ذلك اليتيم الذي لم يعرف من حنان الأبوة ما يشدُّ به عظمه، فقد مات عنه أبوه، بعد زواجه من أمه آمنة بنت وهب بفترة قصيرة، فتركه حملاً، أو رضيعاً على اختلاف في الروايات.
فتعهده جده عبد المطلب _زعيم الهاشميين، وكبير قريش وشخصية مكة، وسيد العرب _فنشأ في ظله موفور الكرامة عزيز الجانب.. حتى كان يفرش له بفناء الكعبة، فلا يقرب من فراشه أحد من أولاده، أو كبار قريش، يهابونه ويحترمونه. أما محمد فقد كان يأتي _وهو صبي _ يتخطى رقاب الكل حتى يصل إلى جده، فيزاحمه على فراشه. ويحاول الأعمام أن يمنعوه، فيقول لهم عبد المطلب:
"دعوا ابني هذا، إن له شأناً عظيماً يغبطه عليه الناس".
وما أن شعر السيد الكبير بدنو "أجله حتى طلب ولده (عبد مناف، أبو طالب)، فخفّ اليه مسرعاً، وعيون الأولاد، والاسرة ترقب الأب العظيم، وهو على فراش الموت.. وبيد ملؤها المحبة والحنان، يأخذ يد محمد فيضعها بيد أبي طالب ثم يقول له، وهو يصارع الموت:
"يا عبد مناف: خلفت في يدك الشرف العظيم، الذي تطاؤل به رقاب الناس".
وتجفُّ الكلمة على ثغر زعيم الهاشميين، وابتسامة الرضا والاطمئنان تطفو مكانها لتزهر وتورق وسط جفاف الأيام.
وبدأ محمد يكبر، وتكبر معه الآمال، وكلما تدرج فتى الدعوة في العمر تضخمت مسؤولية العم الحنون في الاهتمام به والحفاظ عليه.. حتى لم يكن له من قريب أو بعيد بأكثر حناناً وأشد إشفاقاً عليه من أي طالب.
ولم يكن كل أولاد عبد المطلب مثل ما كان له أبو طالب حامياً، وناصراً، ومدافعاً، نعم كان حمزة أقرب الأعمام له بعد أخيه عبد مناف.
وحمزة تربطه بابن أخيه أكثر من صلة، فقد كان أخاً له بالرضاعة، وكان له ترب الصبا، يكبره بأربع سنوات، وكان يتعهده في كثير من الأحيان، وكانت هذه بمجموعها عاملاً يقرب بين القلبين، ويؤلف بين الروحين.
لقد كان يضمر له من الحب والوفاء أجمله وأحسنه، ويقدر لأخيه أبي طالب موقفه الرائع من وديعة أبيه، بما كان يبذل له من العناية والاهتمام، حتى قال محمد(ص):
"كانت فاطمة بنت أسد _زوجة عمي _ تجيع أولادها وتشبعني، وتتركهم شعثاً وتدهنني، ولم يكن لدى عمي أبي طالب همّ إلا حمايتي، والاهتمام بأمري".
وامتد الزمن، وعلى امتداده توسعت شخصية (فتى عبد المطلب)، كل شيء فيه يدلُّ على أنه شخصية المستقبل ولم تغب عن ذهن حمزة كلمة أبيه _وهو على فراش الموت _ : "إن له شأناً عظيماً يغبطه عليه الناس".
وكان حمزة يسرّ ويفرح عندما يلمح ابن أخيه، ويكتم سروره ولا يتظاهر بفرحة، كان هذا الميل النفسي ينمو مع نمو محمد، ولا يستطيع تفسيره ولا بد أن يعثر على تفسير ولو بعد حين.. ذلك هو الإيمان الذي تولد في أعماقه وازدهر بعد زمان.
ومرت بالنبي أحداث كانت لها الأثر في رفع الستارة عن شخصيته، وكان حمزة يتابع هذه القضايا بشيء من الإهتمام.. ومن أبرزها حينما اختلفت قريش فيما بينها، على وضع الحجر الأسود في مكانه بعد بنيان الكعبة، فكانت كل قبيلة تود أن تحظى بهذا الشرف الكبير، وكاد النزاع يؤدي إلى معركة واتفق الجميع على أن أول قادم عليهم سيكون هو الحكم في ذلك، ولم تنطو لحظات حتى كان المقبل عليهم هو محمد بن عبد الله واستبشرت الوجوه به، فهو المعروف عندهم بـ "الصادق الأمين" وبسط الرسول رداءه، ووضع فيه الحجر في وسطه، وأمر كل زعيم قبيلة أن يحمل جانباً من الرداء، وإذا ما رفعوه، أخذه ووضعه في مكانه.
وكان حمزة في خضم هذه الأحداث ذلك الإنسان الذي يعيشها ويعيها ويحكم نفسه فيها تحكيماً منصفاً، فيزداد إيماناً وحباً وتفانياً لابن أخيه، ويقف إلى جانب أخيه أبي طالب كافله ومحاميه..
ومرت الأيام، وأعلن محمد دعوته، ولم يستجب لها في بادىء الأمر إلا خديجة وعلي ابن أبي طالب، ثم استمرت الدعوة، رغم قلة الناصر، وحدّت قريش في عرقلة حركتها، وكان من أشد الناس عليه عمه أبو لهب، يتحين الفرص، فإذا ما ظفر به وحيداً صب عليه جام غضبه، وسخر منه، وآذاه بأنواع الأذى.
لكن ذلك كله لم يثنه عن رسالته، وإلى جانبه أبو طالب وحمزة يقفان له في كل نازلة يصدان عنه عدوان الناقمين، ويدفعان عنه ظلم الحاقدين..
ومرة جاء محمد إلى عمه أبي طالب يشكو له أذى قريش فقد ألقوا عليه سلى ناقة فقال محمد لعمه: "عم كيف ترى حسبي فيكم"؟! فقال له: وما ذاك يا ابن أخي؟ فأخبره بالامر فدعا أبو طالب حمزة، وقد توشح كل منهما بسيفه، وقال لحمزة، خذ السلى معك وتوجها إلى القوم، وهم في فناء الكعبة، فلما شاهد القوم المقبلين توسموا في وجوههم الشر وإذا ما وقفا على رؤوسهم قال أبو طالب لأخيه حمزة، مرّ السلى عليهم، ومن يعارض اقتله، فامتثل حمزة حتى أتى على آخرهم، فالتفت أبو طالب إلى ابن أخيه قائلاً:
هذا حسبك فينا !.
برغم هذا فلم تكف قريش عن أذى محمد كلما ساعدتها الفرصة وتقسو معه حيث أمكنتها القسوة.. وكان هو بنفسه لا يرد عليها أذاها، يحتمل منهم الألم، ويطويه بين أضلاعه، اللهم إلا أن يعلم أحد الثلاثة بما أصابه، فيكون الانتقام حامياً، وهم: أبو طالب، وحمزة، وعلي، فيردون الصاع صاعين على المعتدي.
وذات يوم يمر النبي عند الصفاة، فإذا بأبي جهل هناك ونفسه الحاقدة تغلي في صدره، فيلتفت يمنة ويسرة، فلا يرى من يخشى صولته وغضبه، ليس معه أبو طالب، ولا على مقربة منه حمزة، ولا إلى جنبه علي، وحيد يلقاه، وهي فرصة سنحت له، فليستغلها.
وينهال الرجل المريض القلب على محمد دون خشية وخوف يشتمه فيجرحه بالكلام، ويسبّه ببذيء القول، ويفرغ كل حقده الجاهلي، ويظهر كل كوامن حسده.. ورسول الله لم يفتح شفتيه ليردّ عليه، إنه لعلى خلقٌ عظيم، ويأنف أن يقابل هذا الأحمق الجاهل، وإن امتدّ به العمر.
وينصرف بعد ان يسمع منه ما يسمع، ويتألم ويحزن ويطوي في نفسه أحزانه وآلامه.
ويسري الخبر إلى حلقات قريش يقطع أوصال مكة كالعاصفة، ويسبق وصول ابي جهل اليها، ويفرح من يفرح ويحزن من يحزن، ومن يرد عليه؟ والفاعل ابو جهل الشرس الفض، وكثير منهم يرغب بأذى محمد، ولا يرغب ان يباشره بنفسه خوفاً من نقمة ابي طالب وبطش آله.
وأقبل ابو جهل على قومه يفخر بما عمله، ويزهو بما بدر منه فقد أرقه محمد، وسلب النوم من عينه، فما باله _وقد غنم به _ ان لا يسكب كل ما في نفسه من لؤم كلاماً لا هوادة فيه، إذا لم يتمكن من مهاجمته بالسيف.
وكانت عادة حمزة ان لا يعود الى بيته من سفره إلا إذا طاف بالبيت سبعاً. ولا يدخل بيته إلا إذا مرّ على أندية قريش ومجالسها، مسلماً، ومتحدثاً، ومداعباً، وكان مهاباً مرموقاً ولماذا لا يكون كذلك، وهو من أعز فتيان قريش، وأشرفها وأقواها شكيمة، يعدّ من أبطال الهاشميين، مزهواً بقوته معتداً ببطولته.
وانه لفي ذلك اليوم وقد عاد من سفر له، متوشحاً قومه كعادته توجه إلى الكعبة ليؤدي طوافه، ويقف على أندية قريش يشارك جلاسها أحاديثهم، فينتهي إلى حلقة امرأة، وهي مولاة لعبد الله بن جدعان، واستقبلته وقد بدا على وجهها ظل من الحزن، ثم لفت خمارها، وقالت له _ولعل دموعها سبقتها إلى الحديث _ :
يا أبا عمارة، لو رأيت ما لاقى ابن اخيك محمد قبل قليل من أبي جهل لجزعت، فقد ظفر به، ولم يكن معه أحد، فصب عليه وابلاً من السب الفظيع، والشتم القاسي، وبلغ منه ما يكره ولم يكلمه محمد بشيء..
لم يكن هذا الخبر بأقل من وقع الصاعقة على بطل الهاشميين ومادت الأرض به.. شيء لا يطاق، وكبير جداً على بني هاشم أن تنال مخزوم ما نالت.
وغلى الغضب في قلبه، ودارت الدنيا في عينيه.. يا للعار. حفيد عبد المطلب وسيد قومه يصاب بمكروه، وعين لبني هاشم تطرف، الموت خير من الحياة..
ولمحت المرأة الغضب يجول على وجه حمزة، ويكاد يقطع أنفاسه، فأدار وجهه ومضى نحو البيت، وهو يخسف الأرض بمشيته، وعيناه تلقف كل من يلقاه في طريقه لعله المتطاول على كرامته فيهجم عليه.
والمرأة خلفه تهرول، وفي قلبها أكثر من فرحة، فقد ضاقت ذرعاً من شر أبي جهل، إنه الرجل الشرس الفض، الذي يعتدي على الناس، ويرى انه المتفضل في اعتدائه، ويشاكس الكثير من الضعفاء، ويصيبهم بسوء، ولا رادع يردعه، ولا راد يرده.
وهي بهذا التفكير لمحت حمزة قد وصل إلى المسجد، وتخطي الجالسين واحداً بعد الآخر حتى وقف على رأس أبي جهل وانفجر بوجهه صارخاً، والغضب يتطاير من عينيه: أتشتم محمداً يا حقير، ورفع قوسه، وأنزله بعنف على رأسه فشجه، ووقع على الأرض، وكاد يثني بها، لولا بعض الجالسين فقد حالوا دون ذلك، ثم قال له: أتشتمه يا أبا جهل؟ وتهينه، وأنا على دينه وأقول ما يقول، رد عليّ إن امكنك القول، وتكلم إن ملكت الكلام؟
ولم يهن على بني مخزوم ما أًصيب به زعيمهم، فتواثبوا من هنا وهناك ليأخذوا بثأرهم، ولم يتزحزح حمزة، ولم ترهبه جعجعة السيوف، وقف يتحداهم، وهو يرفع قوسه استعداداً لكل خطب، لم يهاب شخصاً، ولم يطأطأ رأسه لأحد.
ويخشى أبو جهل العاقبة إذا توسع الأمر، فيطلب منهم أن يخلدوا إلى الهدوء والسكينة، ويتركوا أبا عمارة، لأنه ألحّ في سب ابن اخيه سباً قبيحاً.
ووصل الخبر إلى النبي (ص) وهو في بيته، فتنكشف الغمة عنه، ويشكر لعمه حمزة موقفه.
كانت هذه الحادثة سبباً لكشف إسلام بطل الهاشميين أسد الله، وأسد رسوله، وفي الوقت نفسه كانت بداية انطلاقة جديدة للدعوة، وقوة داعمة.. فأزاد اطمئنان أبي طالب، فقد كان يعمد إلى حماية ابن أخيه حماية مباشرة، ويخشى عليه حتى من ظله، لذا كانت فرحته كبيرة بإعلان حمزة إسلامه.. وهو، وولديه: علي وجعفر، وحمزة قوة لا يستهان بها، ويعرف قوة أخيه وبطولته أكثر من غيره، وجرّب شجاعته وإقدامه أكثر من مرة..
ولم يكن هيناً على قريش إسلام حمزة وإعلان إسلامه، فقد كانت تهابه وتخشاه، ولامت أبا جهل على تهوّره الذي يسبب لها الأزمات، ويدفع بأصحاب محمد إلى الصلابة والصمود.
وإذا كانت الهجرة إلى المدينة، وغادر الأصحاب متخفين متسللين، فقد شدّ حمزة ركبه دون خشية، أو خوف من طغاة مكة، وهاجر إلى المدينة المنورة ليكون إلى جنب نبيه.
وأخلص حمزة لقضيته، ووفى لها، وعقد له النبي أول راية رفت في الاسلام، فقد أرسله مع سرية له إلى سيف البحر ليقاتل المشركين، وقبل أن يلتحم القتال حلّت بالمعاهدة والاتفاق وكان النبي يحرص دوماً ان يتجنب القتال.
وراحت الأيام تحصد الشوامخ من المواقف المشرفة لبطل الهاشميين كلها تعبر عن شرف العقيدة، والإخلاص المتناهي.
وحلّ يوم بدر..
كان يوم بدر عظيماً، فقد تجلّت فيه البسالة الهاشمية والبطولة الرائعة، ابو عمارة يجول ويصول، لم يرجع سيفه خائباً يغمده في صدر ذاك، ويجندل ذلك، ويصيح بأعلى صوته: أين ابن ابي طالب، أين ابن أخي؟ فيجيبه علي من سوط المعركة: ملتقانا آخر الجيش، ويفريان الحشد المتراكم أمامها، هذا من جانب، وذاك من جانب، وهما يكبران، حتى يلتقيا في مؤخرته، وأسيافهما تقطر دماً.
ويحث حمزة المسلمين على القتال، وهو يصيح:
قال رسول الله: والذي نفس محمد بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل، فيقتل صابراً محتسباً، مقبلاً غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة..
وانتهت المعركة وبقي الخزي يلاحق قريش وأعوانها، وكان طعم الهزيمة علقماً، وثقل الخسارة مجهداً يقض المشركين في ليلهم ونهارهم. وكيف لا تكون كذلك، وكل قبيلة أصابها من عار الخسارة الشنعاء عاراً لا يشابهه عار، وخسارة لا تضاهيها خسارة.. ولم يطفء لهب قريش، ولم يكشف حزنها إلا قتل أحد الثلاثة: محمد، وحمزة، وعلي.
ودارت رحى الحرب بين المسلمين والمشركين حامية في (اُحد) تارة على المسلمين، وأخرى على المشركين، كر وفر...
وأبو سفيان يجول في وسط أصحابه يذكرهم بعار (بدر) وقتلاهم، فيها ومجدهم المندثر، ويصرخ ملء شدقيه: لابدّ من جولة تطيح فيها الرؤس، وتزهق بها الأرواح، وتعتلي السيوف القمم، عند ذاك أما: الثأر أو الموت.
وكل موتور يتصيد واتره، لعله يخفف من حزنه بما أُصيب. وكان جبير بن مطعم موتوراً من حمزة بقتله عمه طعيم بن عدي يوم بدر، وكانت هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان موتورة من حمزة بقتله عمها يوم بدر، وهناك البيوتات الكثيرة من قريش وغير قريش موتورة من علي، وحمزة.
ويوم عزمت قريش على الخروج لقتال المسلمين عاهد جبير بن مطعم عبده وحشي _وكان عبداً قوياً _ إذا قتل حمزة فقد عتقه..
ومالت اليه هند بنت عتبة تمنيه وترغبه على ذلك، وهي لا تقل عن صاحبها جبيراً حقداً وغيظاً، كما لا تتضاءل عنه سخاءً وكرماً، تقول له: نفذ ما قاله لك سيدك، ولك مني ما تريد وكررتها ثلاثاً.
قال العبد: سأبذل قصارى جهدي، فإن مت خلصت من حياة الرق، وإن فزت تحررت، وفي كلا الأمرين لي خلاص..
ودقت طبول الحرب، المشركون بعدتهم وأبطالهم، والمسلمون بعددهم القليل، وعدتهم الضئيلة.
وعين وحشي ترقب حركات البطل وتنقله بين الصفوف وهو مثل الجمل الأورق، يحصد المحاربين بسيفه، ويتمايل الأبطال عن طريقه، تخشى بطشه، وتخاف بأسه، فلم يخرج اليه مبارز إلا ولاقى مصرعه، ولم يتصدّ له أحد إلا وعاد مهزوماً أسد الله، وأسد رسوله.. كرّار غير فرّار.
يقول وحشي: كنت أتهيأ له، اريده، وأستتر منه بشجرة أو حجر ليدنو مني، وأنتظر اللحظة التي أرميه فيها بحربتي.
والفارس المغوار في غفلة عن عدوه، لا يلتفت، ولا يعرف من أمره شيئاً، حتى إذا ما قرب منه، اندفع اليه، ورماه بحربته، فأصابت منه مقتلاً، ووقع صريعاً.. ولما تأكد من موته ذهب اليه، وأخرج حربته، وجرى مسرعاً لجبير يبشره ليملك حريته، ويخبر هنداً فيتمنى عليها ما يريد.
وسرى الخبر يمض في قلوب المسلمين، ويبعث السرور في نفوس المشركين، هذا حمزة بطل الاسلام، واسد الله، وساعد محمد، مجندل في الميدان، يا لفرحة الشامتين..
وخفت أوار الحرب، وطافت نساء مكة بين القتلى تسبقهن هند، وهن يرقصن فرحاً، ويجدعن أنوف قتلى المسلمين، ويبقرن بطونهم، ويقطعن آذانهم.
ولم يشف غليل هند كل هذا، أين حمزة؟ فقد أخبرها وحشي بأمره، وإنها لتخوض في الدماء والجثث إذ تعثر بحمزة وهو يتوسد التراب.
أصحيح أن بطل الهاشميين صريع في الميدان؟ إنه بغيتها وتجلس على صدره _وفرحتها تكاد تقضي عليها _ بماذا تبدأ وكيف تعمل؟ تقطع أوصاله، لا لا يهدأ خاطرها، تسمل عينيه، لا يطفي لهب حقدها، تقطع لسانه، لم يجدها.. أكثر من هذا تريد.. لتستخرج كبده فتأكله. وفعلت، ولكن لم تتمكن من أكله، لفظته مقهورة، جازعة، ثم لتعمل قلادة من أجزائه: أنفه، اذانه، لسانه، عينيه، ثم بقرت بطنه، وقطعت أوصاله.. ولم يبقَ لديها ما تفعله، فتركته وهي تتهادى نشوانة بفعلتها حتى قال المشاهدون عنه: ما مُثل بأحد كما مثل بحمزة..
واستقبل أبو سفيان زوجته وهي ترقص، وفي صدرها قلادة من أعضاء إنسان، والتفت الرجل لزوجته متسائلاً فأخبرته فضحك ضحكة طويلة، وصاح: أين تركتيه؟ قالت: على مقربة من العين.
وانطلق يعدو، ولا يدري كيف يطوي طريقه، حتى وقف عليه وشاهده مقطعاً، ولم يكتف بذلك بل أخذ يمزق شدقي الصريع برمحه وهو يضحك، فمر عليه أحد الاعراب، ورآه في موقفه المخزي، فقال لصاحبه: أنظر يا أبا عروة سيد بني عبد شمس يصنع بإبن عمه ما ترى، إنه يجهز على ميت.
فالتفت اليه أبو سفيان قائلاً: ويحك اكتمها عني، ولا تفضحني عند العرب.
كان منظر حمزة، وهو مقطع الأوصال، أوجع منظر أثر في قلب النبي، ثم سجاه بغطاء، وقسم من حشيش الأرض.
ومع كل ما أصابه من حزن في هذا الموقف الدقيق، فقد أبن بطل الاسلام بقوله _وهو يصارع احزانه _:
"رحمك الله يا عم، فلقد كنت وصولاً للرحم، فعولاً للخيرات، فوالله لئن ظفرت بهم لأمثلن بسبعين منهم".
إنها الحمية والثأر دفعت بالرسول الأعظم ان يتعهد بهذا الثأر لعمه المؤمن الشهيد، بعد ان هزّه الموقف هزاً.. لكن الله سبحانه أراد غير ذلك، فقد نزلت الآية الكريمة:
(وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين، واصبر وما صبرك إلا بالله..).
وهكذا انتهت حياة بطل الاسلام حمزة بن عبد المطلب صفحة مشرقة تنير للأجيال دروب العقيدة والكفاح، والصمود والبطولة...
ماذا تعرف عن آمنة بنت وهب؟