المبحث الثاني
النتائج المترتبة على مبدأ الشرعية الجنائية
يرى الفقه أنه تترتب على مبدأ الشرعية الجنائية ثلاثة مبادئ أساسية هي: انفراد التشريع في تحديد الجرائم والعقوبات، والتزام التفسير الضيق للقواعد الجنائية، وعدم رجعية القاعدة الجنائية للتطبيق على ما حدث في الماضي من وقائع. غير أنه يمكننا القول باختصار، أن مبدأ الشرعية الجنائية في شقه الموضوعي ،يقتضي في نظرنا، أنه لا جريمة ولا جزاء إلا بنص قانوني صادر عن السلطة المختصة بإصداره وفقا للقانون، وأن يكون هذا النص ساريا من حيث الزمان والمكان، وزيادة عن ذلك ألا يمون الشخص خاضعا لسبب من أسباب الإباحة، وهو رأي يمليه علينا وضع تقنين العقوبات الجزائري الذي تناول مبدأ الشرعية الجنائية في المادة الأولى وأردفه بالمادتين 2 و3 المتعلقتين بسريان النص الجنائي زمانا ومكانا. لذا سنحاول أن نبين هذا المبحث من خلال ثلاثة مطالب، نخصص الأول للنتائج القانونية العامة لمبدأ الشرعية الجنائية، في حين الثاني نخصصه لسريان النص الجنائي من حيث الزمان كونه الإطار الذي يبين أهم نتائج مبدأ الشرعية المتمثلة في عدم رجعية القوانين الجنائية، على أن نخصص الثالث لسريان النص الجنائي من حيث المكان. ونرجئ البحث عن أسباب الإباحة إلى مبحث ثالث مستقل، على اعتبار أسباب الإباحة تخرجنا من نطاق التجريم وتعيدنا على نطاق الإباحة التي لا يحكمه مبدأ الشرعية الجنائية.
المطلب الأول
النتائج القانونية العامة لمبدأ الشرعية
النتائج القانونية العامة التي يرتبها مبدأ الشرعية الجنائية، هي انفراد التشريع بمجال التجريم والعقاب، أي أن يكون النص الجنائي المكتوب الصادر عن السلطة المختصة بإصداره وفقا للدستور وحده المختص بسن قوانين تتعلق بالتجريم والعقاب، وأنه يحظر على القاضي اللجوء إلى التفسير الواسع أو القياس في هذا المجال بالذات، وهو ما نبينه في الفروع الثلاثة التالية.
الفرع الأول
انفراد التشريع بالتجريم والعقاب
مبدأ الشرعية الجنائية يقوم أساسا على فكرة العقد الاجتماعي ومبدأ الفصل بين السلطات، وان المجال الخطير المتمثل بكل ما يمس بحقوق وحريات الأفراد يجب أن تمارسه السلطة التشريعية التي تمثل الشعب، خاصة وأن هذه السيادة جاءت بعد صراع مرير بين السلطة والفرد، وهو الصراع الذي انتقل بعدها ما بين الحكومة والبرلمان، لغاية انتصار البرلمان واستئثاره بمسائل التشريع وإصدار القوانين، وأضحى سيادة القانون من مبادئ قيام دولة القانون، غير أن الوضع الحالي في جل الدول والأنظمة، اشتراك كل من السلطتين التشريعية والتنفيذية في إصدار القواعد القانونية، حيث تصدر السلطة التشريعية القوانين بينما تختص السلطة التنفيذية في إصدار اللوائح، غير أن ذلك لا ينال من مبدأ انفراد التشريع، كون القواعد التشريعية التي تصدرها السلطة التشريعية يجب أن تخضع للدستور، واللوائح التي تصدرها السلطة التنفيذية يجب أن تخضع للدستور ولقواعد السلطة التشريعية وقوانينها، وأن تدرج القواعد القانونية سمة من سمات الشرعية الجنائية. وهو موقف كل من فقهاء العصر الحديث ودول النظم الديمقراطية، وقد عبر المجلس الدستوري الفرنسي عن ذلك في عبارة قصيرة أوردها في قرار صادر عنه سنة 1973، جاء فيه أن سلب الحرية يتعلق بالمشرع. بينما أكدت المحكمة الدستورية العليا في مصر، أنه :" الدستور لم يعقد للسلطة التنفيذية اختصاصا ما بتنظيم شيء مما يمس الحقوق التي كفلها الدستور، وان هذا التنظيم يتعين أن تتولاه السلطة التشريعية بما تصدره من قوانين، فلا يجوز لها أن تسلبه من اختصاصاها وتحيل الأمر برمته إلى السلطة التنفيذية دون أن تقديها في ذلك بضوابط عامة وأسس رئيسية تلتزم بالعمل في إطارها.".
وانفراد التشريع بالتجريم والعقاب وفقا لما يقضي به مبدأ الشرعية الجنائية، يعني اختصاص المشرع وحده بمعالجة المسائل التي تدخل في اختصاصه، دون أن تزاحمه في ذلك السلطة التنفيذية بما تملكه من سلطة التشريع عن طريق اللوائح، غير انه يمكنها عن طريق اللوائح تنظيم وتنفيذ ما أقره من المشرع من قواعد عامة، ومن المسائل التي تدخل في اختصاص المشرع وحده كل ما يتعلق بتنظيم ممارسة الحقوق والحريات ورسم حدودها، فلا تملك السلطة التنفيذية التدخل في هذا المجال دون إذن من المشرع[1].ولأن التشريع يعد صادرا من أقدرا السلطات على استجلاء جوانب الصالح العام، والتعبير عن مقتضياته، كون السلطة التشريعية تعبر عن إرادة الشعب، هو فقط الذي يمكن أن يضمن التوازن بين الحقوق والحريات الفردية وبين مقتضيات المصلحة العامة، لذا فإن منطقة الحقوق والحريات محرمة على غير المشرع، متروكة له وحده باعتباره ممثلا للشعب، ويمارس انفراده هذا طبقا للدستور، وأن يفعل ذلك بالكيفية التي حددها الدستور – القواعد القانونية- ولا يمكن أن تشاركه السلطة التنفيذية في ذلك، إلا في الحدود التي ينص عليها التشريع طبقا للدستور.
الفرع الثاني
إتباع قواعد خاصة في تفسير النصوص الجنائية
يقصد بالتفسير تلك العملية الذهنية التي يمكن عن طريقها التوصل إلى المعنى الحقيقي للنص القانوني، حتى يتسنى للقاضي تطبيق النص على الوقائع المعروضة عليه للفصل فيها، خاصة في الحالة التي تكون فيها النصوص غامضة وتحتمل التأويل أو تثير اللبس، لذا يتعين على القاضي البحث عن المعنى الذي أراده المشرع من خلال وضعه لهذا النص، والتفسير عملية قضائية تخص كل النصوص القانونية لا الجزائية فقط، حيث كل نص يحتاج إلى استجلاء معناه ومحتواه، لدرجة أن بعض الفقه رأى انه: لا قضاء بدون تفسير. غير أن القواعد الجنائية، وبالنظر لمساسها بحقوق وحريات الأفراد، نجد الدستور قد خصها بقواعد معينة يجب أن يتم إتباعها في حالة إرادة تفسيرها، خاصة وان الإخلال بمثل هذه القواعد يخل بمبدأ الشرعية الجنائية ذاته. لذا فكيفية تفسير النصوص الجنائية التي بطبيعتها تعد نصوصا عامة ومجردة، تكون بحاولة تطبيقها على الوقائع التي تحدث بالنظر لكل واقعة على حدة، فالمشرع إن كان يضع النصوص الجنائية، فالقاضي هو الذي يقع عليه إثبات تطبيقها، لذا فمن الواجب عليه النظر فيما إن كانت الواقعة التي حدثت تندرج تحت النص الذي سنه المشرع. والتفسير هو البحث عن المعنى الحقيقي للنص العام المجرد، بحيث يمكن تطبيقه على الوقائع المادية، وهو شأن كل قاعدة جنائية حتى ولو لم يكن يشوبها غموض أو إبهام، حيث كل قاعدة جنائية لا بد لها من تفسير وشرح[2]. وتقيدا بمبدأ الشرعية الجنائية، وتحقيقا للعدالة الجنائية، فإن تفسير النصوص الجنائية بمختلف أنواعها تخضع لبعض القواعد الخاصة، حتى لا يكون التفسير اعتداء على مبدأ الشرعية الجنائية وبالتالي اعتداء على الحقوق والحريات. لذا يرى غالبية الفقه، بأن القاضي في تفسيره النصوص الجنائية يجب أن يتبع أسلوب التفسير الضيق أو الحرفي، وأنصار هذا الاتجاه وصلوا حتى دعوة إسناد عملية التفسير للسلطة التشريعية حتى لا يتحول القاضي إلى مشرع[3]، وهو تبرير يجد سنده في العصر الذي وجد فيه المبدأ، حيث ظهرت المدرسة الكلاسيكية كرد فعل عن التحكم والتعسف الذي كان يمارسه القضاة آنذاك، لكن يرى البعض أن هذا الأمر وهم ولا يستند لأي أساس قانوني سوى على العامل الزمني الذي نشأ فيه مبدأ الشرعية الجنائية، خاصة وان القاضي وهو يفسر النصوص الجنائية، لا يعطي رأيه الشخصي وإنما يبحث عن المعنى الحقيقي للقانون، وعن المعنى الموضوعي للنص كما أراده المشرع، ومن جهة ثانية، إلزام القاضي بالتفسير الضيق يفترض قانونا أن تكون النصوص الجنائية الصادرة عن المشرع دقيقة شكلا ومضمونا، وهو غير الموجود في الواقع، إذ كثيرا ما تتصف النصوص الجنائية بعدم الدقة، وينطوي في بعض الحيان على بعض المتناقضات الظاهرية، ثم أن إرادة المشرع التي ضمنها النص، ليست مبدأ جامدا محكومة بالوقائع الاجتماعية السائدة وقت صياغة النص، بل هي إرادة متطورة بتطور الوقائع الاجتماعية التي تعد بلورة لإرادة المشرع، أو المصلحة تبلور إرادة المشرع وتبعا لها يتحدد نطاق تطبيق نصوصه، والقانون لم يصنعه المشرع ليومه فقط، بل صنع للمستقبل، وعلى هذا النحو ترك أمر التفسير لأجل تحديد معنى النصوص القانونية في ضوء التحولات والتغيرات الاجتماعية، والقاضي في ذلك ملزم دائما بالإرادة المفترضة للمشرع افتراضا منطقيا في ضوء الوقائع الاجتماعية الجديدة، مع احترامه للصيغة التي استعملها المشرع في صياغة النصوص احتراما لمسألة الاستقرار القانوني، خاصة وان القانون في الكثير من الأحيان يبنى على أفكار متحركة ومتطورة بطبيعتها، كأفكار النظام العامة والآداب العامة، ومسالة الاختراعات العلمية والتطورات التكنولوجية، ومفهوم المنقول والعقار... وبالتالي القاضي في تفسيره للنصوص الجنائية، يجب أن يبحث عن إرادة المشرع من خلال الصيغة التي عبر من خلالها عن هذه الإرادة، وأن يراعي مجمل الأحكام الدستورية المتعلقة بالمسألة حتى يكون تفسير القاضي مطابقا للدستور.
الفرع الثالث
حظر القياس في المسائل الجزائية
القياس هو :" إلحاق واقعة غير منصوص علي حكمها بواقعة أخرى منصوص على حكمها لاشتراك الواقعتين في علة الحكم"، ذلك أن الحكم يتبع علته وجودا وعدما، في حين يتوسع بعض الفقه في تعريف القياس، بحيث لا يقاس فقط على واقعة بعينها منصوص على حكمها، ولكن على النظام القانوني في مجمله، ووفقا لذلك هناك نوعين من القياس، قياس شرعي Analogie légale وقياس قانوني Analogie juridique. القياس الشرعي، وهو قياس واقعة لم يرد نص بحكمها على واقعة أخرى منصوص عليها، لاشتراك الواقعتين في نفس العلة، فيطبق على الواقعة غير المنصوص على حكمها نفس حكم الواقعة المنصوص عليها. وأما القياس القانوني، هو أن تلحق واقعة غير منصوص على حكمها ليس بواقعة أخرى بعينها، ولكن بمجمل المبادئ العامة وروح القوانين، وتدخل في هذا الاعتبار، المعطيات الأخلاقية والدينية والاجتماعية، وهو الذي كان معمولا به في العصر السابق على الثورة الفرنسية، واختفى في القرن التاسع عشر مع ظهور مبدأ الشرعية الجنائية، لكنه عاد للظهور ثانية في القرن العشرين مع ظهور الفقه الجنائي الحديث والمذاهب السياسية الاستبدادية، فرأى أنصار المذهب الوضعي أن ضرورات الدفاع الاجتماعي ضد الظاهرة الإجرامية تقتضي الأخذ بالقياس، وأثر كذلك المذهب الماركسي الذي لا يأخذ بعين الاعتبار إلا بالمصلحة متناسيا حرية الفرد.
وإن كان القياس عموما يعد وسيلة من الوسائل التي تستهدف استكمال النقص الذي يشوب النصوص القانونية، وذلك عن طريق إيجاد حل لمسألة لم ينظمها القانون عن طريق استعارة الحل من مسألة مماثلة وضع لها المشرع حلا، فإنه في المجال الجنائي القياس غير جائز بناء على مبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، حيث يبعد القياس ضمنيا، حيث تقييد الحقوق والحريات بيد المشرع وحده مما ينزع من القاضي مكنة اللجوء للقياس في هذه المسائل، حتى ولو كان النص قاصرا أو القانون مشوب بقصور أو بثغرات، كون مسألة التجريم والعقاب تمس بالحقوق والحريات الفردية، التي يعد أمر التشريع فيها من اختصاص المشرع وحده دون أن يزاحمه في ذلك احد. وإن أمكنت مزاحمته أحيانا وفي بعض الاستثناءات، من قبل السلطة التنفيذية بما تملكه من اختصاص التشريع سيما في مجال المخالفات، فإن ذلك محكوم بنصوص الدستور، وفي نطاق القواعد العامة للقانون الصادر عن السلطة التشريعية، لكن مسألة القياس تجريما وعقابا، مسألة مستبعدة تماما. خاصة وأن القياس مهمة مناطة بالقاضي الذي لا يملك إزاء النصوص العقابية سوى التطبيق. دون خلق الجرائم والعقوبات عن طريق القياس.
غير انه تجدر الإشارة، إلى أن القياس المحظور، هو القياس في مجال التجريم والعقاب، بالنظر لما تنطوي عليه المسألة من تقييد ومساس بحريات الأشخاص وحقوقهم، سواء تعلق الأمر بخلق جريمة جديدة
أو ظرف تشديد جديد أو عقوبة جديدة، غير أن النصوص التي تخدم صالح المتهم يجوز فيها القياس، كأسباب الإباحة وموانع المسؤولية أو موانع العقاب، أو الأعذار القانونية المعفية أو المخففة، ففي هذه الحالات يعد القياس استصحاب على الأصل العام، المتمثل في أن الأصل في الأشياء الإباحة، وإن كان القياس ممنوع في التجريم والعقاب كونه قياس عن استثناء، فإن القياس في الأصل يجوز. خاصة وان القياس في مثل هذه الحالات يخدم الحريات والحقوق ولا يمس بها أو يقيدها، ومبدأ الشرعية يقتضي حظر القياس خوفا من الإفتتات على هذه الحقوق والحريات، وما عدا ذلك فهو جائز[4]. وإن غابت بعض الأحكام القضائية في الجزائر التي تؤكد عن المسألة، فإنه محكمة النقض الفرنسية أكدت بجواز القياس متى كان في صالح المتهم، حيث سبق وان قاس المشرع الفرنسي على جريمة السرقة بين الأزواج والأصول والفروع التي لا توجب سوى التعويض المدني، على جريمة النصب وخيانة الأمانة، قبل أن تتجسد كنصوص في تقنين العقوبات ونقل المشرع الجزائري المسألة على قانونا العقابي[5]. كما اعتبر المشرع الفرنسي حالة الضرورة من أسباب الإباحة عن طريق القياس على باقي أسباب الإباحة بالرغم من عدم وجود نص يقرر ذلك، غير أنه بخصوص هذه المسألة، فإن المشرع الجزائري لم يتبناها. غير أن المشرع الفرنسي وفي قانون عقوباته الجديد لسنة 1992 والذي دخل حيز النفاذ سنة 1994 أدخل حال الضرورة ضمن أسباب الإباحة بموجب نص المادة 122-7.
المطلب الثاني
تطبيق النص الجنائي من حيث الزمان
عدم الرجعية كأثر من آثار مبدأ الشرعية الجنائية
من قبيل المسلمات أن النصوص القانونية بما فيها ذات الطابع الجنائي ليست بالنصوص الأبدية، بل خاضع للتعديل والإلغاء تبعا لإرادة المشرع في مواجهة ظاهرة الإجرام، والقاعدة القانونية المعروفة عادة، أن النص القانوني لا يطبق على ما حدث من وقائع قبل دخوله حيز النفاذ ولا بعد أن تم إلغاءه، بل يحكم فقط الوقائع والتصرفات التي حدثت في مرحلة سريانه أو فترة نفاذه، والنص الجنائي تحكمه قاعدة عامة معروفة في جل الأنظمة القانونية وهي القاعدة التي تعد مكملة لمبدأ الشرعية الجنائية، أو نتيجة من نتائجه أو أثر من آثاره، وهي قاعدة عدم رجعية النص الجنائي للتطبيق على الماضي، أو قاعدة الأثر المباشر والفوري للنصوص الجنائية، غير أنه مثلما هو الشأن بالنسبة لكل قاعدة، فإنه يرد عليها استثناء، وهذا الاستثناء في المجال الجنائي يعد في حد ذاته مبدءا لم تعرف له فروع القانون الأخرى نظيرا، ألا وهو مبدأ " رجعية القانون الأصلح للمتهم"، أو ما عبر عنه المشرع " بالقانون الأقل شدة". وبذلك تكون المادة الثانية من قانون العقوبات قد تضمنت القاعدة العامة المتمثلة في عدم رجعية النصوص الجنائية، وذلك في الفقرة الأولى منها، في حين تضمنت الفقرة الثانية منها الاستثناء الذي قلنا انه مبدءا في حد ذاته، وهو رجعية القانون الأصلح للمتهم، :" لا يسري قانون العقوبات على الماضي إلا ما كان منه أقل شدة".
الفرع الأول
قاعدة عدم رجعية النصوص الجنائية
تطبيقا لمبدأ الشرعية الجنائية الذي يقضي بأن تكون عملية التجريم والعقاب بموجب النصوص التشريعية المكتوبة، الصادرة عن السلطة المختصة بذلك احتراما لمبدأ الفصل بين السلطات، وتطبيقا لدولة القانون، وتحقيقا لمبدأ سمو هذا القانون، فإن كل ذلك، وحتى المنطق يقضي أن يكون هذا القانون موجودا، أي أن يكون النص سابقا عن الواقعة التي اقترفها الجاني، كون مبدأ الشرعية يقتضي ضمنيا تخيير الشخص بين ما هو مباح وما هو محظور، فعلى الأقل المحظور يجب أن يكون مبينا مسبقا. لذا فالمنطق يقتضي أن كل قانون لا يحكم إلا الوقائع التي حدثت في ظل نفاذه وسريانه، ولا يمتد تطبيقه على ما وقع أو حدث من وقائع سابقة عن نشره وترتيب آثار سريانه[6]، وفي الحقيقة القاعدة لا يختص بها القانون الجنائي وحده، بل هي قاعدة معروفة في كل القوانين الأخرى، بمختلف أقسامها وفروعها، غير أن اختصاص هذه الأقسام والفروع وعدم مساسها بالحقوق والحريات الفردية لم يجعل من عدم الرجعية مسألة تنال الاهتمام مثل الاهتمام الذي لاقته في المجال الجنائي، وبالتالي تقضي القاعدة أن القانون يحكم فقط الأفعال التي تكون لاحقة أو على الأقل معاصرة للحظة سريانه، دون تلك التي حصلت قبل ذلك، ولحظة سريان القانون قد يكون بالنص صراحة على هذا التاريخ، أو وفقا للقواعد العامة في سريان النصوص القانونية، وذلك في خلال 24 ساعة من نشره في الجريدة الرسمية أو من وصول هذه الأخيرة للمناطق البعيدة أو التي كانت تشهد ظروفا استثنائية حالت دون وصول الجريدة الرسمية في وقتها.
وبالتالي تعد قاعدة عدم الرجعية، أو قاعدة الأثر الفوري أو الأثر المباشر لقانون العقوبات، من القواعد الأساسية المكملة لمبدأ الشرعية الجنائية، والتي تقضي وتهدف إلى عدم مفاجأة الأشخاص بتجريم أفعال كانت مباحة وقت ارتكابها، غير أنه للقاعدة استثناء نصت عليه الفقرة الثانية من تقنين العقوبات الجزائري، وهي قاعدة رجعية القانون الأقل شدة – على حسب تعبير المشرع الجزائري- أو قاعدة القانون الأصلح للمتهم حسب التسمية التي يطلقها الفقه الجنائي. وهي الاستثناء الذي يعد في حقيقته مبدءا في قانون العقوبات، الذي نتناوله في النقطة الموالية.
الفرع الثاني
القانون الأصلح للمتهم (القانون الأقل شدة)
إن كانت قاعدة عدم رجعية النصوص الجنائية، قاعدة تعرفها غالبية الفروع القانونية الأخرى، فإن قاعدة رجعية القانون الأقل شدة، وفقا لتعبير المشرع الجزائري، أو القانون الأصلح للمتهم وفقا لتعبير فقهاء القانون الجنائي، تعد في نظرنا قاعدة جنائية خالصة، يختص بها قانون العقوبات دون غيره من فروع القانون الأخرى، التي إن أراد المشرع سريانها على الماضي نص على ذلك صراحة، في حين أنها في المجال الجنائي تعد مسألة قانونية، القاضي ملزم بإعمالها دون الحاجة للنص عليها، وذلك أن صلاحية القانون للمتهم بأي وجه من الأوجه يعد عودة نحو الأصل وهو البراءة، وبالتالي الأصل لا يحتاج على نص بل يقتضيه المنطق[7]. غير أنه لتطبيق فكرة القانون الأصلح للمتهم شروط وضوابط ومعايير يتعين تناولها في النقاط التالية.
أولا: شروط تطبيق القانون الأصلح للمتهم
ليستفيد المتهم من القانون الأصلح للمتهم يجب أن نشير إلى بعض المسائل الهامة، فالقول بهذا الاستثناء يعني بالضرورة انه يوجد هناك قانونان، القانون القديم وهو الذي في ظله ارتكب المتهم جريمته، وقانون جديد صدر قبل أن يصدر حكم نهائي بات في القضية، وإلا لولا صدور هذا القانون الجديد لما طرحت مسألة القانون الأصلح للمتهم على بساط البحث، ومن ثم يجب أن يكون هذا القانون يحمل ما يوحي أنه أصلح للمتهم، إذ إذا كان أسوأ فلا مجال لتطبيقه أصلا، وبالتالي يمكن تلخيص شروط تطبيق القانون الأصلح للمتهم في الشرطين التاليين: أن يكون القانون الجديد قد صدر قبل صدور حكم نهائي بات في القضية، وأن يكون القانون الجديد أقل شدة أو أصلح للمتهم من وجهة نظر القانون لا من وجهة نظر المتهم. وهو ما نبينه في نقطتين مستقلتين، غير أننا ننبه بأن هناك شرط ثالثا ضمني لا نحاول تفصيله، على اعتبار أنه شرط بديهي، وهو أن نكون فعلا أمام تنازع للقوانين أي أن يصدر قانون جديد قبل صدور حكم نهائي بات على الشخص، لأننا إن كنا أمام قانون واحد فهو الواجب التطبيق سواء كان شديدا أو كان في مصلحة المتهم.
1- أن يكون القانون الجديد أقل شدة للمتهم ( أو أصلح للمتهم):
وهي أن يكون القانون الجديد الذي صدر ليزاحم القانون القديم الذي حدثت في ظله الجريمة أصلح للمتهم، وبالتالي فالمسألة تتعلق بتنازع القوانين، وعلى القاضي أن يختار منهما أي قانون يحقق مصلحة المتهم بإعمال معايير وضوابط قانونية تمكنه من الحكم على صلاحية القانون، حيث الأمر غير متروك لتقدير المتهم ولا لاختياراته، إذ ما قد يراه المتهم في صالحه، قد لا يكون كذلك من وجهة نظر القانون، كما أن مسألة اختيار القانون الأصلح للمتهم مسألة موضوعية يستقل بتقديرها قاضي الحكم في ظل الظروف المحيطة بالقضية وشخصية الجاني[8]، إذ لهذه الأخيرة دور كبير في تحديد القانون الأصلح للمتهم، سيما في الحالات الغامضة التي أثارت الكثير من الجدل في الفقه حول تحديد صلاح القانون للمتهم، لذا وجدت الكثير من الأسس والضوابط الموضوعية المستندة أحيانا لبعض الظروف الشخصية، التي من شأنها تمكين القاضي من إجراء مقارنة قانونية بين القانونين وتحديد أيهما أصلح لحالة المتهم في ظل ظروفه التي ارتكب فيها الجريمة.
أ- الضوابط المعمول بها لتحديد القانون الأصلح للمتهم:
سبق وأن رأينا انه من خصائص القاعدة أو النص الجنائي أنه يتألف من شقين أساسيين، شق التجريم وشق الجزاء، وأن الأولوية للشق الأول على الثاني، كون الأخير ما هو إلا أثر مترتب عن اقتراف شق التجريم المتضمن النهي أو الأمر، وأن توقيع الجزاء تحصيل حاصل، لذا فمسألة تنازع القوانين من حيث الزمان، والبحث في أي منهما أصلح للمتهم، قد ينظر فيه لشق التجريم، كما قد ينظر فيه لشق الجزاء، ووفقا للقانون الأولوية دوما لشق التجريم على شق الجزاء، أي أولوية شق التجريم على شق الجزاء إعمالا للمادتين 27 و5 من قانون العقوبات الجزائري[9]، وتنازع القانونيين قد يكون من حيث شق التجريم وقد يكون من حيث شق العقاب، أي أن التعديل الذي مسه القانون الجديد قد يتعلق بأي منهما، وقد يكون متعلقا بكلا الشقين، لذا أوجد الفقه والقضاء معايير تساعد القاضي بخصوص الشق الأول – شق التجريم- وأخرى تعينه في المقارنة بخصوص شق الجزاء.
أ/1-الضوابط المستمدة من الأحكام الخاصة بالتجريم
تطبيقا للمادة 27 من تقنين العقوبات الجزائري، التي قسمت الجرائم إلى جنايات ثم جنح ثم مخالفات، وبالنظر للمادة 5 من ذات القانون التي بينت العقوبات الأصلية لكل من هذه الأنواع، فإن القاضي ملزم بإتباع الترتيب الوارد بهذه المواد، وبذلك يكون القانون الجديد أصلح للمتهم في الحالات التي نعطي عليها أمثلة في النقاط التالية، مع العلم أن المسألة تنأى عن الحصر، كون شق التجريم ترتبط به العديد من الأفكار المتعلقة بالإباحة والمسؤولية وموانعها والنظريات المعمول بها بخصوص الشروع والاشتراك والمساهمة، وما إلى غير ذلك من أفكار، غير أن أهم الحالات التي يمكن الحكم فيها على القانون أنه أصلح للمتهم نذكر:
- حالة إباحة القانون الجديد للفعل الذي كان مجرما بالقانون القديم، وهي من أهم الحالات التي يمكن فيها للمتهم الاستفادة من القانون الجديد حتى ولو كان صدر عليه حكم نهائي بات، أي دون انتظار تحقق الشرط الثاني لتطبيق قاعدة القانون الأصلح للمتهم.
- إضافة القانون الجديد للنص القديم سبب من أسباب الإباحة أو مانع من موانع المسؤولية يستفيد منه المتهم في الظروف المحيطة بالجريمة، أو إضافة مانع من موانع العقاب – وإن كان هذا الشق يتعلق بالجزاء لا بشق التجريم-
- إضافة النص الجديد للجريمة ركنا لم يكن مشترط في النص القديم، ويستفيد من هذه الإضافة المتهم، أي تخلف في حقه الركن الجديد الذي اشترطه النص الجديد.
- إعادة تكييف الفعل من الوصف الأشد إلى الوصف الأخف، كأن كان الفعل جناية وأصبح جنحة، أو كان جنحة وأصبح مخالفة. وذلك بغض النظر عن مدة العقوبة.
- إلغاء فكرة العقاب على الشروع في الجريمة، إذ كان النص القديم يعاقب على الشروع في الجنحة وألغاه النص الجديد، وكان المتهم في وضع المتابعة لأجل الشروع في الجريمة وفقا للنص القديم.
هذا ونشير أن الحالات السابقة تعد من بين الحالات الأكثر ووضحا، ولا يعني سردها بأنها الوحيدة، فأمر القانون الأصلح للمتهم قد يتعلق بكافة أفكر القانون الجنائي، والإلمام بها يتعين التفرغ من دراسة القانون بأكمله .
أ/2 - الضوابط المستمدة من الأحكام الخاصة بالجزاء
وهي الحالات التي يكون فيها التعديل الوارد بالنص الجديد متعلقا بشق الجزاء، دون الشق المتعلق بالتجريم، وهي الحالات التي تنأى بدورها عن الحصر وتتعلق بكامل نظرية الجزاء الجنائي، غير أوضح الحالات التي درج الفقه على إعطاءها سنوضحها، غير أننا نؤكد بأن القاضي ملزم في تحديد القانون الأصلح للمتهم بنظرة المشرع العامة وترتيبه للجزاءات وأنواعها وقيمتها ومدتها، لا بما يراه المتهم انه أنسب وأصلح له، لذا فالترتيب الوارد بالمادة 5 من تقنين العقوبات الجزائري ملزم للقاضي وإن كان في الغالب لا يخدم مصلحة المتهم. ومن أهم ما درج الفقه على إعطاءه من حالات وأمثلة نذكر.
- حالات تخفيف النص الجديد للعقوبة، ويجب مراعاة التخفيف المتدرج المنصوص عليه في المادة 5 من قانون العقوبات الجزائري، حيث نجد الإعدام، المؤبد، السجن المؤقت من خمس سنوات إلى عشرين سنة، الحبس من شهرين إلى خمس سنوات، الغرامة التي تتجاوز 20.000 دج، الحبس من يوم إلى شهرين، الغرامة من 2000 دج إلى 20.000 دج[10].
- في حالة اتحاد العقوبة في الجنس والنوع، فالقانون الأصلح هو الذي ينقص من المدة، كان كانت العقوبة في كلا القانونين السجن أو الحبس، فإن القانون الأصلح الذي ينقص من المدة، وإن كانت العقوبة الغرامة في كلا القانونيين، فإن القانون الأصلح هو الذي ينقص من مقدارها.
- كما يعد القانون الصلح للمتهم، القانون الذي ينقص من عدد العقوبات، كأن كانا عقوبتين فجعلهما واحدة،
أو كانت إجباريتين فأعطى الخيار للقاضي.
- إذا جاء القانون الجديد بوقف التنفيذ، أو أضاف مانع من موانع العقاب، أو عذر مخفف سواء كان قضائي أو قانوني.
- إلغاء القانون الجديد للعقوبات التبعية أو التكميلية بعدما كان القانون القديم يتضمنها.
- غير أنه هناك إشكال، يتمثل في كون العقوبات في غالبية التشريعات مبنية على نظام الحدين، حد أدنى وحد أقصى وللقاضي السلطة التقديرية في الحكم بينهما، أو حتى النزول عن الحد الأدنى إعمالا لظروف التخفيف ( المادة 53 من قانون العقوبات وما بعدها من مواد مكررة)، وهنا يكون أي قانون أنزل أحد الحدين سواء كان الأدنى أو الأقصى هو الأصلح للمتهم، وأي منهما رفع هذين الحدين هو الأسوأ، غير أن الإشكال يكمن في الحالة التي يعدل فيها الحدين، وهنا لا إشكال في الذي ينزل بهما معا، فهو دوما الأصلح، كما أنه لا إشكال بخصوص القانون الذي يصعد بهما معا فهو دوما الأسوأ، لكن الإشكال في الذي يرفع من أحدهما وينزل من الآخر، كالرفع من الحد الأدنى والنزول بالحد الأقصى، أو العكس، فهنا ثار جدل فقهي انتهى واستقر في نهاية المطاف أن القاضي ينظر فيه إلى حالة المتهم، فإن كانت ظروفه الشخصية تستحق التخفيف فالقانون الذي ينزل بالحد الأدنى أصلح له حتى وإن رفع من الحد الأقصى، وذلك لكونه جدير بالحد الأدنى، مهما زاد الحد الأقصى، وإن كانت ظروفه الشخصية تقود للتشديد كان يكون عائدا فالقانون الذي ينزل بالحد الأقصى هو الصلح له حتى وإن رفع من الحد الأدنى كونه جدير بالحد الأقصى.
كما يثور الإشكال حول القانون الذي يجمع بعض القواعد التي تعد في صالح المتهم، والبعض الآخر منها في ضد مصلحته، فهنا الحل يكمن في البحث عما إذا كان القانون قابل للتجزئة من عدمها، والقابلية للتجزئة تعني إمكانية تطبيق بعض قواعده في معزل عن الأخرى، على عكس القانون الذي يتضمن قواعد تعد كل واحد لا يقبل التجزئة، مثل القانون الذي يجعل العقوبة التكميلية التي كانت وجوبية وجعلها جوازية، مع رفعه لمدتها، فهنا يجب النظر لظروف القضية على حدا، فإن كانت ظروف الجاني تقتضي التخفيف اعتبر القانون الجديد أصلحا له بالرغم من كونه رفع من مدة العقوبة التكميلية كونه أجدر بتطبيق ظروف التخفيف، والعكس غير صحيح، لذا فمسألة تقدير القانون الأصلح للمتهم، في القوانين القابلة للتجزئة بناء على العلاقة المنطقية بين مختلف النصوص القانونية، والسياسة الجنائية، وفي ضوء اعتبارات شخصية ينظر فيها لشخصية الجاني، وليس بنظرة موضوعية مجردة، وبناء على ذلك يقدر القاضي القانون، ويمتنع عليه تطبيق القانون الشد بأثر رجعي، عكس القانون الأصلح.
وهناك إشكالية أكثر تعقيدا، تتمثل في تنازع ثلاثة قوانين، خاصة إذا ارتكبت جريمة في ظل قانون أشد، ثم صدر قبل الحكم النهائي قانون أقل شدة، وقبل صدور حكم نهائي في القضية صدر قانون ثالث أشد من سابقه وفي ظله سيحاكم المتهم، فأي قانون من بين هذه القوانين الثلاثة سيطبق؟، السائد فقها وقضاء، هو تطبيق القانون الثاني الذي يعد الأصلح للمتهم، خاصة وأن عدم صدور حكم على المتهم في ظل هذا القانون مرده تأخر الإجراءات والمحاكمة، وهي مسألة لا دخل للمتهم فيها، لذا لا يجب أن نحمله عبء تأخر الإجراءات وبطء المحاكم في إصدار الأحكام، إلا أنه بالرغم من وجاهة هذا الرأي ومنطقيته، إلا أن الفقه يرى الأخذ بوجهة النظر هذه بحذر وتحفظ، كون التنازع في الأصل يقوم بين قانونين لا أكثر، وهما القانون الذي حدثت في ظله الواقعة المتابع الشخص من أجلها، والقانون الساري وقت المحاكمة، لذا فليس للمتهم المطالبة بالقانون الثاني- الوسط- لأنه وضع المتهم في ظل سريان هذا القانون لم يتغير، حيث لم يرتكب في ظله الجريمة، كما أنه لا يحاكم في ظله.
كما أن إشكال بطء الإجراءات قد يتسبب في بعض الأوضاع غير المنطقية، حيث أن مسألة التنازع بين القوانين وقاعدة تطبيق القانون الأصلح للمتهم، تثير إشكال في الحالة التي ترتكب فيها جريمتين من نفس النوع، من شخصين، في حين يكون قد صدر على أحدهما حكم نهائي بات حائز لقوة الشيء المقضي فيه، وفي هذه الحالة ينتفي ركن هام من أركان تطبيق القانون الأصلح للمتهم، في حين تأخرت مع الآخر الإجراءات، ولم يصدر ضده حكم نهائي، وبالتالي صدر قانون جديد يعد أصلحا له، ففي هذه الحالة سيستفيد منه، مما يخلق وضعين قانونيين شاذين، حيث يسرى على واقعتين من نفس النوع حدثتا في ذات الوقت قانونيين مختلفين، مما يؤدي إلى الحكم على المتهمين بعقوبتين مختلفتين، إحداهما أشد من الأخرى،
أو أن يدان أحدهما ويبرأ الآخر، خاصة لو أن القانون الجديد قد أباح الفعل، وهنا يرى البعض أنه لا سبيل إلى إصلاح هذا الوضع، إلا عن طريق إجراء العفو، وهو إجراء في جوهره وطبيعته يختلف عن مسألة التخفيف من العقوبة أو إلغائها أو إباحة الفعل. لذا نجد بعض التشريعات تضمنت معالجة لهذه المسألة، وذلك بإعادة النظر في القضية ككل، مثل القانون الدنمركي في المادة الثالثة من تقنين عقوباته، والمادة 24 من قانون العقوبات الإسباني، والمادة 6 من قانون العقوبات البرتغالي، والمادة 2 من قانون العقوبات البولندي، وهو الاتجاه الذي تبناه المؤتمر الدولي للقانون الجنائي المنعقد في برلين سنة 1935.
.
2- ألا يكون قد صدر حكم نهائي بات في القضية
الشرط الثاني لتطبيق القانون الأصلح للمتهم، بعد توفر الشرط الأول المتمثل في تزاحم قانونين، هو ألا يكون قد صدر في القضية حكم نهائي بات، والحكم النهائي البات هو الحكم الذي لا يقبل أي طريق من طرق الطعن، سواء العادية أو غير العادية، وهو أمر بديهي ومنطقي، حيث لا يجب أن يتم المساس بقرارات العدالة النهائية احتراما للأوضاع والمراكز القانونية التي خلقتها، واحتراما لمبدأ حجية الشيء المقضي به المعمول بها في القانون أي كان نوعه، وفي المجال الجنائي تجنبا لمحاكمة الشخص عن الفعل الواحد مرتين.
غير أن هذا الشرط، وكما سبقت الإشارة، لا يمس بالحالة التي يباح فيها فعل كان مجرما بموجب قانون قديم عدل أو ألغي، بالرغم من أن الموضوع قد أثار خلافا وجدلا فقهيا حادا، إلا أنه استقر في نهاية المطاف، على إفادة المتهم بالقانون الذي جاء بالإباحة، بحجة أنه لا فائدة من العقاب على فعل أصبح مباحا في نظر المجتمع، غير أن غالبية الدول العربية تضمنت قوانينها العقابية حلا قانونيا صريحا للمسألة، تبنت فيه الرأي السابق، ومن أمثلتها المادة 5/3 من تقنين العقوبات المصري، والمادة 2 من تقنين العقوبات اللبناني، والمادة 2 من تقنين العقوبات السوري، على عكس المشرع الجزائري الذي لم يضمن قانونه نصا خاصا بالمسألة أسوة بالمشرع الفرنسي.
ثانيا: الاستثناءات الواردة على قاعدة رجعية القانون الأصلح للمتهم
إن كانت قاعدة رجعية القوانين الأصلح للمتهم في المجال الجنائي، تمثل استثناء على قاعدة عدم رجعية القوانين، فهذا الاستثناء ترد عليه استثناءات – بمعنى العودة للقاعدة- وهي أنه لا رجعية للقوانين الإجرائية والمحددة المدة حتى ولو كانت أصلح للمتهم. كون القوانين الإجرائية قوانين تنظم مرفق العدالة ولا خيار للمتهم ولا فائدة له في التنظيم، والمسألة تخص الدولة لا الأفراد، والقوانين المحددة المدة التي يسنها المشرع لمواجهة ظروف وحالات مؤقتة تقتضي طبيعتها وظروفها ذلك، لا يمكن تقييدها باستثناء الرجعية كون ذلك يفقدها الهدف الذي لأجله سنها المشرع، وتكون سببا لتهرب الأفراد ومناورته لغاية انتهاء مدة القانون للاستفادة بفكرة القانون الأصلح للمتهم. وهو ما نوضحه في النقطتين التاليتين.
1- القوانين المؤقتة أو المحددة المدة(Les lois temporaires)
وهي القوانين التي يصدرها المشرع لمواجهة فترات استثنائية معينة أو أوضاعا محددة، وهي مستثناة من رجعية القانون الأصلح للمتهم، حتى ولو لم يكن قد صدر ضده حكم نهائي حائز لقوة الشيء المقضي به، والقول بخلاف ذلك يفقد هذه القوانين معناها والهدف الذي كان يتوخى منها. غير أن ما تجدر الإشارة إليه، هو أن القوانين المؤقتة تختلف عن القوانين الاستثنائية Les lois exceptionnellesأو القوانين الظرفية Lois de circonstances حيث أنها قوانين فعلا مؤقتة بطبيعتها، غير أنها سنت لمواجهة ظروف معينة دون أن تحدد مدة معينة للعمل بها، بل ذلك مرهون بالمدة التي يستغرقها الظرف الذي سنت لأجله، وهو الظرف الذي في العادة ما يكون سياسيا أو اقتصاديا، حيث لا ينتهي العمل بها إلا بصدور قانون يلغي العمل بها، على عكس القوانين المؤقتة التي تتضمن تاريخ سريانها، وهنا يرى الغالبية تطبيق قاعدة القانون الأصلح للمتهم، حيث لا يمكن اتهام الشخص بتحايله اتجاهها رغبة منه في كسب الوقت حتى إلغائها، كونه لا يعلم بتاريخ إلغائها، على عكس القوانين المؤقتة التي يعمل فيها المتهم ذكائه ويتحايل على القوانين حتى ينتهي العمل بها استفادة من قاعدة القانون الصلح للمتهم، لذا حرم منها في غالبية القوانين الجنائية.
2- القوانين الإجرائية:
تثار مسألة تنازع القوانين الإجرائية من حيث الزمان، وهي القوانين التي يحكمها مبدأ الأثر
أو السريان الفوري، غير أن المبدأ تعترضه بعض الصعوبات العملية في التطبيق، ويرى فقهاء القرن التاسع عشر أن كل إجراء يجب أن يكتمل في ظل القانون الذي شرع أثناء سريانه، وبالبعض يرى المقارنة بين القوانين الإجرائية وتطبيق الأصلح منها مثلما هو الشأن بالنسبة للقوانين الجنائية الموضوعية، غير أن غالبية الفقه يرى وجوب التطبيق الفوري للقوانين الإجرائية دون رجعية، ولا مجال لإعمال مبدأ القانون الأصلح للمتهم بخصوص هذا النوع من القوانين، كونها قوانين صدرت لأجل المصلحة العامة، ومن أجل مصلحة المتهم أيضا وبالتالي يفترض فيه انه أفضل من سابقه من حيث التنظيم القضائي وإظهار الحقيقة بكل جوانبها، وأن القوانين الإجرائية لا تعد حقا مكتسبا يطالب بالاحتفاظ بها، غير أن ذلك أثار جدلا فقهيا، وهو الجدل الذي لم يكن بسهولة وضع هذا الحل الذي تتفق عليه غالبية القوانين. لذا رأى البعض بأنه يجب أن يكون هناك معيار تبنى عليه مسألة التفرقة بخصوص التطبيق الفوري للقوانين الإجرائية، سيما الوقائع التي خضعت لحكم ابتدائي، حيث يرى البعض أن يكون هذا الحكم معيارا للتمييز، حيث يطبق القانون الجديد إن لم يكن قد صدر حكم ابتدائي في القضية، وإن كان قد صدر فيها حكما ابتدائيا فيجب اتباع الإجراءات في ظل القانون القديم تجنبا لكثرة المصروفات وحفاظا على الحقوق التي يكون قد اكتسبها المتهم من خلال هذا الحكم. كما أن طرق الطعن في الأحكام القضائية، يحكمها القانون الذي صدرت في ظله، كونه القانون الذي يكشف عن طبيعة هذا الحكم ونوعه ومدى قابليته للطعن من عدمه ونوعية هذا الطعن، ومواعيده، والأشخاص الذين يجوز لهم ذلك وأسباب بناء الطعن، حيث يظل الشخص خاضعا لطرق الطعن التي كان منصوصا عليها في القانون الذي صدر في ظله الحكم، حتى وإن كان القانون الجديد قد ألغاها.
كما أن نصوص التقادم تثير بعض الخصوصية بالنظر للطبيعة الخاصة لهذه النصوص، سواء تعلقت بتقادم الجريمة أو الدعوى أو العقوبة، كونها نصوص يمكن القول أنها ذات طبيعة موضوعية، وبذلك يمكن إخضاعها لقاعدة القانون الأصلح للمتهم، حيث القانون الذي يزيد من مدة التقادم يعد الأصلح أو الذي يرسي التقادم بعدما كان النص القديم لا يخضع الفعل للتقادم في أي جانب من جوانبه. وإن اعتبرت النصوص المتعلقة بالتقادم، من النصوص الإجرائية، فهنا يسري عليها ما سري على النصوص الإجرائية من حيث قاعدة الأثر الفوري لها، أم هناك حل خاص يجب اعتماده نظرا للطبيعة الخاصة المتعلقة بالتقادم؟.في الواقع حدث نقاش فقهي حاد بخصوص هذه المسألة، ولم يتفق الفقه إلا على نقطة واحدة، وهي أن القانون الجديد لا يطبق على تقادم اكتملت مدته وفتح باب التقادم من جديد،كون ذلك يتعارض ومبدأ عدم الرجعية، بينما بخصوص التقادم الذي لم يكتمل، اعتبره القضاء الفرنسي من القوانين الموضوعية التي تخضع للقانون الأصلح للمتهم، غير أنه سرعانما تراجع القضاء وجعله من القوانين الإجرائية التي تخضع للتنفيذ الفوري دون رجعية[11].غير أن المسألة لم تتوقف عند هذا الحد، بل ظهرت أفكار فقهية أخرى، تصب في غالبها في اتجاه جعل هذه القوانين المتعلقة بالتقادم تخضع لما تخضع له سائر القوانين الإجرائية.
ثالثا: مسألة تحديد تاريخ ارتكاب الجريمة
مسألة تنازع القوانين من حيث الزمن، واختيار الأصلح منهما للتطبيق على المتهم، تقتضي تحديد تاريخ ارتكاب الجريمة ووقته، حيث معرفة تاريخ وقوعها وما إن كان في ظل سريان القانون القديم
أو سريان القانون الجديد من شأنه أن يحسم كل خلاف، خاصة إن كنا نعلم أن بعض الجرائم ترتكب في وقت قصير من الزمن، والبعض الآخر تتراخى عبر الوقت، حيث يستغرق الركن المادي للجريمة في هذا النوع وقتا من الزمن، قد يطول وقد يقصر، بحيث قد ترتكب بعض الأفعال في ظل القانون القديم، وبعضها الآخر في ظل القانون الجديد، فهنا يثور تساؤل حول أي القانونيين يطبق؟ ومن الطبيعي القول بأن القانون الواجب التطبيق، هو القانون الذي حدث في ظله الركن المادي للجريمة، وبالتالي وقت وقوع هذا الركن هو المحدد للقانون الواجب التطبيق، حيث يكون القانون الساري المفعول وقت وقوعه، لكن الإشكال أن السلوك قد يقع في ظل قانون وتحدث النتيجة في ظل قانون آخر جديد، فهل يجب أن نأخذ بعين الاعتبار زمن اقتراف الفعل أو زمن تحقق النتيجة؟. هنا ظهرت ثلاثة آراء فقهية، الأول يرى أن العبرة بتاريخ اقتراف السلوك الإجرامي، وبالتالي القانون الواجب التطبيق هو القانون الساري وقت إتيان السلوك، والبعض الثاني يرى أن العبرة بتحقق النتيجة، وبالتالي القانون الواجب التطبيق هو القانون الساري المفعول وقت تحقق هذه النتيجة، والرأي الثالث يأخذ بالاتجاهين السابقين معا، حيث يجب أن نقارن ما بين القانونيين أيهما أصلح للمتهم ويطبق، ونرى أنه الرأي الأصوب كون الجريمة اكتمال وتحقق في ضوء القانونيين، ونكون بصدد تنازع نبحث فيه عن القانون الصلح للمتهم. غير أن البعض، يرى الأخذ بالرأي الأول لأن الجريمة في نظره يكتمل ارتكابها عند اقتراف السلوك المادي، ولا عبرة بالنتائج، فالفعال يسأل عنه بغض النظر عن حدوث النتيجة خاصة في الجرائم العمدية.
وبخصوص الجرائم المستمرة التي لا يرتكب فيها الفعل المادي دفعة واحدة بل يأخذ وقت من الزمن فيه قد يعدل القانون أو يصدر قانون آخر يثير مسألة تنازع القوانين من حيث الزمان، والاستمرار قد يكون متتابع كانتحال الألقاب أو الصفات، وهنا لإرادة الجاني دور في حالة الاستمرار، وهناك جرائم مستمرة دائمة كجريمة تزييف النقود، أو تقليد الأختام، وفيها الآثار وحدها المستمرة وليس الركن المادي الذي حدث دفعة واحدة، ويعامل هذا النوع من الجرائم معاملة الجرائم الوقتية. أما النوع الأول المتمثل في الجرائم المستمرة المتتابعة، حيث تختلف عن سابقتها، إذ فيها الفعل المادي لا يرتكب دفعة واحدة، وإنما يرتكب باستمرار حيث كل لحظة تمر تعد الجريمة مرتكبة فيها برمتها، حيث في هذه الحالة يكفي أن تستمر الجريمة ولو للحظة واحدة بعد صدور القانون الجديد ليطبق حتى ولو كان اشد بالنسبة للمتهم، وهناك إشكال آخر بخصوص هذه الحالة، يتمثل في حالة اشتراط القانون لفترة من الزمن كعنصر أساسي في السلوك، مثل الإهمال العائلي والامتناع عن دفع النفقة المقررة قضاء، حيث يشترط الإهمال أو الامتناع أن يتم لفترة من الزمن، قدرها المشرع في هاتين الجريمتين بشهرين، فالرأي الراجح فيها أن يطبق القانون الجديد في الحالة التي تتم فيها المدة هذه في ظله، حيث يشترط أن تمر فترة الشهرين في ظل القانون الجديد حتى تعد الجريمة مرتكبة في ظله.
وفي جرائم الاعتياد، التي تفترض تكرار الفعل الواحد أكثر من مرة، فما حكم الفعل إذا ارتكب عدد من المرات في ظل القانون القديم، ومرة واحدة في ظل القانون الجديد، ففي رأي الفقه لا يأخذ بعين الاعتبار إلا حالات التكرار التي ارتكبت في ظل القانون الجديد، واعتبار الحالات الواقعة قبل صدوره كأن لم تكن ولا تأخذ بعين الاعتبار في تكوين حالة التكرار أو الاعتياد. وإن كانت أحكام القضاء تظهر عكس ذلك، حيث يرى القضاء أن القانون في مثل هذه الجريمة يعاقب على حالة الخطورة الكامنة لدى الجاني، وأن الفعل الأخير في الحقيقة هو الذي يبين هذه الخطورة الإجرامية، وبالتالي يمكن اعتبار أن الفعل الأخير هو الذي كون حالة الاعتياد وبالتالي هو الذي كشف عن الخطورة الإجرامية لدى الجاني التي تستحق العقوبة.
وفي حالة العود، غالبية الفقه يرى أن الحكم الصادر في ظل القانون القديم لا يعد سابقة كوننا نرتب آثار قانونية عن قانون لم يعد معمولا به، كما تثار مسألة وقت ارتكاب الجريمة بخصوص حالة تعدد الجرائم، سواء كان تعدد صوري أو تعدد حقيقي، الذي سمى أيضا بالتتابع الإجرامي أو الجرائم المتتابعة، كالسرقة على عدة دفعات...
.
المطلب الثالث
نطاق تطبيق النص الجنائي من حيث المكان
تنازع القوانين الجنائية من حيث المكان
إن كانت فكرة تنازع القوانين الجنائية من حيث الزمان تخص قانونيين صادرين من نفس المشرع، داخل البلد الواحد، فإن تنازع القوانين الجنائية من حيث المكان تتعلق بقوانين مختلفة لدول مختلفة، فالجريمة كمشروع يمكن أن يمتد تنفيذه لأكثر من إقليم واحد، وتسهر على ذلك عصابات إجرامية من جنسيات مختلفة، وقد تمس الجريمة الواحدة بمصالح العديد من الدول، لذا كان يتعين تحديد نطاق تطبيق القانون الجنائي للدولة، باعتباره قانون يجسد سيادتها، وهي السيادة التي تتجسد أولا على إقليم الدولة ومواطنيها، وفي بعض الأحيان تتبع هؤلاء إلى خارج هذا الإقليم، وفي أحيان أخرى فكرة الإقليم ذاتها في القانون الجنائي ذات مدلول مختلف عما تعارف عليه الناس وفقا للقانون الدستوري والقانون الدولي.
لهذه الأسباب – ولأسباب كثيرة أخرى متعددة- فإن مسألة تحديد نطاق السريان المكاني للنص الجنائي، تتحدد باختصار بتطبيق أربعة مبادئ أساسية تأخذ بها غالبية التشريعات الجنائية المعاصرة، وإن كان بعضها ليس بصفة صريحة مثل مبدأ العالمية- من بين هذه المبادئ ما هو أصلي تنعقد له الأولوية على سائر المبادئ الأخرى، كمبدأ الإقليمية، ومنها ما هو احتياطي كمبدأ الشخصية والعينية اللذان لا يعدان من المبادئ التي تكمل مبدأ الإقليمية وتسد النقائص التي يواجهها تطبيق هذا الأخير، ومنها ما يجسد فكرة التعاون الدولي، وتدويل مواجهة ظاهرة الإجرام، مثلما هو الشأن بالنسبة لمبدأ العالمية. لذا وعلى عكس البعض، الذي يرى أن مبدأ الإقليمية القاعدة ويفرده بنقطة، ويشمل باقي المبادئ في نقطة أخرى باعتبارها استثناءات له، فإننا سنحاول أن نبين كل مبدأ من هذه المبادئ في نقطة مستقلة، باعتبارها تتكامل فيما بينها بما يضمن مكافحة الجريمة ومتابعة مرتكبيها وضبطهم ومحاكمتهم على نحو فعال. غير أننا سنتناول مبدأ الإقليمية في فرع مستقل، لنتناول في فرع آخر المبادئ الأخرى المكملة له، والتي يسميها البعض مبادئ احتياطية، وسبق لنا نحن، أن قلنا انها مبادئ تتعاون وتتكامل فيما بينها.
الفرع الأول
المبـــدأ الأصلي( مبدأ إقليمية النص الجنائي)
يعني مبدأ إقليمية تطبيق النص الجنائي، أن قانون العقوبات يسري على كل الجرائم أيا كان نوعها التي ترتكب على إقليم الجمهورية، وأيا كانت جنسية مرتكبها أو المرتكبة عليه[12]، وطنيا أو أجنبيا، ولهذا المبدأ بعض المبررات التاريخية التي جعلت منه من أقدم المبادئ – وإن كان البعض يرى أن الأقدم هو مبدأ الشخصية وذلك صحيح في نظرنا- كما ينطوي على العديد من المبررات السيادية المتعلقة بسيادة الدولة على إقليمها، بالإضافة لما له من فوائد عملية في إثبات الجرائم ومتابعة مرتكبيها ومحاكمتهم محاكمة فعالة تحقق أفكار الردع العام والخاص، كل ذلك انعكس على طريق تطبيق هذا المبدأ، حيث تمت معاملة بعض الأوضاع أو بالأحرى بعض المركبات معاملة الإقليم، بالرغم من اختلافها التام عنه، مثلما هو الشأن بالنسبة للطائرات والسفن، كما أنه وبالرغم من أولية وأصالة وسيادة مبدأ الإقليمية، إلا أنه ترد عليه بعض الاستثناءات التي تمليها القوانين والأعراف الدولية، سواء كانت سياسية أو دبلوماسية أو قنصلية، وبعض الأحكام الدستورية الأخرى، مما جعل من بعض الجرائم المرتكبة على الإقليم الوطني غير خاضعة للقانون الوطني، وهو ما اصطلح في معالجته باستثناءات مبدأ الإقليمية، وهي المسائل التي نوضحها في النقاط التالية.
أولا: معنى ومبررات مبدأ الإقليمية
يقصد بمبدأ إقليمية النص الجنائي، تطبيق التشريع الوطني الجنائي على كافة الجرائم المرتكبة على إقليم الدولة الجزائرية، بصرف النظر عن جنسية مرتكبها أو المرتكبة عليه، وبغض النظر عن المصلحة
أو الحق المعتدى عليه، سواء كانت مصلحة أو حق وطني أو أجنبي، لذا يرى البعض أنه للمبدأ شقين
أو وجهين، أحدها سلبي ويتمثل في انحسار تطبيق القانون الوطني خارج الإقليم، والآخر إيجابي يتمثل في تطبيق القانون الجنائي الوطني على إقليم الدولة دون مزاحمة من أي تشريع أجنبي آخر. وقد تضمنت المادة 3 من تقنين العقوبات الجزائري النص على مبدأ إقليمية النص الجنائي، بنصها على:" يطبق قانون العقوبات على كافة الجرائم التي ترتكب في أراضي الجمهورية.كما يطبق على الجرائم التي ترتكب في الخارج إذا كانت تدخل في اختصاص المحاكم الجزائية الجزائرية طبقا لأحكام قانون الإجراءات الجنائية"[13].
أما المبررات التي جعلت من غالبية التشريعات الجنائية تأخذ بمبدأ إقليمية النص الجنائي، فإننا نذكر أهمها في النقاط التالية[14]:
1- يعد مبدأ إقليمية تطبيق النص الجنائي، مظهر من مظاهر ممارسة الدولة لسيادتها على إقليمها، وبالتالي تطبيق قانونها على كل ما يقع عليه من أفعال رأت تجريمها، أيا كان مرتكبها أو المرتكبة عليه، وأيا كانت المصلحة المتعدى عليها وطنية أو أجنبية.
2- مبدأ إقليمية النص الجنائي يقود إلى تطبيق قانون مكان ارتكاب الجريمة، ويقضي باختصاص المحاكم الجنائية بنظر الدعوى، وهو أنسب مكان لمحاكمة المتهم، حيث فيه تتوفر أدلة الإثبات، وبه غالبا ما يوجد المتهم.
3- محاكمة المتهم في المكان الذي ارتكب فيه جريمته، وتوقيع الجزاء عليه في هذا المكان، يرسخ فكرة الردع العام الذي يسعى لتحقيقه الجزاء الجنائي.
4- كما أنه من مصلحة المتهم تطبيق قانون البلد الذي ارتكب فيه جريمته، لافتراض علمه بهذا القانون، مما يحقق أغراض مبدأ الشرعية الجنائية ويحقق العدالة من خلال عدم مفاجئة المتهم بقوانين يجهلها.
لذا فالقانون الجنائي الجزائري يطبق على كافة إقليم الجمهورية الجزائرية، وفقا لما هو متعارف عليه في أحكام القانون الدولي العام[15]، ووفقا لنص المادة 12 من دستور 1996 المعدل والمتمم التي بينت معنى الإقليم، وإن كان القانون الجنائي يعطي له مدلولا آخرا، حيث نصت هذه المادة على أنه:" تمارس سيادة الدولة – ونلاحظ أن المادة عبرت عن الموضوع بالسيادة ولا تتعلق فقط بالقانون الجنائي- على مجالها البري ومجالها الجوي، وعلى مياهها، كما تمارس الدولة حقها السيد الذي يقره القانون الدولي على كل منطقة من مختلف مناطق المجال البحري التي ترجع إليها.". وزيادة على ما ذكر بالهامش أدناه حول الإقليم، فيمكن أن نضيف أن قوانين العقوبات لا تهتم ببيان نطاق إقليم الدولة، بل تفرض سلفا أن هذه الفكرة معروفة ومحددة بواسطة القانون الدولي، والإقليم في العادة يشمل الإقليم البري الذي تحدده الاتفاقيات الدولية، ويشمل المياه التي تحت جوف الأرض والأنهار والقنوات التي تمر به سواء كانت أنهارا وطنية أو دولية، وأما الإقليم البحري فبينته اتفاقية سنة 1958 المتعلقة بالبحر الإقليمي التي بينت في مادتها الأولى على أن سيادة الدولة تمتد خارج إقليمها البري ومياهها الداخلية إلى حزام من البحر ملاصق لشواطئها يسمى البحر الإقليمي، وبخصوص الإقليم الجوي وقعت اتفاقية باريس سنة 1919 مبينة أنه لكل دولة سيادة كاملة وانفرادية على طبقات الهواء التي تعلو إقليمها البري وبحرها الإقليمي وحتى مستعمراتها – كون الاتفاقية وقعت وقت الحركات الاستعمارية- وأكدت على ذلك من جديد اتفاقية شيكاغو سنة 1944 التي اعتبرت مادتها الأولى الهواء عنصرا تابعا لإقليم الدولة، غير أنه مبدأ اهتز أمام التطور العلمي مما أدى إلى التفكير في تحديد الإقليم الهوائي بارتفاع محدد، لذا أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 19-12-1966 في دورتها 21 القرار رقم 3222 بالموافقة على مشروع اتفاقية تنظم استعمال واستغلال الدول للطبقات العليا في الجو بما فيها القمر والكواكب الأخرى، ونصت هذه الاتفاقية في مادتها 11 على أن طبقات الجو العليا تخرج عن سيادة كل دولة، غير أنها اتفاقية لم تحدد المسافة التي تكون بين الفضاء الجوي وطبقات الجو العليا.
ثانيا: تحديد مكان وقوع الجريمة
من المتفق عليه قانونا أن مكان وقوع الجريمة يتحدد بالمكان الذي يقع فيه ركنها المادي سواء اجتمعت أركانه الثلاثة وهنا لا إشكال، لكن من المتصور أن تتوزع هذه العناصر على أكثر من إقليم واحد فهنا يثار الإشكال حول تحديد أي منها يكون مكانا لوقوع الجريمة، هنا السائد أن قوانين كل الدول التي توزعت عليها الجريمة يكون مختصا بنظر الجريمة، وهو الوضع أيضا في الجرائم المستمرة حيث يكون قانون كل إقليم قامت فيه حالة الاستمرار مختصا بنظر الجريمة، غير أن جرائم الامتناع تعد مرتكبة في الإقليم الذي حصل فيه الامتناع وكان من الواجب أن يقوم فيه الجاني بما هو مطلوب منه قانونا، كما أنه يعد إقليم ارتكبت فيه الجريمة الإقليم الذي حدثت فيه النتيجة الإجرامية- أو لآثار المباشرة للفعل - حيث أنه إذا أرسل شخص صندوق متفجرات لشخص آخر فتحه فانفجرت عليه وسافر لبلد آخر للعلاج وتوفي هناك يكون مختصا بلد العلاج أيضا بالإضافة للبلدين الآخرين. الأول هو بلد السلوك والثالث بلد النتيجة والثاني بلد علاقة السببية[16]. لكن لا عبرة بالنتائج الحاصلة بعد حدوث النتيجة وإن كانت تشكل جريمة مستقلة فيتحدد الاختصاص بمكان وقوع هذه الجريمة، مثل إخفاء متحصلات السرقة أو إخفاء الجثة التي يعتد بها قانونا ولا الأعمال التحضيرية غير المعاقب عليها.
غير أن الإشكال يكمن في حالة الشروع في الجريمة، وهنا يرى بعض الفقه أن الاختصاص ينعقد للدولة التي شرع في التنفيذ فيها وكذا للدولة التي كان من المفترض حصول النتيجة فيها، في حين يرى جانب آخر من الفقه، منتقدا الرأي الأول أنه لا يجب أن ينعقد الاختصاص لقانون الدولة التي كان يفترض حدوث النتيجة بها، وهو رأي نؤيده كثيرا خاصة وإن كنا نرى أن المجني عليه قد لا يكون عالما أصلا بأنه كان عرضة لجريمة شرع في ارتكابها عليه، كما أنه يثور الإشكال بخصوص المساهمة الجنائية، والتي على نحو ما سنرى تنقسم إلى مساهمة جنائية أصلية ومساهمة جنائية تبعية، ففي الأولى يكون كل الجناة فاعلين أصليين، وهو ما لا يثير أي إشكال حسب البعض إذا ما وقعت الجريمة على إقليم الدولة، لكننا نرى أنه في حالة التحريض قد نكون بصدد مساهمة جنائية أصلية حيث يعد الفاعل الأصلي كل من المحرض والمنفذ، وبالتالي إن كان التحريض في بلد والتنفيذ في بلد آخر فإننا نرى اختصاص قانون كل من البلدين ونفس الشيء بالنسبة للفاعل المعنوي. غير أنه في حالة المساهمة الجنائية التبعية، أين نكون بصدد فعل أصلي وآخر فعل الاشتراك، ونرى أن غالبية القوانين تتبع عمل الشريك بعمل الفاعل الأصلي حيث يرى أنه إذا وقع الفعل الأصلي أو جزء منه في إقليم دولة ما فإن قانونها يمتد للتطبيق على فعل الاشتراك، وأن قانون الدولة التي وقع فيها فقط فعل الاشتراك لا ينطبق تماما، ونؤيد هذا الرأي كون أفعال الاشتراك لا عقاب عليها في حد ذاتها كونها أفعال مباحة تنجذب إلى دائرة التجريم بالنظر لفعل الفاعل الأصلي.
ثالثا: الامتداد الحكمي لفكرة الإقليم
سبق القول، أن المشرع الجزائري، عامل السفن والطائرات معاملة خاصة، في الحالات التي ترتكب عليها جرائم، وعالجهما ضمن إطار مبدأ الإقليمية – وإن كان ذلك في قانون الإجراءات الجزائية- وذلك ضمن المادتين 590 و591، مبينا اختصاص القانون الجزائري بخصوص الجرائم التي ترتكب على متن السفن والطائرات، وحالات وشروط ذلك، مفرقا بين تلك الجزائرية والأجنبية – سواء بخصوص الطائرات أو السفن- أخذا ببعض الحدود التي يمكن تبريرها أحيانا، وأخرى يعجز الشخص عن تفسيرها بعد مقارنة المادتين معا بما تتضمنه من أحوال.
1- بالنسبة للسفــن:
نصت المادة 590 من قانون الإجراءات الجزائية الجزائري على أنه: " تختص الجهات القضائية الجزائرية بالنظر في الجنايات والجنح التي ترتكب في عرض البحر على بواخر تحمل الراية الجزائرية آيا كانت جنسية مرتكبيها. وكذلك الشأن بالنسبة للجنايات والجنح التي ترتكب في ميناء بحرية جزائرية على ظهر باخرة تجارية أجنبية."، من هذه المادة، يتضح بأن المشرع الجزائري، فرق ما بين السفن الوطنية والسفن الأجنبية، وبخصوص الأخيرة فرق بين السفن الأجنبية الحربية والسفن الأجنبية المدنية، واستعمل عبارة السفن التجارية التي نرى ووجوب استبدالها بالمدنية.
أ- بالنسبة للسفن الجزائرية:
متى كانت السفينة جزائرية، فإن قانون العقوبات الجزائري يكون مختصا في حال توفر الشروط التالية مجتمعة[17]، وأن تخلف شرط من هذه الشروط يقود لعدم تطبيقه، وهي:
1- أن تكون السفينة تحمل الراية الجزائرية.
2- أن تكون الجريمة جناية أو جنحة، وبالتالي تستبعد المخالفات.
3- أن يكون مكان ارتكاب هذه الجناية أو الجنحة والباخرة في أعالي البحار، كون هذه المنطقة غير خاضعة لأية سلطة، لأنه لو ارتكبت الجناية أو الجنحة في المياه الإقليمية أو موانئ الجزائر، فاختصاص للقانون الجزائري يكون بموجب المادة 3 من قانون العقوبات، لا بموجب المادة 590 من قانون الإجراءات الجزائية، وإن ارتكبت في مياه إقليمية أجنبية يكون الاختصاص لقانون هذه الدولة تطبيقا لمبدأ إقليميتها.
4- لا عبرة بجنسية الجاني أو المجني عليه، ولا بالمصلحة أو الحق الذي مست به الجناية أو الجنحة.
ب- بالنسبة للسفن الأجنبية:
استعمل المشرع الجزائري بخصوص السفن الأجنبية مصطلح " السفن التجارية" تمييزا لها عن السفن الحربية، هذه الأخيرة التي تعامل معاملة خاصة، وكان عليه أن يستعمل مصطلح " السفن المدنية" كون التجارية قد يفهم منه سفن البضائع دون سفن الأشخاص أو السفن السياحية... وحتى يكون القانون الجزائري مختصا بنظر الجرائم المرتكبة على السفن الأجنبية ما عدا الحربية منها، يجب أن تتوفر الشروط المنصوص عليها في الفقرة الثانية من الماد 590 من قانون الإجراءات الجزائية، وهي:
1 – حسب المادة 590 أن تكون السفينة الأجنبية تجارية، أي ليست حربية – وهو المغزى من الشرط- والسفينة الأجنبية هي التي تحمل جنسية أو راية دولة أخرى.
2- أن يكون الفعل يشكل جناية أو جنحة، وبالتالي تستبعد المخالفات.
3- أنه لا عبرة بجنسية الجاني أو المجني عليه، ولا بالمصلحة التي تم الاعتداء عليها، كون المادة لم تشترط ذلك.
4- أن يكون مكان تواجد السفينة الأجنبية ميناء بحرية جزائرية، وهو ما يفهم منه أن تكون راسية، ونحن نتساءل عن عدم النص على المياه الإقليمية الوطنية باعتبارها من اختصاص قانوننا، على الأقل مثلما نزع المشرع اختصاصنا لما تكون بواخرنا في المياه الإقليمية لدول أخرى، فينزع اختصاص قانون هذه الدول لما تكون بواخرها في مياهنا الإقليمية....غير أن الأمر يمكن مواجهته بالمادة 3 التي تشكل القاعدة العامة متى كانت الباخرة الأجنبية بالمياه الإقليمية الوطنية.
2- بالنسبة للطائرات:
مثلما فعل المشرع الجزائري بالنسبة للسفن، فإنه فعل بالنسبة للطائرات، حيث يتعلق الأمر بالطائرات المدنية دون الحربية، وفرق فيها بين الطائرات الجزائرية والطائرات الأجنبية، وكل منها يجب أن تستجمع جملة من الشروط حتى يكون القانون الجزائري مختصا، وذلك ما بينته المادة 591 من قانون الإجراءات الجزائية الجزائري، التي نصت على أنه: " تختص الجهات القضائية الجزائرية بنظر الجنايات والجنح التي ترتكب على متن طائرات جزائرية أيا كانت جنسية مرتكب الجريمة. كما أنها تختص أيضا بنظر الجنايات
أو الجنح التي ترتكب على متن طائرات أجنبية إذا كان الجاني آو المجني عليه جزائري الجنسية أو إذا هبطت الطائرة بالجزائر بعد وقوع الجناية أو الجنحة. وتختص بنظرها المحاكم التي وقع بدائرتها هبوط الطائرة في حالة القبض على الجاني وقت هبوطها أو مكان القبض على الجاني في حالة ما إذا كان مرتكب الجريمة قد قبض عليه في الجزائر فيما بعد."
أ- بالنسبة للطائرات الجزائرية:
حتى يكون القانون الجزائري مختصا بالتطبيق على الطائرات الجزائرية يجب أن تتوفر الشروط التالية:
1- أن تكون الطائرة جزائرية، أي حاملة للراية الجزائرية،
2- أن يكون الفعل المرتكب يشكل جناية أو جنحة، وبالتالي لا عبرة بالمخالفات.
3- لا عبرة بجنسية الجاني، وبالضرورة إذن لا عبرة بجنسية المجني عليه، ولا بمكان ارتكاب الجريمة، فالقانون الجزائري يتبع طائراتنا أينما حلت حتى في قلب عواصم الدول الأخرى، على عكس ما فعله المشرع بخصوص البواخر.
ب- بالنسبة للطائرات الأجنبية:
يكون قانون العقوبات مختص بالتطبيق على الجرائم المرتكبة على الطائرات المدنية الأجنبية، إذا توفرت الشروط التالية مجتمعة:
1- أن تكون الطائرة أجنبية أي حاملة لجنسية دولة أخرى.
2- أن يكون الفعل بالضرورة يشكل جناية أو جنحة وتستبعد المخالفات.
3- أن يكون الجاني أو المجني عليه جزائريا، أو هبوط الطائرة بالجزائر بعد ارتكاب الجريمة حتى وإن لم يكن الجاني أو المجني عليه جزائريا[18].
وتكون المحكمة التي يتواجد بنطاق اختصاصها مكان هبوط الطائرة بالمحاكمة، أو مكان القبض عليه إن تم القبض عليه لاحقا.
ثالثا: الاستثناءات الواردة على مبدأ الإقليمية:
بالرغم من أن مبدأ إقليمية النص الجنائي يقتضي أن تخضع كل الجرائم المرتكبة على إقليم الجمهورية الجزائرية للقانون الجنائي الجزائري، أيا كانت جنسية الجاني أو المجني عليه، وبغض النظر عن المصلحة أو الحق المعتدى عليه، غير أنه إعمالا لبعض الأحكام الدستورية والأعراف الدبلوماسية وبعض قواعد القانون الدولي العام، وما تتضمنه من أعراف واتفاقيات دولية، فإنه ترد بعض الاستثناءات على مبدأ إقليمية النص الجنائي، التي تستبعد الجرائم التي يرتكبها بعض الأشخاص من الخضوع لقانون العقوبات الجزائري[19]، إذ ارتكبها مثل هؤلاء الأشخاص أثناء أو بمناسبة تأدية مهامهم، ومن بين هؤلاء الأشخاص نذكر:
1- رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة الجزائريين:
تستثني غالبية القوانين الجنائية، بما فيها قانون العقوبات الجزائري جرائم رئيس الجمهورية التي يرتكبها أثناء ممارسته لمهامه الرئاسية أو بمناسبتها، وذلك طبقا للأعراف الدستورية، ولا يمكن محاكمته عنها إلا بعد زوال صفة الرئاسة عنه، غير أن ما تجدر الإشارة إليه أن الدستور الجزائري لسنة 1996 المعدل والمتمم، تضمن حكما لم تكن تعرفه الدساتير السابقة، وهو الحكم الذي جاءت به المادة 158 منه: التي نصت على أنه:" تؤسس محكمة عليا للدولة تختص بمحاكمة رئيس الجمهورية عن الأفعال التي يمكن وصفها بالخيانة العظمى، ورئيس الحكومة عن الجنايات والجنح التي يرتكبانها بمناسبة تأدية مهامهما..."[20].
وقضت هذه المادة أن كيفية تشكيل المحكمة وعملها وسيرها وتنظيمها، سيبين عن طريق الأحكام التنظيمية، غير أنه ولحد الساعة لم يصدر أي نص يبين ذلك. مما يجعلها من النص مجرد نص نظري.
2- أعضاء المجالس النيابية العليا:
( البرلمان ومجلس الأمة في الجزائر[21])
ونقصد بالمجالس النيابة العليا، تمييزا لها عن المجالس الشعبية الإقليمية أو المحلية، مثل المجالس الشعبية الولائية والمجالس الشعبية البلدية، ونجد كل الدول تقرر الحصانة لأعضاء السلطة التشريعية[22]، ولا يعني ذلك نزع الصفة التجريمية عن الفعل المعاقب عليه الذي يرتكبونه، وإنما متابعتهم لا تتم إلا بإتباع إجراءات دستورية خاصة، وهو ما بينته المواد 109، 110، 111 من دستور 1996 المعدل والمتمم، حيث تضمنت المادة 109 مبدأ الحصانة البرلمانية، بنصها :" الحصانة البرلمانية معترف بها للنواب ولأعضاء مجلس الأمة مدة نيابتهم ومهمتهم البرلمانية، لا يمكن أن يتابعوا أو يوقفوا، وعلى العموم لا يمكن أن ترفع عليهم أية دعوى مدنية أو جزائية أو يسلط عليهم أي ضغط، بسبب ما عبروا عنه من آراء وما تلفظوا به من كلام أو بسبب تصويتهم خلال ممارسة مهامهم البرلمانية."[23]. وهنا فعلا استثناء بخصوص نوع محدد من الجرائم. كونها مادة أرست فكرة الحصانة البرلمانية المعترف بها لنواب السلطة التشريعية، خاصة المتعلقة بمهامهم الرئيسية وهي مناقشة القوانين والتصويت عليها، غير أن المادة 110 من دستور 1996 المعدل والمتمم ركزت على فكرة المتابعة الجزائية عن الجنايات والجنح، وفكرة التنازل عن الحصانة البرلمانية،
أو رفعها، بينما بنت المادة 111 حالة تلبس النائب بارتكاب جناية أو جنحة.
فقضت المادة 110 بأنه :" لا يجوز الشروع في متابعة أي نائب – المقصود نواب الغرفة السفلى-
أو عضو مجلس الأمة بسبب جناية أو جنحة إلا بتنازل صريح منه أو بإذن حسب الحالة من المجلس الشعبي الوطني أو مجلس الأمة الذي يقرر رفع الحصانة عنه بأغلبية أعضائه."، وبالتالي يمكن للنائب سواء كان نائبا في الغرفة السفلى، أو عضو من أعضاء مجلس الأمة في حال اتهامه بارتكاب جناية أو جنحة، أن يتنازل صراحة عن حصانته البرلمانية، والمقصود بعبارة " صراحة" أنه تنازل مكتوب تضمنه النيابة العامة ملف القضية، أو برفع الحصانة عليه من قبل أغلبية باقي الأعضاء، وفي هذه الحالة تجوز متابعته كأي شخص من الأشخاص، غير أن ما تجدر الإشارة إليه، أن المادة 110 لم تبين الموقف من الحالة التي يرتكب فيها عضو البرلمان أو عضو مجلس الأمة لمخالفة، فهل عدم ذكر هذا النوع من الجرائم يعني عدم المسائلة عنها أصلا، أم تجوز فيها المتابعة دون الإجراءات السابقة. في حين بينت المادة 111 حالة تلبس عضو البرلمان
أو عضو مجلس الأمة بارتكاب جناية أو جنحة[24]، حيث قضت أنه :" في حالة تلبس أحد النواب أو أحد أعضاء مجلس الأمة بجنحة أو جناية يمكن توقيفه ويخطر بذلك مكتب المجلس الشعبي الوطني أو مكتب مجلس الأمة حسب الحالة فورا. يمكن المكتب المخطر أن يطلب إيقاف المتابعة وإطلاق سراح النائب أو عضو المجلس الأمة على أن يعمل فيما بعد بأحكام المادة 110 أعلاه.".
3- رؤساء الدول الأجنبية:
تستثنى وفقا للعرف الدولي الجرائم التي يرتكبها رؤساء الدول الأجنبية أو ملوكها أو أمراءها في أقاليم الدول الأجنبية. وذلك على اعتبار رؤساء الدول الأجنبية يمثلون دولا ذات سيادة وقد جرى العرف الدولي على عدم إخضاعهم لسيادة دولة أجنبية أخرى يتواجدون على إقليمها، ويمتد الاستثناء إلى الجرائم التي يرتكبونها بمناسبة ممارسة مهامهم أو بممارسة حياتهم الشخصية، كما تمتد الحصانة لتشمل حسب البعض كل أفراد أسرتهم وحاشيتهم، وسبق لنا القول بأن قانون العقوبات تعبير عن سيادة الدولة وبالتالي نرى أنه في حال إخضاع رئيس دولة لقانون عقوبات دولة أخرى يكون قد تم إخضاعه لسيادة هذه الدولة. ورئيس الدولة يقصد به حاكم الدولة وفقا للنظام السياسي الذي يسودها، فقد يكون ملكا أو أميرا أو سلطانا أو رئيس جمهورية أو عضو مع غيره في مجلس رئاسي يدير الدولة أو قائد ثورة أو حركة تحرر معترف بها
أو زعيما روحيا لدولة ذات نظام حكم ديني، وهي الحصانة التي تمتد حتى أعضاء الوفد المرافق له وأفراد عائلته[25]. ولا عبرة في كون زيارته رسمية أو خاصة أو حتى ولو كانت تحت اسم مستعار إذ يكفي في الحالة الأخيرة أن يكشف عن شخصيته في حال محاولة توقيفه[26].
4- رجال السلك السياسي الأجنبي:
رؤساء الحكومات والوزراء وكتاب الدولة ورجال المنظمات الدولية يتمتعون بحصانة قضائية مستمدة من المعاهدات الدولية والقوانين الأساسية للمنظمات التي يتبعونها تعفيهم من كل مسائلة جنائية عن الجرائم التي يرتكبونها في الدول التي يقيمون فيها في مهام رسمية.
5- رجال السلك الدبلوماسي والقنصلي:
وهم لا يسألون أيضا عن الجرائم التي يرتكبونها في الدول التي يمثلون فيها دولهم. طبقا لاتفاقية فيينا المؤرخة في 24-04-1963 المتعلقة بالعلاقات القنصلية، والتي تمنح حصانة للموظفين القنصليين وموظفي الهيئات الدولية بالنسبة للجرائم التي تتعلق بقيامهم بوظائفهم أو بسببها، وأما الجرائم التي ترتكب خارج إطار الوظيفة تعقد الاختصاص لقانون البلد الذي يتواجدون به. وفي تبرير الحصانة قيل أن الممثل السياسي ووظيفته شيء واحد، حيث يتلاشى الشخص في وظيفته، فإذا عاقبناه فنحن نعاقب من خلاله الدولة التي يمثلها، وبالتالي نمس بسيادتها، ومن الحصانة السابقة قررت أيضا حصانة مباني السفارات والقنصليات، لكن ذلك لا يعني أنها ملاذ للمجرمين حيث ارتكاب جريمة داخل السفارة أو خارجها والفرار إليها، لا يمنع من تسليم الشخص لسلطات البلد، حتى ولو كان من رعايا الدولة التي تمثلها السفارة أو القنصلية ولا يعني ذلك تسليم رعايا الدولة، حيث لا تعد هذه المباني خارج الإقليم. وبخصوص الحصانة يجب القول أنه يحق للسلطات المحلية عندما يرتكب الممثل السياسي جريمة من الجرائم القيام بطرده باعتباره شخصا لم يعد مرغوبا فيه في البلد، كما يحق لبلده الأصلي معاقبته على جرائمه التي ارتكبها في بلد عمله، وبذلك لا يكون في معزل عن العقاب بأي حال من الأحوال، كما أن الحصانة شخصية وتتعلق بشق العقاب لا شق التجريم، بمعنى عدم العقاب لتوفر الحصانة لا يعني أن الفعل مباح، أو الصفة تعد سبب من أسباب الإباحة، وإنما هي مانع من موانع العقاب في مثل هذه الحالات، لذا فالأشخاص المساهمين مع صاحب الحصانة يمكن متابعتهم وعقباهم متى كنوا لا يتمتعون بالحصانة، سواء كانوا من المواطنين أو من الأجانب تطبيقا لمبدأ الإقليمية، كما أن حق الدفاع المشروع مقرر للمعتدى عليهم حتى ضد أصحاب الحصانة. كما أنه هناك اتفاقية فيينا لسنة 1961 وتشمل أعضاء السلك الدبلوماسي والبعثات السياسية الخاصة وممثلو المنظمات الدولية أو الإقليمية بصرف النظر عن درجاتهم وألقابهم ويستوي أن تتعلق الجرائم بممارسة مهامهم أو بمناسبة متابعة شؤون حياتهم الخاصة ، أما فيما يخص الخدم فتقتصر الحصانة على ما يصدر منهم من جرائم بمناسبة ممارستهم لمهامهم شريطة ألا يكونوا من رعايا الدولة التي توجد بها مقر البعثة أو المنظمة أو السفارة[27].
6- رجال القوات الأجنبية المرابطة في التراب الوطني:
ويستمدون حصانتهم بخصوص عدم متابعتهم عن الجرائم التي يرتكبونها في الدول التي يرابطون فيها. وهي مقررة للقوات الموجودة بأرض الدولة بترخيص منها، مثل قوات الطوارئ الدولية التابعة لمنظمة الأمم المتحدة، أو قوات وطنية لدولة أخرى، وهي الحصانة التي يتمتع بها أفراد هذه القوات بمناسبة ما يقع منهم من جرائم بمناسبة تأديتهم لمهامهم، أو داخل المناطق المخصصة لهم.
وعلى العموم، الحصانة أو الإعفاء من المتابعة الجزائية وفقا للقانون الجزائري لا يغني عن إخطار الجهات الرسمية التي يتبعها الشخص مرتكب الجريمة والمتمتع بالحصانة الدبلوماسية، التي في العادة ما تتابعهم تأديبيا وقد يتجاوز الأمر لحد تعويض ضحاياهم مدنيا، وتبقى كل معاهدة أو قانون أساسي للمنظمة، وكذا الأعراف الدبلوماسية أو مبدأ المعاملة بالمثل تحدد طرق وكيفيات ذلك.
الفرع الثاني
المبادئ المكملة لمبدأ الإقليمية
على عكس العصور السابقة، أضحت الحدود تشكل محاسن للعصابات الإجرامية وليست عوائق، خاصة مع تقدم المواصلات وتحول العالم على قرية صغيرة، وتدويل الجريمة، فأصبحت الحدود عائقا بالنسبة للسلطات في بحثها وتعقبها للمجرمين، وازدياد حركات الهجرة التي تصعب من عمليات التكيف مع قوانين الدول التي يستقر بها هؤلاء المهاجرين، كما أنهم انفصلوا عن جذورهم ولا يستطيعون التكيف مع الحياة الجديدة بسهولة، ولا يستطيعون التكيف مع مجتمع جديد وحياة جديدة وعادات وتقاليد جديدة زيادة على حواجز اللغة والثقافة وحتى الدين، فانفصالهم عن حياة اعتادوا عليها وعايشوها يحدث لهم نوع من الصراع بين القيم القديمة والقيم الجديدة المستحدثة فتضعف مقاومتهم شيئا فشيئا، كما أنه للحربين العالميتين والحروب الإقليمية الأخرى دور كبير في بروز ظاهرة العنف والإرهاب الذي لم يعد مقتصرا فقط على الأفراد والمنظمات، بل شملت حتى الدول، وهي كلها مسائل لفتت الانتباه إلى ضرورة توسع دائرة القانون الجنائي لمحاربة هذا النوع من الإجرام، وهو ما جعل مبدأ الإقليمية وحده غير كاف لمواجهة الظاهرة الإجرامية، وكان لزاما عليه الاستعانة ببعض المبادئ الأخرى المكملة، والتي نتناولها في النقاط التالية.
أولا: مبدأ الشخصية الجنائية
مبدأ الشخصية الجنائية أسبق في الظهور من مبدأ الإقليمية، حيث كان يعد الأصل فيما مضى، كون النص الجنائي كان يتبع رعايا الدولة أسينما حلوا، سيما في ظل فكرة الإقليم لم تكن قد تجسدت بعد بالشكل المعروف اليوم، لكن مع ظهور الدولة وارتكاز سيادتها على فكرة الحدود الإقليمية، انحصر نطاق تطبيق مبدأ الشخصية الجنائية فاسحا المجال أمام مبدأ الإقليمية ليصبح المبدأ الرئيسي الحاكم لسريان النص الجنائي. ويعرف مبدأ الشخصية الجنائية بأنه تطبيق النص الجنائي على كل جاني يحمل جنسية الدولة أينما حل وأينما وجد، وأيا كان الإقليم الذي ارتكب عليه جنايته، وبعبارة أكثر اختصارا، هو وجوب تطبيق القانون الجنائي لكل دولة على الحاملين لجنسيتها أينما حلوا[28]. ونص المشرع الجزائري على مبدأ الشخصية الجنائية في المادتين 582 و583 من قانون الإجراءات الجزائية، مفرقا بين الفعل الذي يرتكبه الجزائري بالخارج وما إن كان جناية أو جنحة، وهو الأمر الذي يقودنا لتناول المبدأ من خلال نقطتين تبعا للتمييز السابق.
.
1- الجنايات ومبدأ الشخصية الجنائية
وهو شق من مبدأ الشخصية الجنائي الذي يركز على الرعية التي ترتكب فعلا يوصف بالجناية في الخارج، وقد تضمنه المادة 582 من قانون الإجراءات الجزائري[29]، التي أوردت جملة من الشروط إذا ما توفرت مجتمعة طبق على هذا الجاني القانون الجزائري بالرغم من أنه ارتكب جنايته بالخارج، وهذه الشروط هي:
- أن يكون الفعل الذي ارتكبه الشخص في الخارج يوصف بأنه جناية وفقا للقانون الجزائري، ويتضح من النص أنه لا عبرة للتكييف المعطى له من قبل تشريع القطر الذي وقعت عليه، سواء كان جناية أو جنحة،
أو فعل مباح أصلا وهو أمر ننتقده بشدة[30].
- أن يكون الجاني يحمل الجنسية الجزائرية، أو أن يكون قد اكتسبها بعد ارتكابه الجريمة[31].
- أن يكون ارتكاب الجناية قد تم خارج الإقليم الجزائري، لأنه لو كانت عليه لطبق مبدأ الإقليمية وفقا للمادة 3 من قانون العقوبات.
- أن يعود هذا الجاني الجزائري إلى أرض الوطن سواء جبرا أو طواعية، لأنه وفقا لهذه المادة لا يمكن أن يحاكم غيابيا.
- ألا يكون الجاني قد حوكم في الخارج عن هذه الجناية، وألا يكون قد قضى عقوبتها في حال كان قد حوكم عنها، أو سقطت عنه هذه العقوبة بالتقادم أو حصل على عفو عنها في دولة ارتكابها.
2- الجنح ومبدأ الشخصية الجنائية
وهو مبدأ يخص الجزائري الذي يرتكب خارج الإقليم الجزائري فعلا يوصف بأنه جنحة سواء في نظر القانون الجزائري أو في نظر القطر الذي ارتكبت فيه، فهنا يكون خاضعا للقانون الجزائري بشروط يجب أن تتوفر جملة واحدة، وهي شروط بينتها المادة 583 من قانون الإجراءات الجزائية الجزائري[32]، وهــي:
- أن يكون الفعل الذي اقترفه الجزائري يوصف بأنه جنحة، سواء في القانون الجزائري أو في القانون الأجنبي المطبق على الإقليم الذي ارتكبت فيه[33].
- أن ترتكب هذه الجنحة في الخارج.
- أن يكون مرتكبها جزائريا وقت اقترافها أو اكتـــسب الجنسية الجزائرية بعد ذلك وفقا للمادة 584 من ق إ ج ج .
- أن يعود الجاني للجزائر أو يسلم غليها، حيث لا يجوز محاكمته غيابيا.
- ألا يكون قد حكم عليه في الخارج أو قضى عقوبته أو تقادمت أو حصل على عفو عنها.
- وزيادة على ذلك، إن كانت الجنحة ضد الأفراد، يجب تقديم شكوى من الشخص المضرور أو بلاغ من سلطات القطر الذي ارتكبت فيه الجنحة حتى يمكن للنيابة العامة تحريك الدعوى العمومية.
وفي حالتي مبدأ الشخصية تجري المتابعة بناء على طلب النيابة العامة لمحل إقامة الجاني بالجرزائر أو محل القبض عليه، وذلك ما تضمنته المادة 587 من قانون الإجراءات الجزائية التي نصت على أنه : " تجري المتابعة بناء على طلب النيابة العامة لمحل إقامة المتهم أو مكان آخر محل إقامة معروف له أو مكان القبض عليه."
ثالثا: مبدأ العينية ( مبدأ الذاتية)
وهو المبدأ المكمل الثاني لمبدأ الإقليمية بعد مبدأ الشخصية، وسمي بمبدأ العينية أو الذاتية لأنه يمس بمصالح الدولة ذاتها أو بعينها لا بمصالح أفرادها، سواء كانوا جناة أو مجني عليهم، وأنه يطبق خصيصا على الأجانب دون حاملي جنسية الدولة، لأنه هؤلاء يخضعون لمبدأ الشخصية، وعموما، نقصد بهذا المبدأ تطبيق القانون الوطني الجزائري على كافة الجرائم المرتكبة بالخارج – لا بأرض الوطن، لأنه في هذه الحالة الخيرة نطبق مبدأ الإقليمية- والتي تمس بالمصالح الأساسية للدولة المرتبطة بسيادتها واقتصادها والثقة المولاة في نقودها، وأن الضحية في هذا النوع من الجرائم هي الدولة ذاتها، وبهذا المبدأ تكون تمارس نوعا من الدفاع الشرعي عن مصالحها، كما يعد – المبدأ- تعبيرا عن بسط الدولة لسلطانها التشريعي على كل الجرائم التي تمس بهيبتها ومصالحها، ولكن في الحالات التي لا تلقى فيها هذه الجرائم اهتمام من سلطات القطر الذي ارتكبت فيه. وهو الأمر الذي دفع بالمشرع الجزائري على غرار غالبية التشريعات الجنائية المعاصرة للنص على هذا المبدأ في المادة 588 من قانون الإجراءات الجزائية[34]، وهو النص الذي لا يطبق إلا إذا توفرت الشروط التالية مجتمعة:
1- أن يكون الجاني أجنبيا، لأنه لو كان جزائريا لطبق مبدأ الشخصية سواء بموجب المادة 582 إذا كان الفعل يشكل جناية، أو المادة 583 إذا كان الفعل يشكل جنحة.
2- أن ترتكب الجريمة في الخارج، لأنه لو ارتكبت في الوطن فيطبق مبدأ الإقليمية.
3- على أن توصف الجريمة على أنه جناية أو جنحة.
4- أن تكون هذه الجريمة ماسة بالسلامة الوطنية[35]، أو أن تكون تزييفا للنقود أو الأوراق المصرفية المتداولة في الجزائر وقت ارتكاب الجريمة[36].
5- أن تحصل الجزائر على تسليمه لها أو أن يلقى القبض عليه في الجزائر. إذ لا يجب أن يحاكم غيابيا.
ثالثا: مبدأ العالمية Universalité de la répression
ويقصد بهذا المبدأ- بالرغم من عدم النص عليه صراحة في القانون الجزائري- سريان القانون الجنائي الوطني على كافة الجرائم ذات الطابع العالمي أو الدولي متى ضبط الجاني أو ألقي عليه القبض في الجزائر، حيث لا يمكن محاكمته غيابيا، أيا كانت جنسية هذا الشخص، على ألا يكون جزائريا، لأنه في هذه الحالة يطبق مبدأ الشخصية، وأيا كانت جنسية المجني عليه، وأيا كان مكان ارتكاب الجريمة، بشرط ألا يكون الجزائر لأنه في هذه الحالة يطبق القانون الجزائري على أساس مبدأ الإقليمية لا مبدأ العالمية، وبشرط ألا تطلب دولة أخرى تسليمه لها باعتباره من رعاياها أو أن الجريمة مست بها بمبدأ من المبادئ السابقة، حيث في هذه الحالة تصبح الأولى بمحاكمته. ويبرر هذا المبدأ رغبة الدول في التعاون من أجل مكافحة نوع معين من الجرائم التي تهم المجتمع الدولي[37]، والتي تشكل عدوانا على مصلحة مشتركة بين الدول، كجرائم القرصنة والاتجار في الرقيق أو في المخدرات... وقد تجسد من خلال اتفاقيات قد تلزم الدول المنضمة لها أن تدرج المبدأ في قانونها الداخلي مثلما هو الشأن بالنسبة لاتفاقية جنيف الرابعة لسنة 1949 المتعلقة بجرائم الحرب وغيرها من الانتهاكات الواردة بهذه الاتفاقية