المبحث الثالث: قضايا متعلقة بالفيض.
1. علاقة الفيض بالمعرفة.
أخذ الفارابي عن أرسطو رأيه في أن كل معرفة إنما تكون عن طريق الحواس ونعني أن تكون هذه المعرفة تذكراً كما زعم أفلاطون؛ لأنه لا يعتقد بوجود النفس قبل الجسد، وقد قال: (وحصول المعارف للإنسان يكون من جهة الحواس، وإدراكه للكليات من جهة إحساسه بالجزئيات ونفسه عالمة بالقوة ... والحواس هي الطرق التي تستفيد منها النفس الإنسانية المعارف ...) وهذه المعرفة لا تمكننا من معرفة طبيعة الأشياء (فالوقوف على حقائق الأشياء ليس في قدرة البشر، ونحن لا نعلم من الأشياء إلا الخواص و اللوازم والأعراض ... فإنا لا نعرف حقيقة الأول ولا العقل ولا النفس ولا الفلك والنار والهواء والماء والأرض، ولا نعرف حقائق الأعراض ومثال ذلك أن لا نعرف حقيقة الجوهر، بل إنما نعرف شيئاً له هذه الخاصة وهو أنه الموجود لا في موضوع وهذا ليس حقيقته، ولا نعرف حقيقة الجسم، بل نعرف شيئاً له هذه الخواص وهي الطول والعرض والعمق، ولا نعرف حقيقة الحيوان، بل نعرف شيئاً له إدراك وفعل).(1)
خلاصة أن الأشياء المادية إذا ما أدركها العقل تحولت إلى معقولات، وصار لها وجودها في العقل يخالف وجودها المادي والعقل يكون في الإنسان بالقوة، فإذا ما أدرك الإنسان بحواسه صور الأجسام الخارجية، أصبح العقل عندئذٍ موجوداً بالفعل ومعنى ذلك أن حصول المعرفة الحسية هو انتقال للعقل من القوة إلى الفعل، على أن هذا الانتقال ليس يتم بفعل الإنسان، بل هو مرهون بفعل العقل الفعّال، الذي هو أعلى مرتبة من العقل الإنساني أي أن الإنسان لا يحصل المعرفة باجتهاده بل تجيء إليه المعرفة هبة من خارجه، هبة من العالم الأعلى.
قال الفارابي: (وليس في جواهرها (أي المعقولات) كفاية في أن تصير من تلقاء أنفسها معقولات بالفعل، ولا أيضاً في القوة الناطقة (أي وليس ذلك طبيعة العقل) ... بل تحتاج أن تصير عقلاً بالفعل إلى شيء آخر ينقلها من القوة إلى الفعل ... والفاعل الذي
ينقلها من القوة إلى الفعل، هو ذات ما جوهره عقل بالفعل، ومفارق للمادة ... منزلته من العقل الهيولاني منزلة الشمس من البصر وفعل هذا المفارق في العقل الهيولاني شبيه بفعل الشمس في البصر، فلذلك سمي العقل الفعّال ... وإذا حصل في القوة الناطقة عن العقل الفعّال ذلك الشيء الذي منزلته منه منزلة الضوء من البصر، حصلت المحسوسات حينئذٍ عن التي هي محفوظة في القوة المتخيلة معقولات في القوة الناطقة وتلك هي المعقولات الأولى التي هي مشتركة لجميع الناس.(2)
ويقول الفارابي في نص آخر: (العقل الفعّال يفيد الإنسان شيئاً يرسمه في قوته الناطقة).
والفارابي يعرض رأيه بتشبيهات مختلفة، وبأساليب متعددة، ولكن المحصلة النهائية، هي أن المعرفة تأتي من أعلى، من فوق، من العقل الفعّال، أو العقل العاشر، وتفيض على الروح الإنسانية، وهي التي تتمكن بقوة تسمى العقل النظري من تصور المعاني بحدودها وحقيقتها وهذه الروح كمرآة، وهذا العقل النظري كصاقلها وهذه المعقولات ترتسم فيها من الفيض الإلهي.
وإذا كان علم الإنسان هابطا إليه من علم على هذا النحو فهو ليس علماً متحصلاً عليه بمجهود عقلي، أو على الأقل ليس بمحض هذا المجهود فغاية جهد العقل الإنساني أن يحاول الاتصال بتلك القوة الغيبية، التي هي مصدر هذا الفيض، والمسماة بالعقل الفعال أو العقل المفارق.(3)
يذهب الفارابي إلى أن المعرفة الحقه هي بالحس والعقل، والتأمل والنظر، والتنصل من استيلاء كافة العلائق الحسية، وهي كذلك بالابتعاد عن المادة وشوائبها، والابتعاد أيضا عن عالم الخلق، والقرب من عالم الإلهام والأمر والنهي، فحينها برأيه يحدث الفيض الإلهي، فالمعرفة إذن، لا تحصل إلا بفيض من واهب المعرفة وواهب الصور، وهو العقل الفعال فهي إذا معرفة إشراقية، وهنا الفارابي يفتح ويفسح، المجال لنوع جديد من المعرفة لم يكن يعرفه أرسطو قبله، وقد اعتبره أفلوطين أعلى أنواع المعرفة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) حنا الفاخور، خليل الجُّر، مرجع سبق ذكره، ص505.
(2) حنا الفاخوري، خليل الجُّر، مرجع سبق ذكره، ص507، 508.
(3) محمد عبد الرحيم الزيني، مرجع سبق ذكره، ص19، 20.