-لماذا مات ابن باديس فجأة ؟
توفي رحمه الله تعالى في 8 ربيع الأول 1359هـ (الموافق لـ 16 أفريل 1940م) في العطلة الربيعية فجأة لمرض ألم به، وقيل مات هما وغما وكمدا لما أصاب العمل الدعوي بسبب الحرب، حيث اضطرت الجمعية إلى توقيف أكثر نشاطها وفرضت عليه شبه إقامة جبرية في مدينة قسنطينة، وكان أيضا يرى أبناء الجزائر وأبناء مدارسه الذين كان يعدهم لقتال فرنسا يساقون إلى الموت في سبيلها قهرا، وقيل مات مسموما من طرف الإدارة الفرنسية، وقد حدثنا الشيخ محمد صالح رمضان بأخبار ترجح الفرضية الأخيرة والله أعلم بحقيقة الحال، ومنهم من ذكر سببا آخر يجعلنا نعد موته من مواقفه البطولية –سواء كان ذلك هو السبب الصحيح أم لا -إنه خبر قصَّهُ علينا الشيخ البشير الإبراهيمي صديق عمره وأمين سره حيث قال رحمه الله : »بعد استقراري في المنفى بأسبوع تلقيت الخبر بموت الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله بداره في قسنطينة بسرطان في الأمعاء كان يحس به من سنوات ويمنعه انهماكُه في التعليم وخدمة الشعب من التفكير فيه وفي علاجه «([11])، الله أكبر، رحمك الله يا ابن باديس، لقد ضحيت بمالك وبنفسك في سبيل الله تعالى ، سبحان الله، لقد ترك العلاج ليس لأنه لا مال له ولا معين له، بل تركه لأنه لا وقت له، لأن وقته كان قد أوقفه لله تعالى، ولأن أمر الدعوة وإصلاح الأمة قد سكن قلبه وملك عليه كيانه فأصبح لا شعور له إلا بآلام الأمة ولا هَمَّ له إلا خدمة مصالح الأمة، ومما يزيدنا عجبا كتمانه لهذا المرض حيث لم يكن يعلم به أحد فيما يظهر سوى الإبراهيمي، فقد سأل بعضهم عبد الحق بن باديس شقيق الشيخ رحمه الله عن سبب الوفاة فقال ما معناه:»إن الشيخ لم يكن يعطي نفسه حقها الكامل من الراحة، وقد كان يومه يبدأ مع صلاة الصبح ولا ينتهي إلا في ساعة متأخرة من الليل وهذا لمدة خمس وعشرين سنة قضاها بأيامها ولياليها في التدريس والوعظ وإلقاء المحاضرات والكتابة في الصحافة، والقيام على إدارة الجمعية وشؤونها والسفر والتنقل الدائمين عبر القطر ..فالإرهاق والتعب والزهد في الحياة وثقل المسؤولية التي كان يشعر بها هي السبب المباشر لوفاته «. ([12]) وهذا يعني أنه لا علم له بهذه الحقيقة، فرحم الله ابن باديس رحمة واسعة.
مدخل
إنه من الضروري في هذا الزمان أن نحيي آثار علمائنا العظماء، وأن نوضح أصول الدعوة التي كانوا ملتزمين بها في العلم والعمل، هذه الأصول التي تعبر عن حقيقة دعوتهم ومنهجهم وبها تفسر تصرفاتهم، وبناء عليها يصح أن تقوم أعمالهم ، وقد جمعت هذه الأصول التي كان يسير عليها العلامة ابن باديس رحمه الله، ليرى كل منصف أن أصوله هي عين أصول أهل السنة والجماعة لا تختلف عنها في قليل ولا كثير. والذي لا نشك فيه أن من تأمل هذه الأصول تأمل المنصف يعلم علم اليقين أن من أقر بأن ابن باديس عالم من علماء أهل السنة المجددين السائرين على منهج السلف لم يصدر حكما ولا تزكية منه، وإنما أقر بأمر واقع ما له من دافع([13])، ويظهر له أن ما يدعيه المخالف، ليس إلا مجرد تهويل ليس له أساس علمي، وتلبيس على العامة بزخرف من القول، فهذا الذي يأتي نقله لا يمكن أن يوصف بالمقتطفات المبتورة، بل هو تأصيلات لقواعد المنهج السلفي مع التزامها عند التطبيق، نعم إنها تأصيلات في المنهج العام ربما يندر أن توجد مجموعة ومصرحا بها عند كثير من أئمة الدعوة في هذا الزمان.
وبعد هذا نقول إن العنوان الكلي لدعوة أهل السنة المباركة وشعارها المتفق عليه: هو اتباع الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح، وذلك في كل مسائل الدين وجميع أبوابه الكبرى والصغرى؛ في العقيدة والفقه والسلوك والدعوة وما يندرج تحتها([14])، لذلك فقد جعلت هذا البحث موزعا حسبها .
الفصل الأول : أصول العقيدة
إن الأصول الكلية التي يتميز بها أهل السنة والجماعة في العقيدة عن غيرهم كثيرة جدا، لذلك فقد انتقيت الأصول المهمة التي ترتبط بمنهج تلقي العقيدة وعرضها، وبعض العقائد البارزة التي تميزهم عن غيرهم، كمفهوم التوحيد وأقسامه، والموقف من صفات الله عز وجل، ومن مسائل القدر والإيمان، نسردها أولا سردا مع نقل نص بعض العلماء السابقين عليها، ثم نوضحها ونفسرها على ضوء كلام الشيخ ابن باديس رحمه الله تعالى .
1-الكتاب والسنة هما المصدران الأساسيان لتلقي العقيدة في شقيها العلمي والعملي([15]).
2-لا فرق بين حجية السنة المتواترة والآحاد في إثبات العقائد سواء ما تعلق منها بذات الله تعالى أو بغيرها من الغيبيات([16]).
3-التزام الصحة فيما يروى من أخبار الآحاد في باب العقائد ، وعدم قبول الضعيف أو الإسرائيليات فيها([17]).
4-الالتزام بما كان عليه السلف الصالح في فهم نصوص الكتاب والسنة، وذلك بعدم مخالفة ما أجمعوا عليه، وعدم الخروج عن أقوالهم فيما اختلفوا فيه([18]).
5-تضليل طريقة المتكلمين المبنية على مقتضيات العقول، والمؤخِّرة لمنزلة الكتاب والسنة فيما يتعلق ببحث مسائل الصفات والقدر والنبوات([19]).
6-تجنب الخوض في المسائل الكلامية التي لا تفيد علما ولا عملا ولم يكن فيها نصوص شرعية، والحكم بين الطوائف المختلفة بكتاب الله تعالى وسنة رسولهr ([20]).
7-تقسيم التوحيد الذي دعت إليه الرسل إلى قسمين توحيد علمي يتضمن معرفة الله تعالى وإثبات صفات الكمال له سبحانه ، وتوحيد عملي يتضمن إفراد الله تعالى بأنواع العبادات الظاهرة والباطنة([21]).
8-التصريح بعقيدة الإثبات والتنـزيه في باب الصفات وإثبات الصفات الخبرية الذاتية والفعلية([22]).
9-التصريح بالبراءة من مظاهر الشرك الأصغر والأكبر الفاشية في الأمة([23]).
10-الاعتقاد بأن انفراد الله تعالى بالحكم والتشريع من معاني توحيد الربوبية، وليس قسما على حياله، فضلا عن أن يكون هو التوحيد أو أهم أقسامه([24]).
11-القول بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص (خلافا لمن قال إنه يكمل بالتصديق وحده أو بالتصديق والقول بلا عمل ) وأن الكفر كفران كفر اعتقادي مخرج من الملة وكفر عملي لا يخرج صاحبه من الملة(خلافا لمن يكفر الناس بالكبائر) ([25]).
12-الإيمان بالقضاء والقدر بإثبات علم الله السابق ومشيئته المطلقة وخلقه لأعمال العباد، مع إثبات الاختيار للإنسان وقدرته على الفعل والترك معا([26]).
13-الاعتقاد بأن التكليف والمؤاخذة لا يثبتان إلا بالشرع وقيام الحجة الرسالية، ولا يكفي ذلك مجرد دلالة الفطرة أو حكم العقل ، ومنه قيل إن العذر بالجهل عقيدة السلف وأهل السنة ([27]).
14-تعظيم الصحابة والترضي عليهم جميعا،
الشيخ ابو عبد الله محمد ابو عيسى الجزائري حفظه الله