الآلية الثانية: "الدستور"
وهنا نأتي إلى بدعة حقيقية في الدين يتفوه بها السلفيون المتحجرون: "القرءان هو دستورنا"!!
يا لها من بدعة حقيقية في الدين!!
لقد فكرتُ كثيراً في قول سيدنا علي كرم الله وجهه: "حق أريد به باطل" وأردتُ أن أجد لي مدخلاً إلى تقليده رضي الله عنه، وأقول كما قال.
لا؛ ليس لي إلى ذلك مدخل ولا حتى نافذة، لأنه ـ كرم الله وجهه ـ استند إلى قول المولى عز وجل: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ﴾ سورة يوسف آيـة 40
هل يوجد في كتاب الله أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو في ما أجمع عليه السلف الصالح، ما يفيدُ أو يدلُّ على أن القرءان هو الدستور؟
قد يقول قائل: هذا مصطلح تم الاصطلاح عليه في العصور المتأخرة، ولم يكن معروفا في عهدهم رضي الله عنهم.
والجواب على هذا القول: إن الذي لم يكن معروفاً في عصر السلف هو لفظ المصطلح، وليس معناه ولا مفهومه، هذا الأخير كان معروفاً لديهم تمامَ المعرفة.
فما هو يا ترى معنى ومفهوم الدستور، الذي اصطلحت البشرية جمعاء، على أنه هو المقصود والمراد منه وبه؟
هل اصطلحت البشرية جمعاء، واتفقت في ما بينها، على أن مصطلح الدستور يرادُ به العهد والميثاق والعقد الذي بين العباد ـ البشر ـ وخالقهم، الذي هو الله سبحانه وتعالى؟
لا؛ بكل تأكيد لا، ليس الأمر كذلك ، وإنما الذي اصطلحت عليه البشرية هو كون هذا المصطلح ـ الدستور ـ يعني "العهد" "العقد" "الميثاق" الذي بين جهتين، كلتيهما من البشر ـ وليس جهة خالقة، وأخرى مخلوقة ـ وإنما هما مخلوقتان، ومن جنس واحد ـ الإنسان ـ ولكن إحداهما حاكمة، وهي الدولة، والثانية محكومة، وهي عموم الشعب ـ المجتمع ـ وبينهما ميثاق، عهد، عقد، يطلق عليه "الدستور".
إذا كان هذا هو المعنى والمفهوم الذي يعنيه مصطلح الدستور ولا يعني غيره أبداً فكيف جَـازَ للسلفية أن تقول: "دستورنا هو القرءان"؟
أليس هذا ابتداع في الدين؟
قد يقول المتحجرون: القرءان فيه أحكام وإشارات وتوجيهات تخص العلاقة التي بين الحاكم والمحكوم؛ ألا يغنينا ذلك عن الدستور؟
والجواب على هذا السؤال (الشبهة) من جهتين:
من جهة أولى: هذه الأحكام والإشارات والتوجيهات هي متفرقة ومتناثرة في القرءان هنا وهناك ، وهي ترقى في مجموعها إلى أن تكونَ أو تكوِّنَ ـ بمعنى تُنشأ ـ دستوراً ينظم حياة المسلمين في مجالها الثاني ـ مجال الخلافة والاستخلاف ـ الذي هو مجال واسع جداً جداً، ومتغير باستمرار، ولكن ليس على الحالة التي هي عليها ـ متفرقة ومتناثرة في القرءان هنا وهناك ـ وهذا ليس عجزاً من الله، ولا نقصاً في القرءان الكريم، وإنما هذا فيه حكمة بالغة ،لا يدركها إلا "الراسخون في العلم" ـ وليس المتسلفون المتحجرون منهم ـ، ألا وهي إرادة الله عز وجل أن يترك في هذا المجال مساحاتٍ شاسعةً وواسعةً جداً ـ لا نقول يتركه كله ـ لعباده المؤمنين به، والمسلمين أمرهم إليه، كي يملؤوه من عندهم، وفي هذا الإجراء وبه ـ تنطيم وتقنين هذا المجال ـ يتم ويتحقق شيئان يريدهما الله عز وجل:
الأول: الامتحان والاختبار؛ لابد للمسلمين أن يجتازوهما. وبما أن الإنسانَ عَــبْــدٌ شاء أم أبى، وبما أنه قبل أن يحملَ الأمانةَ من دون سائر المخلوقات، كما جاء في سورة الأحزاب، فقد أصبح مناط الاختبار والامتحان مزدوجاً بالنسبة له!
ـ يريد منه الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يختار ويقرر هو من تلقاء نفسه أن يكون لله عبدا، بعد ما منحه الله العقل والحرية ( حرية الاختيار) وقد يختار أن لا يكون عبدا لله، بل لعدوه إبليس اللعين! وهذا ما لا يقدر عليه ولا يستطيعه أي مخلوق في السماوات ولا في الأرض سوى بعض الجن!
ـ يريد منه ربه ـ سبحانه وتعالى ـ أن يربط الخلافة بالعبودية، بعد أن يكون قد حقق هذه الأخيرة له (أي لربه سبحانه وتعالى وحده)
في نطاق العبودية: عليه أن يلتزم بما شرعه الله من أحكام مفصلة قطعية وثابتة، ولا يتخطاها ولا يتعداها أبدا.
أما في نطاق الخلافة: فإن عليه أن ينطلق من الثوابت والقطعيات، ويبني عليها شـرعا ( فقها قانونا، نظاما) من عنده، أي من اجتهاده.
الثاني: تحمل المسؤولية؛ لابد للمسلمين أن يتحملوا مسؤولياتهم في ما أسند إليهم، وهي الأمانة التي قبل الإنسان أن يحملها من دون سائر المخلوقات ، وهذه الأمانة ليست سوى خلافة الإنسان المسلم عن ربه في الأرض ـ أما الإنسان الكافر فهو خليفة الشيطان في الأرض ـ وهذه الخلافة تقتضي إنشاء حضارة، أي عمارة الأرض بكل ما هو خير. ولا يمكن للحضارة ـ عمارة الأرض ـ أن تتحقق فيها الخيرية ولا أن توصف بذلك إلا إذا ربطت بالعبودية لله تعالى.
هذا وذاك هما مناطان وليس مناطا واحدا. مناطان مختلفان ، لكنهما متكاملان:
الأول محدود؛ والثاني لا حدود له!
أولهما: "العبادة والعبودية" ( الدين، العقيدة، الشعائر، الأحكام القطعية والثابتة، الأخلاق ـ أخلاق الإسلام العظيم )
وثانيهما: "الخلافة والاستخلاف" ( الدنيا، الثقافة، المدنية الحضارة، عمارة الأرض )
والله سبحانه وتعالى جعل المناط الأول صغيراً وضيقاً من ناحية الحجم، وجعل أحكامه مفصلة ومفسرة ومُبَينة في الكتاب والسنة، وحكم عليها - أي على الأحكام – بالتوقيف
ولكن الله ـ سبحانه وتعالى ـ هو ذاته ـ تبارك وتقدس ـ من جعل المناط الثاني كبيراً وواسعاً من ناحية الحجم، وجعل له بعض الأحكام فقط ، مفصلة وحكم عليها بالتوقيف أيضاً، لأنها ثوابت وقطعيات، وهي بمثابة الأساس ـ أي القاعدة الصلبة ـ الذي تبنى عليه الخلافة؛ وخلافة الإنسان المسلم عن ربه عز وجل تعني الحضارة (عمارة الأرض)
وجعل لهذا المناط الثاني في الكتاب، كما في السنة، كثيراً من الأحكام هي حقيقة متوقفة ولكنها ليست أحكاماً عملية تطبيقية مفصلة قابلة للتنـزيل، لا، ليست كذلك، وإنما هي ذات أوصاف ثلاثة:
ـ مبادئ رئيسية
ـ مقاصد عامة
ـ قواعد وكليات عامة
وأمر ـ سبحانه ـ المسلمين بأن يقننوا وينظموا حياتهم ويشرعوا لها في ما ليس فيه حكم ثابت وقطعي في إطار هذه الثلاثة!!
وإذا قلت: الأول صغير وضيق فهذا من ناحية الحجم فقط، أما من ناحية الأهمية والفضل والوزن والثقل، فهو أعظم من الثاني، ولو لم يكن كذلك، لما جعل الله أحكامه متوقفة.
إن معنى كون هذه الأحكام متوقفة: أي لا يجوز لأحد أن ينازعه ـ سبحانه وتعالى ـ فيها، لأنها أساس الدين وصلبه!
أما المناط الثاني ـ الخلافة والاستخلاف ـ فلا يعني أن العباد إذا هم قاموا بالتنظيم والتقنين والتشريع فيه، قد نازعوا أو شاركوا الله في شرعه!!
لا يعني ذلك أبداً ما داموا ملتزمين بما أمرهم الله في هذا الشأن، فقد أمرهم سبحانه وتعالى بأمرين:
الأول: أن ينفذوا ويطبقوا ما هو ثابت وقطعي بدون نزاع
الثاني: أن يقوموا ـ هم بذاتهم ـ بتقنين قوانين، وبتشريع أحكام، وبتنظيم نظم وتنظيمات، في ما ليس فيه حكم ثابت وقطعي، شريطة أن يستشيروا الأحكام الثابتة، ولكنها ليست عملية تطبيقية مفصلة، وإنما هي كما قلنا سابقا:
ـ مبادئ رئيسية يكون منها الانطلاق
ـ ومقاصد عامة بمثابة محطات الوصول
ـ وقواعد وكليات عامة تراقب السير بمثابة حوامات تحرس القافلة أثناء سيرها!
والمقصود بـ"أن يستشيروا الأحكام الثابتة" أمران:
الأمر الأول: الاستقراء.
الأمر الثاني: الاستنباط.
بمعنى أن هذه المبادئ الرئيسية، والمقاصد العامة، والقواعد والكليات، تستقرأ أولاً، ثم تستنبط منها الأحكام ثانياً.
هذا جواب على الشبهة من جهة أولى.
ومن جهة ثانية: القرءان العظيم ليست وظيفته الرئيسية ـ التي هي وظيفة كبرى، وعظيمة جداً، وليس هناك وظيفة تعادلها أبـداً ـ، أ ن يكون دستوراً بين حاكم ومحكوم، وكليهما من البشر، والعلاقة بين البشر في ميدان الحكم والسياسية تتغير باستمرار، وكلما تغيرت العلاقة بين حاكم ومحكوم ـ وهي لابد أن تتغير بتغير الأجيال ، بل بذهابها ـ جاز أو وجب أن يتغير الدستور الذي ينظم هذه العلاقة!
وإذا جعلنا من القرءان دستوراً بين حاكم ومحكوم (وعندما تتبدل وتتغير علاقة أحدهما بالآخر، وهي لابد أن تتبدل وتتغير، فالأجيال تذهب وتفنى باستمرار، وأخرى تأتي من عالم الغيب وهي إلى مصيرها وتحمل مسؤولياتها قادمة رغم أنفها) فهل يجوز أن نُغَيِّرَ ونبدل القرءان كما يجوز أن نغير ونبدل الدستور؟!!
طبعا السلفي سيقول: لا؛ أعوذ بالله من ذلك، ونحن بدورنا نردد معه: نعوذ بالله من ذلك، ولكن ما معنى هذا الهراء: "دستورنا هو القرءان"؟!
القرءان كلام الله، وليس بمخلوق وهو ثابت ولا يتغير ولا يتبدل أبداً، وسيبقى كما هو حتى في الدار الآخرة. فهل يريد السلفيون المتحجرون بهذا القول الذي هو بدعة في الدين بامتياز، أن تبقى الحياة السياسية ثابتة ثبوت القرءان إلى يوم القيامة؟!!
هذا المنطق ـ دستورنا هو القرءان ـ بدعة في الدين، لأن أساسه القرءان.
هذه البدعة المنكرة في الدين، هي التي جعلت المملكة العربية السعودية الدولة الوحيدة في العالم أجمع محرومة من نعمة الدستور!!
وكيف لا تكون محرومة من هذه النعمة ـ نعمة الدستور التي تنظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم ـ وهي مغلوبة على أمرها كما يبدو، كما أنها لا تريد أن تدخل في صراع مع شيوخ السلفية، وهم لا يكفون عن ترديد: "الدستور بدعة" كما لا يكفون أيضا عن ترديد: "القرءان هو دستورنا ولا نبتغي غيره دستوراً لنا"!!!
هذا قول قلة قليلة من السلفية!!
ولكن من حسن حظ هذه المملكة الشقيقة الغالية والمحبوبة إلى جميع المسلمين، أن المتحجرين من شيوخ السلفية قلة قليلة، وأن الغالبية العظمى من الشيوخ ليست كذلك، وإنما هم أهل فقه وأصول ووسطية واعتدال، ولابد لأولياء الأمر في هذا البلد الحبيب، أن يجدوا لهم حلاً مع هذه القلة القليلة!
وأنا على يقين أنهم سيجدون لهم ذلك الحل، وغالب الظن أنهم قد وجدوه وانتهى الأمر!
كما أنني على يقين أن الدكتور ربيع المدخلي لم يعد يلقى ويتلقى من المسئولين أولياء الأمر، ذلك الدعم الكبير الذي كان يتلقاه بسخاء منهم في الماضي!!
إن وظيفة القرءان الكريم الأولى والرئيسية والكبرى، هي هداية الناس، بمعنى ربطهم بخالقهم عقيدةً، وعبادةً، وسلوكاً، وأخلاقاً، إذ هو المرجعية الأولى والعليا في الدين والدنيا على الإطلاق.
وإذا كنا نقول: القرءان هو المرجعية الأولى والعليا على الإطلاق، فنحن نقصد ما نقول: أي ليس هناك مرجعية فوقه أبداً، وليس هذا حال الدستور!!
وبعد ما عرفنا ما المقصود بهذا المصطلح ـ الدستور ـ وما هي طبيعته ووظيفته، لابد من طرح السؤال التالي:
ما حكم كتاب الله ـ جل جلاله ـ وما حكم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدستور ؟
هل الحكم هو الوجوب أم الندب أم الإباحة؟
أم الحكم ـ كما نسمع من السلفيين المتحجرين ـ هو الحرام والبدعة؟
إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾
وهنا يتبادر سؤالان مهمان لابد من الإجابة عنهما:
السؤال الأول: ما طبيعة هذا الأمر الذي أمرنا ـ نحن المؤمنين المسلمين ـ بالتشاور فيه؟
هل يتعلق الأمر بالجانب الأول من الدين؛ جانب "العبادة والعبودية"؟
أم الأمر يتعلق بالجانب الثاني من الدين؛ جانب "الخلافة والاستخلاف"؟
الجواب: إن الأمر يتعلق بالجانب الثاني قطعا!
وإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك، فإن هذا يعني أن هذا المجال ـ الخلافة والاستخلاف ـ محل اجتهاد كما أن الاختلاف فيه لا مفر منه وهو لا يضر!!
السؤال الثاني: هل الأمر من الله إلى الناس ـ وهم المؤمنين المسلمين ـ للندب أم للوجوب؟
بصيغة أخرى هل الشورى واجبة وملزمة أم هي مستحبة وليست ملزمة؟
نترك الجواب لكتاب الله عز وجل:
إنه يقول: ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ سورة الشورى آيـة 38 إن الأمر بالشورى جاء بعد أمرين يصنفان في قمة الوجوب: الإستجابة لله ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ﴾ وإقامة الصلاة ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾ ثم أتبع الله هذه الأوامر الثلاث بأمر رابع لا يشك مسلم بأنه للوجوب، ألا وهو الإنفاق مـن رزق الله ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾
ويقول المولى عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾ سورة المائدة آيـة 1
ويقول رب العزة: ﴿وَأَوْفُـواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَـاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ سورة النحل آيـة 91
ويقول من له الخلق والأمر: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ سورة المؤمنون آيـة 8
قد يقول السلفيون المتحجرون: إن العقود التي أمر الله ـ سبحانه وتعالى ـ المسلمين أن يوفوا بها في سورة المائدة لا تعني الدستور، وكذلك العهد الذي أوجب الله ـ تبارك اسمه ـ على المؤمنين الوفاء به في سورة النحل لا تعني ذلك، كما أن رعاية العهد التي ذكرت في سورة المؤمنون لا يدخل ذلك في ما ذهبت إليه!! وإنما تعني مختلف العقود والعهود من بيع وشراء وإيجار ونكاح وتوكيل وما إلى ذلك فقط!!!
جوابا على شبهتهم هذه، وحيرتهم وابتعادهم الكبير عن الصواب، وانغماسهم العميق في الإيديولوجية السلفية المنغلقة، نقول:
إنكم لا تشكون في أن ســنــة رسول الله صلى الله عليه وسلم بــيــان للقرءان الكريم؛ وعلى هذا الأساس تعالوا بنا إلى هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم لننظر هل أدخل الدستور في زمرة هذه العقود والعهود أم لا ؟
إنه لا يخفى على أي طالب علم مهما يكن مبتدئا، ناهيك عن عالم متمكن ومتبحر في العلم أن أول ما قام به الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم حين قدومه المدينة المنورة ثلاثة أمور:
ـ بناء المسجد
ـ المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
ـ كتابة الصحيفة التي جاء فيها:
«بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَثْرِبَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ، فَلَحِقَ بِهِمْ، وَجَاهَدَ مَعَهُمْ، إِنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ دُونِ النَّاٍس، الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قَُريْشٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ (3)يَتَعَاقَلُونَ بَيْنَهُمْ، وَهُمْ يَفْدُونَ عَانِيَهُمْ (4)بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْن الْمُؤْمِنِينَ ؛ وَبَنُو عَوْفٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ (5) الأٌولَى، كُلُّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْن الْمُؤْمِنِينَ؛ وَبَنُو سَاعِدَةَ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الأٌولَى، وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْن الْمُؤْمِنِينَ؛ وَبَنُو الْحَارِثِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الأٌولَى، وَكُلُّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْن المؤمنينَ؛ وَبَنُو جُشْمٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الأٌولَى، وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْن الْمُؤْمِنِينَ ؛ وَبَنُو النَّجَّارِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الأٌولَى، وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْن الْمُؤْمِنِينَ ؛ وَبَنُو عَمْرُو بْنِ عَوْفٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الأٌولَى، وَكُلُّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْن الْمُؤْمِنِينَ؛ وَبَنُو النَّبِيتِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الأٌولَى، وَكُلُّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْن الْمُؤْمِنِينَ ؛ وَبَنُو الأَوْسِ عَلََى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الأٌولَى، وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْن الْمُؤْمِنِينَ ؛ وإن الْمُؤْمِنِينَ لاَ يَتْرُكُونَ مُفْرَحاً (6) بَيْنَهُمْ أَنْ يُعْطُوهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي فِدَاءٍ أَوْ عَقْلٍ؛ وَأَنْ لاَ يُحَالِفَ مُؤْمِنٌ مَوْلَى مُؤْمِنٍ دُونَهُ؛ وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيْهِمْ، أَوْ ابْتَغَى دَعِيسَةَ (7) ظُلْمٍ، أَوْ إِثْمٍ، أَوْ عُدْوَانٍ، أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ؛ وَإِنَّ أَيْدِيَهُمْ عَلَيْهِ جَمِيعاً، وَلَوْ كَانَ وَلَدَ أَحَدِهِمْ؛ وَلاَ يَقْتَلُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِناً فِي كَافِرٍ، وَلاَ يَنْصُرُ كَافِراً عَلَى مُؤْمِنٍ؛ وَإِنَّ ذِمَّةَ اللهِ وَاحِدةٌ، يُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَدْنَاهُمْ؛ وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ مَوَالِي بَعْضٍ دُونَ النَّاسِ؛ وَإِنَّهُ مَنْ تَبِعَنَا مِنْ يَهُودٍ فَإِنَّ لَهُ النَّصْرَ وَالْأُسْوَةَ (8)، غَيْرُ مَظْلُومِينَ وَلاَ مُتَنَاصِرِينَ عَلَيْهِمْ؛ وَإِنَّ سِلْمَ الْمُؤْمِنِينَ وَاحِدَةٌ، لاَ يُسَالِمُ مُؤْمِنٌ دُونَ مُؤْمِنٍ فِي قِتَالٍ فِي سَبِيلِ اللِه، إِلاَّ عَلَى سَوَاءٍ وَعَدْلٍ بَيْنَهُمْ؛ وَإِنَ كُلَّ غَازِيَّةٍ غَزَتْ مَعَنَا يُعْقَبُ بَعْضُهَا بَعْضاً؛ وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُبِىءُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِمَا نَالَ دِمَاءَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ وَإِنَّ الْمُؤِمِنِينَ الْمُتَّقِينَ عَلَى أَحْسِنِ هُدى وَأَقْوَمِهِ؛ وَإِنَّهُ لاَ يُجِيرُ مُشْرِكٌ مَالاً لِقُرَيْشٍ وَلاَ نَفْساً، وَلاَ يَحُولُ دُونَهُ عَلَى مُؤْمِنٍ؛ وَإِنَّهُ مَنِ اعْتَبَطَ (9) مُؤْمِناً قَتْلاً عَنْ بَيِّنَةٍ فَإِنَّهُ قَوَدٌ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَرْضَى وَلِيُّ الْمَقْتُولِ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ كَافَّةً، وَلاَ يَحِلُّ لَهُمْ إِلاَّ قِيَّامٌ عَلَيْهِ؛ وَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَقَرَّ بِمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، وَآمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، أَنْ يَنْصُرَ مُحْدِثاً وَلاَ يُؤْوِيهِ؛ وَأنَّهُ مَنْ نَصَرَهُ أَوْ آوَاهُ، فَإِنَّ عَلَيْهِ لَعْنَةَ اللهِ وَغَضَبَُهُ يَوْمَ الْقِيَّامَةِ، وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ؛ وَإِنَّكُمْ مَهْمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ، فَإِنَّمَا مَرَدُّهُ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ وَإِنَّ الْيَهُودَ يُنْفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارِبِينَ؛ وَإِنَ يَهُودَ بَنِي عَوْفٍ أُمَّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (10)، لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ، وَلِلْمُسْلِمِينَ دِينُهُمْ، مَوَالِيهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ، فَإِنَّهُ لاَ يُوتِغُ (11)إِلاَّ نَفْسَهُ، وَأَهْلَ بَيْتِهِ؛ وَإِنَّ لِيَهُودِ بَنِي النَّجَّارِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ؛ وَإِنَّ لِيَهُودِ بَنِي الْحَارِثِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ؛ وَإِنَّ لِيَهُودِ بَنِي سَاعِدَةَ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ؛ وَإِنَّ لِيَهُودِ بَنِي جُشْمٍ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ؛ وَإِنَّ لِيَهُودِ بَنِي الأَوْسِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ؛ وَإِنَّ لِيَهُودِ بَنِي ثَعْلَبَةَ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ؛ إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ، فَإِنَّهُ لاَ يُوتِغُ إِلاَّ نَفْسَهُ، وَأَهْلَ بَيْتِهِ؛ وَإِنَّ جَفْنَةَ بَطْنٌ مِنْ ثَعْلَبَةَ كَأَنْفُسِهِمْ؛ وَإِنَّ لِبَنِي الشَّطِيبَةِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ ، وَإنَّ الْبِرَّ دُونَ الْإِثْمِ؛ وَإِنَّ مَوَالِيَ ثَعْلَبَةَ كَأَنْفُسِهِمْ؛ وَإِنَّ بِطَانَةَ (12) يَهُودٍ كَأَنْفُسِهِمْ؛ وَإِنَّهُ لاَ يَخْرُجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلاَّ بِإِذْنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَإِنَّهُ لاَ يَنْحَجِزُ عَلَى ثَارِ جُرْحٍ؛ وَإِنَّهُ مَنْ فَتَكَ فَبِنَفْسِهِ فَتَكْ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ، إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ؛ وَإِنَّ اللهَ عَلَى أَبَرِّ هَذَا؛ وَإِنَّ عَلَى الْيَهُودِ نَفَقَتُهُمْ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ نَفَقَتُهُمْ؛ وَإِنَّ بَيْنَهُمْ النَّصْرَ عَلَى مَنْ حَارَبَ أَهْلَ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؛ وَإِنَّ بَيْنَهُمْ النُّصْحَ وَالنَّصِيحَةَ، وَالْبِرَّ دُونَ الْإِثْمِ؛ وَإِنَّهُ لَمْ يَأْثَمِ امْرُؤٌ بِحَلِيفِهِ؛ وَإِنَّ النَّصْرَ لِلْمَظْلُومِ؛ وَإِنَّ الْيَهُودَ يُنْفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارِبِينَ ؛ وَإِنَّ يَثْرِبَ حَرَامٌ جَوْفُهَا لِأَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؛ وَإِنَّ الْجَارَ كَالنَّفْسِ غَيْرُ مُضَارٍّ وَلاَ آثِمٍ؛ وَإِنَّهٌ لاَ تُجَارُ حُرْمَةٌ إِلاَّ بِإِذْنِ أَهْلِهَا؛ وَإِنَّهُ مَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ مِنْ حَدَثٍ أَوِ اشْتِجَارٍ يُخَافُ فَسَادُهُ، فَإِنَّ مَرَدَّهُ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وإلى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ وَإٍنَّ اللهَ عَلَى أَتْقَى مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ وَأَبَرِّهِ؛ (13) وَإِنَّهٌ لاَ تُجَارُ قُرَيْشٌ وَلاَ مَنْ نَصَرَهَا؛ وَإِنَّ بَيْنَهُمْ النَّصْرَ عَلَى مَنْ دَهَمَ يَثْرِبَ، وَإِذَا دُعُوا إِلَى صُلْحٍ يُصَالِحُونَهُ وَيَلْبَسُونَهُ، فَإِنَّهُمْ يُصَالِحُونَهُ وَيَلْبَسُونَهُ ؛ وَإِنَّهُمْ إِذَا دُعُوا إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، إِلاَّ مَنْ حَارَبَ فِي الدِّينِ، عَلَى كُلِّ أُنَاسٍ حِصَّتُهُمْ مِنْ جَانِبِهِمْ الَّذِي قِبَلَهُمْ؛ وَإِنَّ يَهُودَ الْأَوْسِ، مَوَالِيَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ، عَلَى مِثْلِ مَا لِأَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ ، مَعَ الْبِرِّ الْمَحْضِْ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؛ وَإِنَّ الْبِرَّ دُونَ الْإِثْمِ، لاَ يَكْسِبُ كَاسِبٌ إِلاَّ عَلَى نَفْسْهِ؛ وَإٍنَّ اللهَ عَلَى أَصْدَقِ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ وَأَبَرِّهِ؛ وَإِنَّهُ لاَ يَحُولُ هَذَا الْكِتَابُ دُونَ ظَالِمٍ وَآثِمٍ، وَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ آمِنٌ، وَمَنْ قَعَدَ آمِنٌ بِالْمَدِينَةِ، إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ أَوْ أَثِمَ؛ وَإِنَّ اللهَ جَارٌ لِمَنْ بَرَّ وَاتَّقَى، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» (14)
والسؤال الذي نوجهه الآن إلى السلفية المتحجرة يقول:
هل هذا العقد ، هذا العهد، هذا الميثاق ، هذه الصحيفة (الدستور) التي كتب رسول الله ـ أمر بكتابتها ـ والتي كانت واحدة من ضمن ثلاثة أعمال قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قومه المدينة المنورة أقل أهمية و شأن من عقود البيع والشراء والشراكة والإيجار والنكاح والتوكيل التي تبرم بين المسلمين حتى لا ينطبق عليها حكم الآيات القرءانية السابق ذكرها ؟
نترك الجواب لهم!
لقد تبين لنا بما لا يدع مجالا للشك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أول من وضع دستوراً لدولةٍ مدنيةٍ على وجه الأرض!
نعم لدولة مــدنــيـة وليست ديــنــيــة بمعنى تيوقراطية !!
إن دستور دولة النبي صلى الله عليه وسلم قد تضمن تسعة من المبادئ والقواعد العظيمة، والأحكام الإنسانية التي لم تكن البشرية تحلم بها من قبل وهي:
أولا: ابتكار النظام المكتوب للدولة حسب حاجياتها الزمنية وإعلانه على الناس والتزام الجميع به، وكان ذلك حدثا تاريخيا عظيما في تاريخ الحياة الدستورية والسياسية والإنسانية.
ثانيا: الإعلان عن حرية العقيدة في الدين، وأن اليهود أمة مع المؤمنين، وأن لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، وأن لليهود النصر والمساواة بالمسلمين غير مظلومين ولا متناصرين عليهم.
ثالثا: الإعلان عن مفهوم (الأمة) السياسي في الإسلام، وأنه قد يشتمل على جماعات مختلفة في العقائد والأديان، وأنهم أيضا ( أمة واحدة من دون الناس ) ممن عداهم.
رابعا: الإعلان عن حدود هذه الأمة في دولتها الجديدة بحدود أراضي جماعاتها التي سميت بأسمائها ممن يقيمون في هذه الأرض.
خامسا: الإعلان عن التكافل بين الموسرين والمعسرين في الحياة.
سادسا: الالتزام بوحدة المسؤولية في الأمنين الداخلي والخارجي، وإن بينهم النصر على من داهمهم.
سابعا: توزيع الأعباء المالية في حالات الحرب والدفاع قبل تكوين الخزينة المشتركة للدولة.
ثامنا: تحريم الجريمة فيما بين أهل هذه الصحيفة والمعاقبة عليها بدون استثناء.
تاسعا: وأخيراً فقد نصت هذه الصحيفة على الشريعة التي تحسم النزاع فيما بين أهل الصحيفة في كل حدث يحدثونه ضد أحكام هذه الصحيفة، أو في كل اشتجار يخاف فساده، وإن مرد البت فيه إلى حكم الله وإلى حكم رسوله.
هذا عن المبادئ والقواعد العظمى، أما عن البنود المفصلة فقد جاءت هذه الصحيفة (الدستور) المباركة بخمسة عشر بندا مفصلا:
1 ـ "هذا كتاب من محمد رسول الله، بين المؤمنين والمسلمين من قريش، وأهل يثرب، ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم"
2 ـ ثم أعلن أولا وفي صدر الصحيفة: "أنهم أمة واحدة من دون الناس" وذلك تمتينا للروابط فيما بينهم، خاصة وقد أصبحوا على عداء سافر مع مشركي قريش.
3 ـ ثم ذكر طوائف المؤمنين من المهاجرين من قريش، ومن أهل يثرب، وقد عدد هذه الطوائف بأسمائها طائفة فطائفة، حتى بلغت تسع طوائف، ووزع فيما بينهم الأعباء المالية في حالتي تحمل الديات، وفداء الأسرى، وأعلن أن كل طائفة مسؤؤلة، أولا فيما بينها ماليا في هاتين الحالتين كما كانت عليه، وذلك على أساس من "التكافل بالمعروف ( أي من دون إرهاق) والعدل بين المؤمنين".
4 ـ ثم عمم هذا التكافل المالي بين جميع المؤمنين بقطع النظر عن طوائفهم عند الاقتضاء، وأضاف على حالتي تحمل الديات، وفداء الأسرى، حالة (المدين المعسر) من أي طائفة.
5 ـ ثم أوجب على المؤمنين كافة أن يكونوا يدا واحدة على من اعتدى منهم أو ظلم، أو أراد فسادا بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم.
6 ـ كما أعلن أن ذمة المؤمنين واحدة، وأنهم يجير عليهم أدناهم، أي أن من دخل في أمان أحدهم فقد دخل في أمان جميع المؤمنين، وأن ( المؤمنين بعضهم موالي بعض) أي أحلاف بعض.
7 ـ ثم أعلن أنه من تبعنا من اليهود فإن لهم النصر والمساواة بالمسلمين غير مظلومين ولا متناصرين عليهم.
8 ـ ثم أعلن فيما يتعلق بمشركي يثرب ممن شملته هذه الصحيفة أنه ليس له أن يجير مالا لقريش ولا نفسا.
9 ـ كما أعلن أن من قتل مؤمنا بلا جناية منه يقتل، إلا أن يرضى ولي المقتول بالدية
10 ـ وأنه لا يحل لمن أقر بما في هذه الصحيفة أن ينصر مرتكب جناية أو يؤويه.
11 ـ ثم أعلن في الجميع أن عليهم أن يرجعوا إلى الله وإلى محمد فيما اختلفوا فيه مهما كان الاختلاف.
12 ـ ثم أعلن أن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
13 ـ ثم ذكر طوائف اليهود التي التحقت بهذه الصحيفة، وعددها بأسمائها طائفة فطائفة حتى بلغت تسعا أيضا مع من تبعهم من حلفاء، وقال فيهم جميعا: "إنهم أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، إلا من ظلم، فإنه لا يهلك إلا نفسه وأهل بيته. وإن عليهم المناصرة على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن عليهم النصح والبر، أي الوفاء".
14 ـ وأخيرا، وتأكيدا لسيادة السلام بين أهل هذه الصحيفة أعلن محمد صلى الله عليه وسلم قدسية مدينة يثرب في أمنها، وقد كانت إلى ما قبل دخول الإسلام فيها مسرحا للنزاع المسلح بين أهلها، وقال الرسول في ذلك: "إن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة"، وجعل منها حرما ثانيا بعد مكة للأمن والاستقرار، وأرسل من أقام الأعلام المبنية على مداخلها البعيدة على مختلف رؤوس جبالها تذكيرا بهذه الأعلام الجديدة لكل داخل في المدينة بحدود القدسية الأرضية. وقد كان هذا التخطيط أول تخطيط مبتكر لإقامة حدود بلدية حديثة لمدينة ما، فصلها عن ريفها بدون إقامة أبواب ولا حصون، وإفهام كل قادم إلى يثرب أن شيئا جديدا حضاريا وإنسانيا قد قام فيها.
15 ـ ثم كرر الرسول صلى الله عليه وسلم في أواخر الصحيفة: "إنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث (جرم) أو اشتجار يخاف فأده فإن مرده (الحكم فيه) إلى الله وإلى محمد صلى الله عليه وسلم"، محددا لهم بذلك الشريعة التي تسوس حياتهم الجديدة بعد اليوم.
وبعد هذا كله لا يتورع السلفيون من ترديد قولهم: "الدستور بدعة"!! ولله في خلقه شؤون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم!