الفصل الثاني
تطور قانون العقوبات
مــر قانون العقوبات في تطوره بالعديد من المراحل، وهي التي ميزت تطور المجتمعات البشرية، وعرف الكثير من التطورات والانقلابات، غير أننا سنركز دراستنا فقط على أهم المراحل التي تساعدنا على فهم مبادئه ومضامينه التي ترسخت اليوم كنظريات. وفي تمييز مراحل تطور قانون العقوبات يمكن القول بأنها ثلاث مراحل أساسية، هي مرحلة المجتمعات القديمة ما قبل ظهور وقيام الدولة، وبعدها مرحلة ظهور هذه الأخيرة وقيامها –الدولة، ثم مرحلة ظهور المدارس الفقهية وأثرها على تطور قانون العقوبات، غير أننا سنحاول أن نتناول هذا التطور ضمن مبحثين أساسيين، نخصص الأول لمحلة ما قبل ظهور المدارس الفقهية، والثاني لتطور قانون العقوبات مع ظهور المدارس الفقهية، كون الأخيرة هي التي ساهمت في تطوره ووصله للشكل الذي هو عليه حاليا.
المبحث الأول
قانون العقوبات في المجتمعات القديمة
يقصد بالمجتمعات القديمة، تلك المراحل الزمنية الطويلة التي مرت بها المجتمعات البشرية قبل أن تنتظم في شكل دول، وفي هذا الوقت أكد الباحثين أن البشرية عرفت أربعة نظم أساسية، هي نظام الأسرة، نظام العشيرة، نظام القبيلة، ثم فكرة المدينة التي كانت أساسا لقيام الدول. ورغم بساطة تكوين هذه الجماعات البشرية الصغيرة وطريقة عيشها التقليدية، إلا أنها عرفت الجريمة ورد الفعل المقابل ضدها، وهو ما أكدته الكتب السماوية منها الشريعة الإسلامية الغراء، حيث بينت أن أول فعل بشري مثير على وجه الأرض كانت جريمة قتل، حيث قال عز وجل في الآية 29 من سورة المائدة،:" فطوعت له نفسه قتل أخيه فأصبح من الخاسرين" في إشارة إلى قتل ابن آدم " قابيل" لأخيه هابيل. والاهتمام بالجريمة ورد الفعل المقابل، أي الجزاء، كانت النواة الأولى للاهتمام بقانون العقوبات، مثلما هو الأمر عليه اليوم، حيث أن أساس قواعد قانون العقوبات " الجريمة والجزاء" المشكلة للشق الموضوعي للقاعدة الجزائية. وسنحاول تقسيم تطور قانون العقوبات في المجتمعات القديمة إلى مرحلتين أساسيتين، هما مرحلة ما قبل ظهور الدولة، ومرحلة ظهورها، وذلك في المطلبين التاليين، مركزين فقط أهم التطورات التي شكلت ملامح القوانين العقابية المعروفة في العصر الحديث، دون تلك التفاصيل التي انفردت بها هذه المجتمعات ولم يبق لها اثر اليوم.
المطلب الأول
قانون العقوبات في فترة ما قبل ظهور الدولة
قبل ظهور الدول، عرفت المجتمعات البدائية التقليدية الأولى نظم اجتماعية بسيطة، تمثلت في الأسرة، القبيلة، ثم العشيرة. والتي عرفت بعض النظم والأفكار التي انعكست على مبادئ ونظريات قانون العقوبات، وطورت في مراحل تطوره اللاحقة. وهو ما نحاول الإشارة إليه باختصار وبتناول أهم الأفكار التي جاءت بها هذه التطورات، وذلك في الفرعين التاليين.
الفرع الأول
مجتمع الأسرة وقانون العقوبات
كانت بداية الاهتمام بقانون العقوبات، وتشكل نواته الأولى، عن طريق الأعراف التي تشكلت بخصوص فكرة " العدوان" ، حيث كان كل اعتداء على فرد من أفراد الأسرة يعد كاعتداء على سائر أفرادها، سواء كان اعتداءا داخليا أو خارجيا من فرد أو أفراد من أسر أخرى، في الحالة الأولى يقرر رب الأسرة الجزاء المقرر على الفرد مقابل اعتداءه على أسرته، والذي قد يصل حد النفي من الأسرة أو القتل، وفي حالة الاعتداء الخارجي كان الجزاء عبارة عن ثأر جماعي[29]. وما يمكن قوله عن هذه الفترة من حياة البشرية، أن الجرائم كانت قليلة وعادة ما تنحصر في جرائم الأشخاص فقط، وعلى الخصوص جريمة القتل، وذلك راجع لبساطة الحياة في تلك المجتمعات وقلة الأموال التي يحتمل الاعتداء عليها، مما انعدم معه جرائم الأموال، وكان رد الفعل على الجرائم التي كانت موجودة غريزيا يتمثل في انتقام المجني عليه أو أهله، على الجاني أو أهله، وهو الانتقام الذي يساوي أو يفوق – في غالب الأحيان- الضرر الذي لحق بهم، مما جعل من حلقات الانتقام تتسلسل وتتاولى حيث كل انتقام يعقبه انتقام مضاد وهكذا، الأمر الذي يترك بصمة واضحة وكبيرة في مجال تطور قانون العقوبات.
.
الفرع الثاني
مجتمع العشيرة وقانون العقوبات
بالنظر لكون العشيرة عبارة عن انضمام بعض الأسر لبعضها البعض[30]، خاصة تلك التي تربط بينها روابط النسب، ورثت العشيرة النظام العقابي الذي كان سائدا في مرحلة الأسرة، وطورته نوعا ما بما يلاءم مصالح العشائر الجديدة، خاصة وأن سلطات رب الأسرة في توقيع الجزاء، انتقلت إلى رئيس العشيرة في حال ما إن كان الجاني ينتمي لهذه العشيرة، وحلت فكرة الانتقام الجماعي" بين أسر العشيرة الواحدة، مما هدد أمن العشائر وأحلوا محله فكرة الطرد من العشيرة حتى لا يعرض وحدتها للخطر، واهتدوا أيضا لفكرة نظام القصاص الذي كان له تأثير كبير في الحد من شهوة الانتقام الفردي والمبالغة في الثأر. غير أنه في حالات الاعتداءات الخارجية بقيت الحروب بين العشائر وسيلة لتوقيع الجزاء والانتقام من جناة العشائر الأخرى، وتفكيرا في الحد من ويلات هذه الحروب اهتدت العشائر لفكرة الدية والصلح، الدية وهي مبلغ من المال تدفعه عشيرة المعتدي لعشيرة المعتدى عليه نظير تنازلها عن الثأر، مما قلل من الحروب التي كانت تثار من حين لآخر بين هذه العشائر، وقربت بينها، الأمر الذي جعلها تتحد في نظم اجتماعية أوسع هي نظم القبيلة والمدن[31]. سيما بظهور الديانات التي ساهمت في هذا التوحد والاندماج، وقوت من سلطات الحكام التي اصطبغت بصبغة دينية، الأمر الذي جعل من الجرائم التي يقرها تصطبغ بصبغة دينية أيضا، وتجعل من العقوبة التي تنزل بالجاني، إرضاء للآلهة قبل أن تكون انتقاما أو ثأرا. مما مكن الكهنة ورجال الدين في التجريم والعقاب. ويمكن القول أن هذا التطور يسمح لنا القول بأن سلطات التجريم والعقاب انتقلت من رب الأسرة إلى رب العشيرة إلى رجل الدين أو الكاهن، وأن العقوبة إرضاء للآلهة قبل أن تكون عبارة عن انتقام أو ثأر من الجاني. ومع ظهور الدول عملت على تعديل مضامين التجريم والعقاب بما يبسط هيبتها ويؤكد هيمنها ويفرض سادتها وسلطانها، وكانت وسيلتها الوحيدة في ذلك قانون العقوبات، وقد كان لها ذلك فعلا.
المطلب الثاني
قانون العقوبات ومرحلة ظهور الدولة
مع البدايات الأولى لظهور الدولة، عملت الأخيرة على الإبقاء على نظامي الصلح والدية، وتعديلها بما يخدم أهدافها ويحافظ على مصالحها، لذا أول ما قامت به أن جعلت منهما نظامين إجباريين، بعدما كانا في المجتمعات القديمة نظامين اختياريين، وفي شق التجريم عملت على التوسع في الجرائم العامة على حساب الجرائم الخاصة، مما مكنها من القضاء على سلطات رؤساء العشائر والقبائل، وقامت من جديد بتعديل النظم التجريمية والعقابية بما يخدم مصالحها الآنية، ويقوي نفوذها ويحقق أهدافها. وعكس المجتمعات القديمة أين كان الاهتمام بالعقوبة أكثر من الاهتمام بالجريمة، فإنه مع ظهور الدولة انعكس الوضع، وبدأ الاهتمام بالجريمة أكثر من العقاب، فبعدما عملت على إحداث الجرائم العامة الماسة بنظام الدولة، ووسعت من نطاقها على حساب الجرائم الخاصة، ربطت الجريمة بنظام وأمن المجتمع – وهي الفكرة السائدة في النظام الجنائية الحديثة- وبما أن الجريمة مساس وتعريض لمصالح الدولة وسيادتها للخطر، فإن رد الفعل عليها حق للدولة فقط، لها أن تقرر نوعه ومقداره، وبالتالي أصبح النظام العقابي شأن من شؤون السلطة وحدها دون غيرها. كما ظهرت فكرة الردع ووقاية المجتمع من الإجرام، كأهداف للجزاء الجنائي عوض الانتقام والثأر، والردع قد يكون خاص يتمثل في تكفير الجاني عن إثمه، أو عام يتمثل في تخويف وترهيب باقي أفراد المجتمع، ليتأكد بذلك الدفاع عن أمن وسلامة المجتمع، غير أن هذه الأهداف جعلت الدول القديمة تبالغ في قسوة العقوبات، وهنا ظهرت عقوبات الإعدام بكثرة، مع عقوبات أخرى كثيرة تنطوي على الكثير من صنوف التعذيب، مثل الإحراق وتمزيق الأطراف والتغليل بالسلاسل. الأمر الذي جعل القرون الوسطى، التي شهدت نشأة وظهور الدول تمر بمرحلة سواد حالك في المجال العقابي، في الغالب ما يتجاوزه الشراح الأوروبيين، لإخفاء حقيقة الوضع المأساوي في المجتمعات الأوروبية، من جهة، ولتغطية أفضال الشريعة الإسلامية على المجتمعات من جهة ثانية. خاصة وأنها الشريعة التي أنارت هذه الحقبة التاريخية وطورتها وأرست حضارة ظاهرة لا تخفى معالمها. وهو ما يقدونا إلى تناول فكرة أثر الدين على تطوير قانون العقوبات[32]، من خلال فرعين، نتناول في الأول قانون العقوبات والديانة المسيحية، وفي الثاني الشريعة الإسلامية وأثرها في تطوير قانون العقوبات.
الفرع الأول
قانون العقوبات والديانة المسيحية
ورثت الدول الأوروبية القوانين الجزائية المصبوغة بصبغة دينية، نتيجة انتشار الديانة المسيحية، وهو الوضع الذي استغلته الكنيسة وحاولت الإبقاء عليه وتدعيمه، ومحاولتها السيطرة على أجهزة العدالة بالنظر لكونها صاحبة الاختصاص، باعتبار الجرائم اصطبغت بصبغة دينية، الوضع الذي جعل الكنيسة تنازع الدولة في مسألة الاختصاص القضائي، والتجريم والعقاب، وهنا انقسم قطاع العدالة إلى قسمين، عدالة كنسية يرعاها رجال الدين، وعدالة دنيوية ترعاها الدولة، ونتج عن ذلك صراع طويل ومرير انتهى في نهاية المطاف إلى تغليب دور المحاكم الدنيوية على حساب المحاكم الكنسية، مما زد من تعسف وتحكم أهواء الحكام، وظلت العقوبات تتصف بالقسوة، ابتلى فيها الناس بعدالة لا ترحم، هدفها وهمها الوحيد ردع الشعوب وتخويفهم وبث الرعب فيهم حفاظا على كيان الدولة، ورغم ذلك بقيت الجرائم والعقوبات تتسم بصبغة دينية، وساد اعتقاد في أوروبا أن أي كارثة أو مشكلة تحل بالمجتمع سببها غضب الآلهة عن الجريمة التي أغضبتها، لذا يجب إنزال أشد العقوبات على من يغضب الآلهة، واعتبرت العقوبة في القانون الكنسي تكفير عن ذنوب الجاني وإرضاء للآلهة. ومما زاد الأوضاع تعقيدا، مبالغة القضاة في إرضاء الحكام، وتكريس الطبقية بين الناس وسيادة اللامساواة، ومما أزم الأوضاع أكثر اعتبار الحكام أنفسهم مفوضون في الأرض للحكم باسم الآلهة، فكانت هذه الفترة في أوروبا في الحقيقة من أسوأ الفترات التي عرفتها العدالة الجنائية وقانون العقوبات على الإطلاق، امتدت لنهاية القرون الوسطى، وبالضبط إلى ما قبل الثورة الفرنسية سنة 1789. غير أن الأمر اختلف في الناحية الثانية من العالم بإطلال فجر الشريعة الإسلامية.
الفرع الثاني
أثر الشريعة الإسلامية في تطوير قانون العقوبات
على عكس الجانب المظلم للعدالة الجنائية وقانون العقوبات السائد في أوروبا في القرون الوسطى، فإن الجهة الأخرى المقابلة كانت تنعم بتطبيق أكثر النظم القانونية الجنائية إحكاما، حيث كانت تطبق الشريعة الإسلامية، التي نرى أنها على عكس التطورات السابقة، اهتمت بالجريمة قبل اهتمامها بالعقوبة، حيث قسمت الجريمة شرعا إلى ثلاثة أقسام مختلفة لكل منها قواعدها وأحكامها، ولكل نوع منها عقوباتها الخاصة، وأصناف الجرائم في الشريعة الإسلامية هي: جرائم الحدود التي حددت على سبيل الحصر في القرآن الكريم، ويعاقب عليها بعقوبة تسمى الحد المقرر كحق لله عز وجل، وهي جرائم قررت لحفظ النفس والنسل والعرض والمال والعقل والدين، لذا قابلتها جرائم: السرقة، الزنا، القذف، شرب الخمر، الردة، البغي والحرابة. والنوع الثاني من الجرائم، هي جرائم القصاص والدية وهي جرائم قررت حفاظا على مصالح الأفراد، والنوع الثالث، وهو الجرائم التعزيرية التي تعني تأديب على الذنوب التي لم يأتي فيها حد من الحدود، أو القصاص والدية. كما اهتمت الشريعة الإسلامية بفكرة المسؤولية الجنائية وطرق الإثبات وغيرها من الأفكار التي لم تكن معروفة في القانون العقابي في الشق الآخر من العالم.
وما يمكننا قوله عن دور الشريعة الإسلامية، نبرزه باختصار فيما قاله العلامة أحمد عبد الرزاق السنهوري :" لو وطئت أكنافها وعبدت سبلها لكان لنا في هذا التراث الجليل ما ينفخ روح الاستقلال في فقهنا وفي قضائنا وفي تشريعاتنا، ثم لأشرفنا نطالع العالم بهذا النور الجديد فنضيء به جانبا من جوانب الثقافة العالية في القانون "، وهي حقيقة لم يقف عندها فقهاء الشريعة الإسلامية فقط وإنما حتى الفقه الأوروبي المقارن، خاصة في المؤتمر الذي عقدته شعبة الحقوق الشرعية من المجتمع الدولي للحقوق المقارنة في كلية الحقوق جامعة باريس في 2 جويلية 1951 بعنوان: " أسبوع الفقه الإسلامي "، حيث تم التأكيد على أن مبادئ الفقه الإسلامي لها قيمة حقوقية تشريعية لا يمارى فيها، كما أن اختلاف المذاهب الفقهية في هذه المجموعة الحقوقية العظمى ينطوي على ثروة من المفاهيم والمعلومات ومن الأصول الحقوقية التي هي مناط الإعجاب، والتي بها يستطيع الفقه الإسلامي أن يستجيب لجميع مطالب الحياة الحديثة والتوفيق بين حاجاتها وفي أثناء مناقشات هذا المؤتمر أبدى نقيب المحامين في باريس آنذاك دهشته بقولــه : " أنا لا أعرف كيف أوفق بين ما كان يحكى لنا عن جمود الفقه الإسلامي وعدم صلاحيته كأساس تشريعي يفي بحاجات المجتمع الحضري المتطور، وبين ما نسمعه الآن في محاضرات ومناقشات، مما يثبت خلاف ذلك تماما ببراهين النصوص والمبادئ"
هذا، ويمكننا أن ننبه طلبتنا الأعزاء، أن الاهتمام في هذه المراحل كان منصبا بالأساس على فكرة العقوبة والجزاء، وهو أمر تبينه غالبية الدراسات، في حين أننا نرى الأهم أن يتم التركيز على جانب الجريمة وهو ما أهمل تماما، لكن بدراستنا لمختلف التطورات أمكننا أن نستنتج الملاحظات التالية بخصوص تطور نظرية الجريمة، في مقابل تطور نظرية الجزاء السابقة، فالجرائم في المجتمعات البشرية القيديمة، وبالنظر لبساطة طرق عيشها،لم تكن متعددة بالشكل الحالي، حيث أهم ما عرفته المجتمعات البشرية قديما خاصة في مرحلة الأسرة وبداية تشكل العشائر، هو الجرائم الواقعة على الأشخاص وأهمها جريمة القتل، ثم مع القوة التي بدأت تتخذها المكونات القديمة وتقوية طرق عيشها ووسائل تبادلها، بدأت تظهر الجرائم المالية، وبظهور الدين ظهرت الجرائم التي تشكل اعتداء على الديانات، وبظهور الدولة ونظم الحكم المختلفة ظهر ما يعرف اليوم بالجرائم السياسية. أما من حيث تكوين البنيان القانوني للجريمة، فلم يكن ينظر في المجتمعات القديمة للجانب النفسي للجريمة أو لمرتكبها، وبمعنى قانوني أدق، لم يكن ينظر للركن المعنوي للجريمة، حيث كانت مجرد فعل مادي يسأل من صدر عنه دون اعتداء بإرادته أو قصده، فالجريمة وفق هذه المجتمعات كانت تتكون من ركن واحد هو ركن مادي. أما بداية بروز الركن المعنوي للجريمة واتخاذه مكانته كركن أساسي في الجريمة، كان مع ظهور القانون الروماني القديم، لكن دوره كان مقتصرا على تحديد المسؤولية وتقدير العقاب لا كركن بالمعنى القانوني الدقيق، بناء عليه يكتمل البنيان القانوني للجريمة. غير أن هذا الركن اتخذ مكانته الطبيعية إلى جانب الركن المادي، بظهور الديانة المسيحية، حيث تعد الجريمة في نظر الفقه الكنسي أن يكون الجاني أراد الخطيئة واتجهت نيته إليها، لكن مع الشريعة الإسلامية تبلور بطريقة واضحة، ومن بعده المسؤولية الجنائية وموانعها وأسباب الإباحــــة.
أما النقطة الثانية التي من خلالها يمكننا التطرق لتطور قانون العقوبات، هي فكرة مبدأ الشرعية
أو على الأقل مبدأ التجريم والعقاب، حيث أنه في المجتمعات القديمة لم يكن المبدأ معروفا وبالتالي كان التعسف ومبدأ اللامساواة، وكان الأفراد يفاجئون بجرائم لم يكن أمرها مجرما من قبل وتوقع عليهم عقوبات لم ينذروا بها من قبل وعدم المساواة بن الجناة حيث كانت تتحكم في ذلك وضعهم الاجتماعي والطبقي.
المبحث الثاني
قانون العقوبات وظهور المدارس الفقهية
بالرغم من أن ظهور الدولة لم يأتي بالكثير من الجديد لتطور القانون العقابي، إلا أن الوضع المظلم والحالك الذي عرفته أوروبا في القرون الوسطى، عرف ظهور العديد من التيارات الفكرية الجنائية المنادية للإصلاح، وهي التيارات التي تولدت عنها العديد من المدارس الفقهية الجنائية التي لازال فكرها يدرس لغاية اليوم، وتركت بصماتها الراسخة على قانون العقوبات، بالرغم من أن كل مدرسة من هذه المدارس قامت على أسس فلسفية تختلف تمام على المدارس الأخرى، ورغم هذا الاختلاف، إلا أنها ساهمت في إصلاح تشوه واعوجاج العدالة الجنائية الأوروبية، وأنقذتها من غرقها في الظلمة والفساد الذي كانت تعرفه، وخلصتها من القوانين العرفية والمنشورات الملكية التي كانت تكرس التعسف والتحكم والحكم وفق أهواء الحكام والملوك، وتقنن اللامساواة والطبقية، وكان ذلك نتيجة لإشعال مشاعر الفلاسفة والمفكرين التي حركت أقلامهم لتشعل كتاباتهم بوادر الثورة على الأوضاع، والمناداة بقانون أكثر إنسانية ينبذ عم المساواة والتفرقة وتحكم القضاة واستبداد الحكام، سيما في ظل تشبع المجتمعات الأوروبية آنذاك بفلسفة العقد الاجتماعي، للفقيه جون جاك روسو التي أوضح مضامينها في كتابه العقد الاجتماعي، وفلسفة الفقيه مونتسكيو بظهور كتابه روح القوانين سنة 1748 الذي أول ما أكد فيه هو نسبية قانون العقوبات وضرورة اختلافه باختلاف المجتمعات والعصور، كما هاجم بشدة النتائج المترتبة عن الانتقام الجماعي وبصفة خاصة قسوة العقوبات، الأمر الذي شجع على إيجاد مناخ فكري جنائي نادى بقانون عقوبات يراعي روح العصر ورغبة المجتمعات في التغيير والتجديد والإصلاح، وكثرت التيارات الفكرية في أهم الدول الأوروبية، وأهمها إيطاليا وألمانيا وفرنسا وإنجلترا، التي شكلت العديد من المدارس الفقهية، التي ساهمت بصفة مباشرة في بلورة القانون الجنائي كنظام متكامل، وأهم هذه المدارس، المدرسة التقليدية الأولى ( المدرسة الكلاسيكية)، والمدرسة التقليدية الحديثة، والمدرسة الوضعية، والعديد من المدارس الوسطية أو التوفيقية، وأخيرا ظهور مدرسة الدفاع الاجتماعي، وعموما يمكن تلخيص هذه الاتجاهات في المدارس التقليدية، ونقيضتها المدرسة الوضعية، وبينما المدارس التوفيقية، وهو الأمر الذي نعالجه من خلال المطالب الثلاثة التالية.
.
المطلب الأول
المدارس التقليدية
المدرسة التقليدية من أهم وأولى المدارس الفقهية التي اهتمت بقانون العقوبات وساهمت في تطويره بشكل كبير، خاصة وأنها شهدت العديد من التطورات في حد ذاتها، وهي التطورات التي أسفرت عن ظهور مدرستين تقليديتين، سميت الأولى بالكلاسيكية أو بالتقليدية الأولى أو القديمة، وسميت الثانية بالمدرسة التقليدية الحديثة، وكانت هناك محاولات لإنشاء مدرسة تقليدية ثالثة، غير أن دراستنا ستتركز على المدرستين الأوليتين، في الفرعين التاليين.
الفرع الأول
المدرسة التقليدية الأولى (المدرسة الكلاسيكية)
نشأت هذه المدرسة في منتصف القرن الثامن عشر[33]، بعد صدور كتاب " الجرائم والعقوبات" للمفكر الإيطالي بيكاريا سنة 1764، الذي ألفه في مجتمع اتسم بقسوة العقوبات والتجريم على الأهواء وانتفاء المساواة في التطبيق تبعا لاختلاف الطبقات، حيث نادى في كتابه بوجوب المساواة والقضاء على الطبقية، والإقلال من قسوة العقوبات، ونادى بمبدأ قانونية الجرائم والعقوبات، وهي الأفكار التي اتبعها في إيطاليا فيلا تيجري، وفي ألمانيا فويرباخ، وفي إنجلترا بنتام، الذي أدخل فكرة المنفعة كأساس لتقدير العقوبة، وأن تكون العقوبة بقدر من الإيذاء والألم للمجرم بقدر يفوق اللذة التي حصل عليها من ارتكاب جريمته، كما ركز على الأثر الرادع للعقوبة، خاصة الردع العام الذي يعد أساس إحجام الناس على ارتكاب الجرائم، وعموما يمكن تلخيص الأسس الفلسفية التي قام عليها فكر المدرسة التقليدية على المبادئ التالية التي كان لها أثر في قانون العقوبات الفرنسي الصادر سنة 1910:
1- إقرار مبدأ قانونية الجرائم والعقوبات، وإبطال سلطة القاضي في خلق الجرائم، والتقليل من سلطته التقديرية في تحديد العقوبات.
2- أساس المسؤولية الجنائية حرية الاختيار، حيث توجه أوامر ونواهي قانون العقوبات للشخص المميز المدرك لتصرفاته.
3- الحد من قسوة العقوبات، ورأى بيكاريا الذي يعد أول من وضع أسس في فلسفة العقاب ووضع نظرية متكاملة تحدد أساس حق الدولة في العقاب، وانتقد قسوة العقوبات التي رأى أنه لا فائدة منها حيث يعمل الجناة على الإفلات منها، بل فكر في أن العقوبة يجب أن تكون بقدر يفوق ما يحصل عليه الجاني من جريمته، حيث إذا فكر في ارتكاب جريمة وازن بين ما يعود عليه من نفع جراء ارتكابه هذه الجريمة، وما ينزل عليه من عقاب، حيث إن وجد الألم الذي ينزل به جراء العقوبة يفوق النفع الذي يحصل عليه من اقتراف الجريمة امتنع عن ارتكابها، بينما جاك روسو وفي كتابه العقد الاجتماعي، فيرى رد العقوبة إلى أدنى الحدود، حيث أن الشخص لما تنازل عن حريته للجماعة، لم يتنازل إلا عن القدر اللازم لحماية هذه الحرية، وتبنى جيريمي بنتام فكرة المنفعة الاجتماعية أيضا، التي نادى بها بيكاريا، حيث رأى أنه لا فائدة من قسوة العقوبات ما لم تكن تنطوي على مصلحة، وبالتالي نادى هؤلاء، بالمساواة بين الناس في العقاب، والتقليل من قسوة العقوبات والأخذ بفكرة حرية الاختيار كأساس للمسؤولية الجنائية.
الفرع الثاني
المدرسة التقليدية الحديثة
وهي المدرسة التي قامت على أفكار الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت، والتي كان لها أثر كبير على الفكر القانوني الجنائي، حيث نادى بفكرة العدالة المطلقة، وأسس العقوبة على اعتبارات إرضاء الشعور بالعدالة، حيث أن الجاني أنزل شرا بالمجتمع، وإرضاء شعور هذا المجتمع بالعدالة يجب أن يقابله إنزال شر بالجاني، حتى ولم لم تتحقق مصلحة للمجتمع في ذلك، وقد صاغ في ذلك مثالا شهيرا، هو أنه المجتمع الذي يهجر فرد أو يعدمه وبالرغم من أنه افتقد لهذا العضو ولم ينل أية فائدة من ذلك، إلا أن تنفيذ العقوبة تنزل رضاء بالعدالة بهذا المجتمع. وقد تأثر بأفكار هذا المفكر، روسيه وأرتولا وموليه في فرنسا، وكيرار وكرمينيان في إيطاليا، وهوس في بلجيكا، وميترماير في ألمانيا، وتكونت من أفكار الجميع المدرسة التقليدية الحديثة، وجمعوا بين فكرة العدالة التي نادى بها كانت، وفكرة المنعة التي نادى بها بنتام، وأسسوا العقوبة على فكرة العدالة التي تحقق منفعة للمجتمع، حيث لا يعاقب الجاني بعقوبة تتجاوز الحدود التي تتطلبها مصلحة المجتمع، كما انتقد رواد هذه المدرسة فكرة المساواة المطلقة التي لا تأخذ بعين الاعتبار شخصية الجاني وظروفه الشخصية، حيث أدخلوا فكرة الظروف المخففة ونادوا تبعا لذلك بالتوسع بعض الشيء في السلطة التقديرية للقاضي حتى يراعي الظروف الشخصية للجاني[34].
المطلب الثاني
المدرسة الوضعية ( أو الإيطالية)
المدرسة الوضعية نشأت بإيطاليا مع صدور كتاب " الإنسان المجرم" للطبيب الإيطالي لمبروزو سنة 1876، وتبعه القاضي جارو فالو الذي ألف كتابا عن علم الإجرام، وفيري الذي وضع مبادئ نظريته في رسالة تخرجه من كلية الحقوق، بعنوان " آفاق جديدة في قانون العقوبات"، وكونت آراء الثلاثة المدرسة الوضعية، التي تعد أول محطة حولت الأنظار من الاهتمام بالجريمة كفعل ضار وقع في المجتمع، إلى شخص المجرم باعتباره محدث هذا الفعل الضار، ومصدر الخطورة في العودة مستقبلا للإجرام، وإحداث المزيد من الوقائع الضارة الأخرى بالمجتمع، وبالتالي وجوب أن يهدف رد فعل المجتمع هذه الخطورة الإجرامية، وذلك بتطبيق التدابير الاحترازية للقضاء على الخطورة الكامنة لدى المجرم. خاصة وأنها المدرسة التي نفت بداية " حرية الاختيار" عن الجاني، فهو مدفوعا دائما بعوامل داخلية دفعته لارتكاب الجرائم، سواء كانت هذه العوامل الداخلية، ذات أصل وراثي أو جثماني أو اجتماعي، والتي تدفعه جبرا إلى ارتكاب الجرائم، وبالتالي العقوبة سوف لن يكون لها أثرا رادعا ويجب أن يتجرد مضمونها من فكرة الردع، كون الردع يستلزم التسليم بحرية الإرادة[35]، والجاني ليس حرا بل مدفوعا، بمعنى ليس مخيرا بل مسيرا. وأن الخطورة الإجرامية هذه يجب أن تواجه بتدابير احترازية كفيلة بالقضاء عليها، وإصلاح الجاني
أو إقصائه من المجتمع إن تعذر إصلاحه، لذا تمحورت أفكار هذه المدرسة حول المبادئ التالية:
1- ضرورة قيام قانون العقوبات على أسس شخصية، حيث يجب أن يأخذ بعين الاعتبار شخصية الجاني وليس ماديات الجريمة، فالجريمة ليست عبارة عن مظهر مادي خارجي، وإنما انعكاس لخطورة إجرامية كامنة لدى الجاني.
2- إنكار حرية الاختيار، والقول بأن المجرم مسير وليس مخير، فهو مدفوع لارتكاب الجرائم نتيجة خطورته الإجرامية، لذا فمسؤوليته لا تقوم على أساس حرية الاختيار، وإنما على فكرة الخطورة الإجرامية. حيث يرى أنصار هذه المدرسة أنه هناك خطرون وليس مذنبون، والخطر يجب أن يوضع في مكان لا يمكنه من الاعتداء على غيره، لذا يجب تقرير التدابير الاحترازية عوض العقوبات.
3- تصنيف المجرمين تبعا لعوامل الخطورة الإجرامية لديهم، وتقرير تدابير احترازية خاصة بكل طائفة من هذه الطوائف، فالمجرمين يصنفون إلى مجرم بالطبيعة، ومجرم معتاد، ومجرم بالعاطفة، ومجرم بالمصادفة، فالمجرم بالطبيعة والمجرم بالاعتياد مدفوعين إلى ارتكاب الجرائم بعوامل تكوينية، يستحيل شفائها، يتعين اتخاذ تدابير الإبعاد من المجتمع ضدهم، والمجرم المجنون فهو مدفوع إلى الإجرام نتيجة مرض عقلي، يتعين إيداعه إحدى دور الأمراض العقلية، والمجرم بالعاطفة هو المجرم الذي يندفع إلى ارتكاب الجريمة نتيجة عدم توازن في حالته العاطفية، يتعين أن يعوض أضرار الجريمة زيادة على توقيع تدابير احترازية عليه، والمجرم صدفة، وهو الذي دفعته لارتكاب الجريمة عوامل وظروف اجتماعية طارئة، وبالتالي يمكن إصلاحه بتدبير احترازي يعالج الظروف الاجتماعية التي دفعته لارتكاب الجريمة.
4- رد فعل المجتمع يجب أن يكون عبارة عن تدبير احترازي هدفه إما الإصلاح أو الإقصاء من المجتمع، لا على العقوبة الهادفة إلى الردع والقائمة على اعتبارات العدالة.
وإن كانت أفكار المدرسة الوضعية لم تطبق بالكامل في القوانين والنظم الجنائية، إلا أن بعض أفكارها كانت أساس للعديد من الأفكار القانونية، مثل منح القاضي السلطة التقديرية في تقدير العقوبة الملائمة لشخصية الجاني، وهو ما يسمى مبدأ تفريد العقاب الذي يعد من أهم المبادئ الجنائية المطبقة في كل التشريعات الجزائية الحديثة، وفكرة غرض العقوبة الإصلاحي والعلاجي التي أصبحت محور لسياسات تنفيذ العقوبات في التشريعات الوضعية.
المطلب الثالث
المدارس التوفيـــقية
أسفر الجدل الذي حصل بين المدرستين التقليدية والوضعية، إلى ظهور مدارس وسطية أو توفيقية، حاولت التوفيق بين آراء المدرستين، متفادية إسراف المدرسة الوضعية في دراسة المجرم على حساب الجريمة، وإنكار حرية اختياره تماما، وإفراغ العقوبة من معاني الردع تماما وتوجهها نوح الإصلاح والعلاج وحتى الإقصاء، وعلى النقيض من ذلك، مغالاة المدرسة التقليدية في الاهتمام بالجريمة دون المجرم، أي الاهتمام بالفعل دون الفاعل، وحرية إرادته، وإفراغ العقوبة من كل معاني الإصلاح والعلاج والتهذيب، وتوجهها فقط نحو تحقيق العدالة والمساواة والمنفعة الاجتماعية.
وكانت من أهم المدارس التوفيقية، المدرسة الثالثة التي أنشأها في إيطاليا كارنفالي وأليمينا، والاتحاد الدولي لقانون العقوبات الذي أسسه فان هامل برنس وفون ليست، ونقطة الاشتراك بين هذه المدارس، هي الاعتراف بحرية الإرادة لدى الجاني وإقامة المسؤولية الجنائية على أفكار التمييز والإدراك، وأن أهداف العقوبة متعددة، فهي تهدف إلى تحقيق الردع، كما تسعى إلى إصلاح الجاني وتهذيبه وعلاجه أيضا، لذا يمكن إقرار التدابير الاحترازية إلى جانب العقوبات التقليدية، وبذلك أصبحت الغلبة لأفكار المدارس التوفيقية في التشريعات العقابية الحديثة[36]، بما فيها المشرع الجزائري، الذي أسس المسؤولية الجنائية على حرية الإرادة والتمييز والإدراك، حيث لا تقوم هذه المسؤولية في حالة صغر السن والجنون والإكراه ( المواد من 47 إلى 51 من تقنين العقوبات الجزائري)، ولإقراره للتدابير الأمنية إلى جانب العقوبات ( المواد 19-22 من تقنين العقوبات الجزائري). ومن بين أعهم المدارس التوفيقية، نجد مدرسة الدفاع الاجتماعي، ومدرسة الاتحاد الدولي لقانون العقوبات، الذين سنتناولهما من خلال الفرعين التاليين.
الفرع الأول
مدرسة الدفاع الاجتماعي
الاهتمام بالشخص الجاني عوض الجريمة
وهي المدرسة التي تأسست على يد الفقيه الإيطالي جراماتيكا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث أنشا مركزا للدراسات التي تتمحور حول فكرة أو نظرية " الدفاع الاجتماعي"، وأسس مجلة سميت ب " مجلة مؤتمرات الدفاع الاجتماعي" في إيطاليا سنة 1947، وفي بلجيكا سنة 1949، و1954، ونشرت سنة 1955 برنامجا تضمن الحد الأدنى لسياستها. وهي المدرسة التي تقوم أساسا حول الأفكار التالية:
1- يجب أن يكون هدف قانون العقوبات، حماية المجتمع من مخاطر السلوكات المجرمة، ولا أن تكون وظيفته مجرد القصاص من الجاني وتخويفه وترهيبه بالعقوبات، لذا يجب أن يتم إقرار وسائل أخرى إلى جانب العقوبات التقليدية، وهي تدابير الدفاع الاجتماعي، لتصبح العقوبة تدبيرا للدفاع الاجتماعي، وقانون العقوبات قانونا للدفاع الاجتماعي. وهي بذلك تدافع عن أفراد المجتمع كافة، بما فيهم الجناة ذاتهم، ولا تهتم كثيرا بالبحث في الأساس الفلسفي لمسؤولية الجاني.
2- تتقرر تدابير الدفاع الاجتماعي بدراسة علمية دقيقة تكشف أسباب انحراف الجاني لاختيار التدبير الملائم للتطبيق عليه.
3- إيلاء أهمية كبيرة لمتابعة الجاني ومساعدته بعد إخضاعه لتدابير الدفاع الاجتماعي، وذلك بتقديم الرعاية والمساعدة له للتغلب على الأسباب التي أدت به إلى الانحراف، وبذلك يمكن إعادة الإدماج الاجتماعي للمجرمين كأعضاء صالحين فيه.
4- كما يمكن تطبيق تدابير الدفاع الاجتماعي حتى قبل إقدام الشخص على ارتكاب الجريمة، وذلك من خلال الكشف المبكر عن الأشخاص الذين تتوفر لديهم نفسيا واجتماعيا عناصر يترجح معها ارتكابهم جرائم في المستقبل. بل الأكثر من ذلك، نادى جراماتيكا بالعديد من الوسائل التي يجب أن تبنى عليها السياسة الجنائية، لدرجة أنه انتقدت من زميله مارك آنسل الذي ظل فترة طويلة سكرتيرا عاما للحركة، واعتبر آراء جراماتيكا آراء شخصية متطرفة خاصة وأن الأول نادى بإلغاء قانون العقوبات.
الفرع الثاني
مدرسة الاتحاد الدولي لقانون العقوبات
وهو الاتحاد الذي تأسس سنة 1880 من قبل مجموعة من الفقهاء أهمهم: أدولف برنز، فون ليست، فان هامل، وأخذوا بأهم الأفكار التوفيقية بين المدارس السابقة، وتركزت فلسفته على دعامتين أساسيتين، هي أن مهمة قانون العقوبات الكفاح ضد الجريمة باعتبارها ظاهرة اجتماعية، وأن يراعي القانون الجنائي النتائج التي تسفر عنها الدراسات الأنثروبولوجية والاجتماعية، وهو ما يدل على الاتجاه العلمي للاتحاد الدولي ورفضهم التام لفكرة التسليم بالحتمية، وطالب هؤلاء الفقهاء رجال القانون بضرورة ألا يغرقوا في الأفكار الفلسفية، بل وجوب التفكير في الشعور الداخلي للفرد بحريته، وهي الأفكار التي أثرت في بعض التشريعات أهمها قانون الدفاع الاجتماعي البلجيكي الصادر سنة 1930، الخاص بالمجرمين الشواذ والعائدين، كما ظهرت حركات فقهية حديثة نتيجة أفكار هذا الاتحاد، أهمها الحركة التي ظهرت في إسبانيا باسم علم الإجرام الحديث.
المبحث الثالث
تطور قانون العقوبات الجزائري
الجزائر من بين الدول التي عرفت تطورات كبيرة على مستوى قانون العقوبات، خاصة وأنها من الدول الإسلامية التي طبقت أحكام الشريعة الإسلامية في مرحلة معينة من تاريخها، كما عرفت بعض التطورات في الفكر الجنائي نتيجة استعمارها من قبل الاحتلال الفرنسي ولفترة طويلة من الزمن، لتكون أهم المراحل المميزة لتطور قانون العقوبات في الجزائر، ثلاث مراحل، مرحلة تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، مرحلة تطبيق القانون الفرنسي، ومرحلة الاستقلال التي شهدت تطبيق قانون عقوبات وطني، وهو ما نتناوله في المطلب الثلاثة التالية.
المطلب الأول
مرحلة تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية
عرفت الجزائر تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في الفترة التي أعقبت الفتوحات الإسلامية لشمال إفريقيا، حيث طبقت الشريعة على كل المجالات بما فيها المجال الجزائي، بما فيها شقي التجريم والعقاب، حيث عرفت تقسيم الجرائم وفقا للتقسيم الشرعي لهان جرائم الحدود، جرائم القصاص، والجرائم التعزيرية، وهو ما نبينه في الفروع الثلاثة التالية.
الفرع الأول
جرائــــم الحدود
جرائم الحدود جرائم محدودو ومبينة على سبيل الحصر بالكتاب ( القرآن الكريم)، والتي يعاقب عليها بعقوبة تسمى " الحد" الذي يعني لغة المنع، أي منع الجاني من معاودة ارتكاب الجريمة، والحد عقوبة قررها الخالق نتيجة الجريمة التي تشكل اعتداء على حق لله عز وجل، سيما وأنه بالاطلاع على هذا النوع من الحدود يبين أنها تهدف لحفظ النفس والنسل والعرض والمال والعقل وحفظ الدين. والأصل أن الحد مقرر كقاعدة بموجب نص قرآني، واستثناء بموجب السنة النبوية الشريفة مثلما هو الشأن بالنسبة لجريمة شرب الخمر، وجريمة الردة، حيث تكفل النص القرآني بتبيان شق التجريم، بينما تكفلت السنة بتبيان الحد المقرر لها كعقوبة. وعقوبة الحد لا تقبل العفو أو التنازل عنها كونها حق مقرر لله عز وجل، وهي مقررة لجرائم تامة لا لمجرد الشروع فيها أو المحاولة، فإن توقفت عند حد الشروع اعتبرت معصية توجب عقوبة تعزيرية لا تطبيق الحد، وما يميز هذا النوع من العقوبات أنها ذات حد واحد لا حدين، كما هو الحال في التشريعات الوضعية الحديثة، وبالتالي فلا سلطة تقديرية للولي في تطبيقها، وباختصار جرائم الحدود سبعة، هي: حد الزنا[37]، حد السرقة[38]، حد القذف[39]، حد البغي[40]، حد الحرابة[41]، حد الردة[42]، حد شرب الخمر[43]، وبالتالي الحدود في الشريعة الإسلامية هي الجلد والقتل والقطع. الجلد في مائة جلدة في الزنا، وثمانون في القذف، وبين الأربعين والثمانين في شرب الخمر، والقطع في السرقة، والقطع على خلاف والصلب في الحرابة، والقتل في الردة.
الفرع الثاني
جرائم القصاص والدية
وهي جرائم تقع على نفس الإنسان أو ذاته، وبالتالي هي اعتداءات واقعة على الأفراد ويجوز التنازل أو العفو عنها من المجني عليه أو من ذويه عكس جرائم الحدود التي لا يقبل فيها العفو والتنازل، غير أن العفو عنها لا يمنع ولي الأمر العقاب عليها بعقوبة تعزيرية إذا رأى أنه من شأنها تؤدي إلى إفساد في الأرض[44]، وجرائم القصاص والدية هي : القتل العمد، الجناية شبه العمد، القتل الخطأ، الجناية على ما دون النفس عمدا، الجناية على ما دون النفس خطأ، وعقوبتها القصاص أي عقاب الجانب بنفس فعلته، والدية هي دفع مقابل مالي يمثل بدل النفس أو العضو يدفع من الجاني أو ذويه عوضا عن دمه أو عضوه ( طرفه) وتختلف الدية بختلاف المجني عليه قدرا وجنسا كما هناك ما يشبه اليوم العقوبات التبعية وهي الكفارة والحرمان من الوصية أو الميراث، وعموما يمكن القول أن القصاص عقوبة مقررة للجرائم العمدية أما الدية فهي عقوبة مقررة جرائم الخطأ.
الفرع الثالث
الجرائم التـــعزيرية
التعزير هو تأديب عن ذنوب لم يشرع فيها حد من الحدود، ولا هي من جرائم القصاص والدية، ولم يرد بخصوصها نص لا في القرآن ولا في السنة يقررها كجريمة قائمة أصلا، غير أنه هناك نصوص في القرآن تبين بعض أنواع الجرائم التعزيرية، مثل الرشوة وخيانة الأمانة والسب والربا ودخول البيوت والمساكن....ولكن بصيغة النهي عن مثل هذه الأفعال كونها إفساد في الأرض أو من شانها ن تؤدي إليه، وهي جرائم عكس النوعين السابقين واردة على سبيل المثال لا الحصر، حتى يمكن ترك أمر التجريم عن التعازير لولي الأمر وفق تطورات الحياة الاجتماعية وما يراه مناسبا لأمنها ونظامها وسكينتها، ووفقا لاختلاف الأزمنة والأمكنة والمصالح، لكن بالخضوع للمبادئ والأحكام العامة للشريعة الإسلامية وعدم الخروج عنها. وطبقت ألأحكام السابقة في الجزائر منذ الفتوحات الإسلامية للبلاد لغاية دخول المحتل سنة 1830 حيث ساد تطبيق قانون عقوبات المستعمر، وبطريقة تختلف حتى عن القانون المطبق في فرنسا، وهو ما نبنه باختصار في المطلب الثاني.
المطلب الثاني
مرحلة تطبيق القانون الفرنسي
بدخول الاستعمار الفرنسي للبلاد واحتلالها سنة 1830، شرع في تطبيق تشريعاته ومنها قانون العقوبات الفرنسي، وتكرس ذلك فعليا مع صدور أمر سنة 1841 يقضي بتطبيق قانون العقبات الفرنسي على المسائل الجزائي في الجزائر، غير أن هذا التطبيق لم يكن بالطريقة التي يطبق بها في فرنسا، حيث عمد المحتل على إحداث أحكام تمييزية وبعض الجرائم الخاصة الذي لا يعرفها القانون الفرنسي نفسه، وهي جرائم جاءت بصيغة عامة وهادفة لمحاربة حركات التحرر ومعاداة الاستعمار وعنونت ب:" الأفعال المعادية للوجود الفرنسي في الجزائر" ، وعرف تطبيق فكرة المسؤولية الجماعية المنافية لقواعد قانون العقوبات، حيث كانت تعاقب العروش بأكملها بغرامات جماعية عن كل فعل يمس بالاحتلال أو يعارض وجوده.
ثم تراجع المستعمر عن هذا التمييز سنة 1944 وألغى القوانين التميزية والاستثنائية وأخضع الجزائريين ( الأهالي) لقانون العقوبات وقانون الإجراءات الجزائية الفرنسيين، غير أنه مع اندلاع الحرب التحريرية، تراجع عن ذلك وظهرت من جديد القوانين الاستثنائية والقواعد التمييزية والعنصرية، وعرفت الجزائر عقوبات الاعتقال الإداري والمراقبة البوليسية والعقوبات الجماعية وإقامة المحاكم الاستثنائية وتوسيع اختصاص المحاكم العسكرية بشكل ليس معمولا به في قانون الإجراءات الجزائية الفرنسي.
المطلب الثالث
مرحـــلة الاستقلال
باستقلال الجزائر سنة 1962 عملت الجزائر على سن تشريعات مستقلة، غير أن المسألة استغرقت وقتا بالنظر للوضع الخاص الذي تمر به الدول المستقلة حديثا، حث لم يصدر قانون العقوبات الجزائري إلا سنة 1966[45]، لذا استمر العمل بالقانون الفرنسي ما عدا ما تعارض منه مع السيادة الوطنية، بموجب القانون 62-157 المؤرخ في 31-12-1962 ( المادة الأولى منه)، في الفترة الممتدة من 05-07-1962 لغاية 15 يونيو 1966 تاريخ دخول تقنين العقوبات الجزائري حيز التنفيذ. لكن دون أن يمنعه ذلك من إصدار بعض التشريعات التي واجه بها بعض الأوضاع الخاصة، كإصداره المرسوم 63-85 المؤرخ في 16-03-193 المتضمن قمع الجرائم المرتكبة ضد التشريع المتعلق باقتناء وحيازة وصنع الأسلحة والذخائر والمتفجرات، والكثير من المراسيم الأخرى التي هدف منها المشرع الحفاظ على الأمن في هذه الفترة الحساسة من تاريخ البلاد[46]. ومع سنة 1966 أصدرت الجزائر قانون العقوبات وقانون الإجراءات الجزائية[47]، وإن كان المشرع قد استمد غالبية أحكامهما من القانون الفرنسي، مع تضمينه خصوصيات المجتمع الجزائري ومراعاة اعتبارات إتباع الدين الإسلامي في البلاد، وحتى في بعض القواعد الموضوعية الأخرى مثل مسؤولية الشخص المعوي وقواعد الاشتراك والشروع في الجريمة.... وقد عدل قانون العقوبات الجزائري منذ صدوره لغاية سنة 2006 سبعة عشر (17) مرة[48]. وما زلنا نسمع بأنه في طور المراجعة لغاية اليوم. هذا وبعد تناولنا في الباب التمهيدي السابق تحديد أهم معالم قانون العقوبات، سنشرع في دراسة الباب الأول من هذه الدراسة،والمتعلق بالنظرية العامة للجريمة باعتبارها تمثل شق التكليف في القاعدة الجزائية، على أن نتبعه بباب ثاني نخصصه لنظرية المسؤولية الجنائية. تاركين موضوع النظرية العامة للجزاء الجنائي ليكون موضوع لمطبوعة أخرى مستقلة، شأنه شأن مطبوعة قانون الإجراءات الجزائية.