الحمد لله وحده، والصَّلاة و السَّلام على من لا نبيَّ بعده.
أمَّا بعد؛
1 ـ مشكِلة الشَّيخ ربِيع ـ سدَّدهُ الله ـ في هذه القضايا المنهجيَّة العِلميَّة كـــ"الموازنة" ،و"نُصَحِّح ولا نَجرَح"،و"جَرح الثِّقة الَّذي يُسَمِّيه خَطَئًا : خَبَرَ الثِّقة"،و"حَمل المجمل على المفصَّلِ"،و"الجَرح المفَسَّر" الكُلِّيات الَّتي يَقِفُ عندها بجُمُود، فَيَغفل عن الاستثناءات الَّتي مِن خلالها نَفهم مقاصد الأئمَّة .
فَمثلًا عندما يُبدِّع بعضَ أهل العِلم بحُجَّة أنَّهم لا يَقبَلون الجَرحَ المفَسَّر،وهو يَقصد جَرْحَهُ لبعض النَّاس يَذكر قَولَ العلماء : " الجَرحُ المُفَسَّرُ مُقَدَّمٌ على التَّعديل"، و"لا يُقبَلُ الجَرحُ إلاَّ مُفسَّرًا"،فيظنّ أنَّه إِن جَرَحَ أحدَهم بِجَرح مفسَّرٍ فيَلزم على غَيرِهِ مِن أَهل السُّنَّة أَن يَقْبَلُوه(؟!)،فإن لم يقبلوه بدَّعهم (؟!)
يقول الشّيخ ربيع في (أسئلة وأجوبة مهمة في علوم الحديث (الحلقة الأولى)) :
((
السؤال : هل يكفي نقل كلام الأئمة في الجرح المفسر ؟
الجواب : كيف لا يكفي ؟! إذا نقل الأئمة الجرح المفسر لا نقبل !ولو إمام واحد نقل الجرح المفسر يكفينا ,وتقدم لكم أنه لو جرح واحد بجارح معتبر وجاء من يعارضه ويزكي هذا المجروح أنه يسقط ويسقط كلامه .))
فلم يَفْهَم ـ فضيلته ـ كلام الأئمَّة ومقاصِدَهم،أُوَضِّحُ:
1 ـ قد علمنا أنَّ الجَرح المفسَّر هو الجَرح الَّذي بُيِّنَ سَبَبُهُ.
2 ـ وعندما قال العلماء :" الجَرْحُ المُفَسَّرُ مُقَدَّمٌ عَلى التَّعْدِيلِ"،و"لا يُقْبَلُ الجَرْحُ إِلاَّ مُفَسَّرًا" ــ في حال التَّعارُّض مع التَّعديل ــ فإنَّ اشتراطَهم "التَّفسير" هو شَرط تَمْهِيدِيٌّ مُوجِبٌ لِلْنَّظَرِ فقط يتضمَّن شرطين بديهيين مُوجِبَين لِلقَبُولِ، أَذكُرُهم بَعدَ قلِيل.
3 ـ فالمعتبَر لِلنَّظر أن يكون الجَرح مُفَسَّرًا، و المعتبَر لِقُبُولِهِ أن يكون مُفَسَّرًا ِبجارِح حقِيقِيٍّ مُعتَبَر عند العلماء، وهو ما يُسَمِّيه ابنُ دَقِيقٍ العيد "بَأَمْرٍ مَجْزُوْمٍ بِهِ"،فإذًا المعتَبَر في الجَرح ليس التَّفسير المجرَّد المطلَق، ولكنَّ التَّفسير المقنع.
4 ـ وقد علمنا أنَّ المعتَبَر هو ما يَنبَنِي عليه أَثَرُهُ الشَّرْعِيُّ ، لا ما يَقتَنِعُ به صَاحِبُهُ، سواء كان الشَّيخ ربيع أو البُخَارِيُّ ،إذ الاقتِنَاعُ يَخْتَلِفُ مِن شخص لِآخَر.
فالجَرح المفَسَّر قَد يكون معتَبَرًا، وقد لا يكون،بِحَسب علم الشَّخص و اجتِهادِهِ فإنَّ التَّقديرات في الأسباب و الأحكامتختلِف بحسبِها،و المعتَبَر في الحُكم هو ظُهور العلَّة،و العلَّة مِنها مُؤَثِّرَةٌ، ومنها غيرُ مُؤَثِّرَةٍ،و المعتَبَر في العِلَّة تَأثِيرُها لا تَسمِّيتنا لَها بالعلَّة.
5 ـ ومثل هذا المعتَبَر يُسمَّى "اعتِبَاريا"،و الأمر الاعتباريُّ هو ما لا وجُود له إلاَّ في عقل المعتَبِر مادام معتَبَرًا ،فهو الماهيَّة بشرط العراء،وَلا تحقُّق له في نفس الأمر،بخلاف المعتبر شرعًا لأنَّه ليس بنسبِي.
6 ـ فالمعتَبر في الجَرح ليس مراعاة كونه مُفَسَّرًا، أَي اعتبار المعنَى اللُّغويِّ للَّفظ المُجرَّح به، ولكن كون هذا التَّفسير معتَبَرًا شَرعًا مُقنِعًا للعلماء، فإذًا الجَرح المفسَّر منه المعتَبَر، ومنه المُلغَى.
7 ـ فإذا قلنا: الكتابة و القراءة لا تكون إلاَّ مِن الحيِّ، لم يستلزم ذلك أنَّ كلَّ حَيٍّ يكون كاتبًا وقارئًا، فكذلك إذا اشترطنا في الجَرح المعارض بالتَّعديل أن يكون مفسَّرا لتقديمه فهذا لا يستلزم بداهة أن كلَّ جَرح مفسَّر يكون مُعتَبَرًا مقبولاً.
8 ـ فهنا فَرق جوهريٌّ بين أن نقول: يجب أن يكون الجَرح مُفَسَّرًا، وبين أَن نقول: إذا كان الجَرح مُفَسَّرًا يجب قبوله،فالأوَّل شرطٌ مُوجبٌ لِلنَّظر ،و الثَّانِي: شرطٌ موجبٌ للقبول بدون النَّظر ،وهذا عَيْنُ التَّقليد: أن تَقبَل الجرح بدون أَن تنظر فيه ،فهذا المقام: قبول القول بالتَّسليم التَّامِّ دون النَّظر و البحث هو مقام خَاصٌّ بالنُّبوَّة.
ومِن هذا تعرف أنَّ الشيخ ربيعا قد رفع نفسه وكلامه ــ مِن حيث لم يشعر ـــ إلى مقام لا يليق به، وأنَّ تأصيلاته هذه توقِع الشباب في التَّقليد المذموم، وتؤسِّس لديهم قناعةً بصواب كلامه يشبه العصمة.
فهذا مثل قولهم: " لا يُقبل الجَرح إلاَّ باللُّغة العربيَّة" لا يعني أنَّ شرط قَبُول الجَرح أَن يكون بالعربِيَّة،فقد نكتُب بالعربيَّة حقًّا، وقد نكتُب بها باطلاً، وسُكِتَ عن شرط النَّظر فيه لأنَّه بدهيٌّ ـ سبحان الله ـ إلاَّ عند الشَّيخ رَبِيع (؟!)
مثال آخر: إِذَا قِيْلَ لَكَ فِي إِدَارَةٍ مَا : "لَنْ يُنْظَرَ فِي مِلَفِّكَ حَتَّى تَدْفَعَ الرُّسُوْمَ " فهذا لا يعني أَنَّك إن دفعت الرُّسوم قُبِلَ مِلفُّك،بل ذاك شرطٌ تمهيديٌّ ، وليس شرطًا أَصليًّا،أي:الرُّسوم للِإيداع و النَّظر فيه، وليس لِلقَبُول.
وما الفرق بين تفسير أهل السُّنَّة، و بين تفسير الباطنيَّة، و الكلُّ يُسمَّى تفسيرًا(؟!)