والفارابي يرى أن الثواني يلزم عنها بدورها وبالضرورة لا بالاختيار الأجسام السماوية، والثواني عنده هي الملائكة، بحيث يعتبرها المحركين الثواني أو العقول المفارقة، وهو هنا يوفق بين الدين و الفلسفة ليرضي الدين الإسلامي وليرضي الفلسفة خاصة فلسفة أرسطو طاليس.
إن المبادئ الفلسفية التي تقدم عليها نظرية الفيض هذه ثلاثة:
أولها: عن الواحد لا يصدر إلا واحداً، فالله واحد ولا يصدر عنه إلا موجود واحد.
ثانيها: لا يصدر عن الشبيه إلاَّ الشبيه به، فالله عقل والذي يصدر عنه من طبيعته وهو عقل.
وثالثها: إن التعقل إبداع فمن تعقل الله لذاته يصدر عنه عقل ثانٍ وهذا أيضاً يعقل ذاته ويعقل الأول فيصدر عنه موجودين: موجود سماوي وعقل.
ومن خلال نظرية الفيض يبين الفارابي كيفية صدور العقول المفارقة للمادة والتي تشكل عالم ما بعد الطبيعة.
والأجرام السماوية السبعة المعروفة حتى أيامه وقد أضاف إليها كرة السماء الأولى وكرة الثوابت فأضحت تسعة، وهي محاولة لتوضيح صدور الكثير عن الواحد دون الإخلال بالمبادئ الفلسفية المشار إليها سابقا، إذ أن صدور الموجودات المحتاجة إلى مادة تحت فلك القمر، ليست مباشرةً من الله بل بوسائط العقول وآخرها العقل الفعَّال أو واهب الصور.(1)
نخلص من ذلك كله إلى أن الفارابي حسب رأيه في خلق الموجودات يكون قريب الشبه بأرسطو ممزوجاً بالأفلاطونية الحديثة فمسألة أن العالم نشأ عن الله بطريق التعليل رأي أفلوطيني، ورأيه في أن العالم الأعلى عالم عقلي يرجع إلى أفلطوين وأرسطو وخاصة قوله بتأثير عقل القمر في بقية الكون رأي أرسطو طاليسي، ذلك أن أرسطو من الذين كانوا يقولون بأن كل مؤثر عقل، أما عدد العقول وكونها عشرة، فقد يكون الفارابي متأثراً فيها بمذهب بطليموس في الأفلاك فقد قال بطليموس: إن الأفلاك تسعة، فأوجد الفارابي لكل فلك عقلاً يوازيه ويؤثر فيه.(2)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــ
(1) محمد العريبي، مرجع سبق ذكره، ص108، 109.
(2) محمد السيد النعيم، عوض الله حجازي، في الفلسفة الإسلامية وصلتها بالفلسفة اليونانية، دار الطباعة المحمدية بالأزهر الشريف، القاهرة مصر، ط2، ص 226.