والتاريخ والحاضر مليئة جعبته بمن خلف هذا السلاح الفتاك من قتلى في حديقته الدامية فمن إبليس بداية المسيرة لهذا الداء، ولازال، وأقول إن معظم ما يختال الأغلبية في ضعف تدينهم، وسوء علاقاتهم هو نسبة عظيمة من هذا الداء الكامن في القلوب، - والعياذ بالله - والذي يأتي في قوالب عديدة تُسقط على سلوكيات مبررة بحفظ الهيبة، والوقار، و هي من تلبيس إبليس.
الغلو والتنطع والتشدد والتشديد،
ولا غرو بعدم الملامة على شخص أقر بذلك على ذاته في الأحكام كابن عمر - رضي الله عنه-، و بعض الزهاد والعلماء من السلف الصالح، ولكن أن يظهر ذلك حتى على إحكامه - ما يعتقده ويتورع به - على غيره، وإن السائل يسأل كيف لهذا أن يكون سبباً للضعف والانتكاس؟ إنا نذكره بما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم- (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، و أبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة). وأقول إن المصيبة من يعتقد الفظاظة في الأسلوب، وإهمال اللباقة و اللياقة في الحديث من الدين، وإن من تمنهج على هذه الطريقة ثم يجد نفسه في خانة الآحاد لا شك أنه سينتقد ما كان عليه، و بشكل آخر يرمي معتقده، و بيئته الدينية بالاتهامات الباطلة، والدين منه براء، وكم عرفنا من كانت له بدايات في سبيل الخير والإصلاح، وكان متزمتاً متنطعاً في الحكم على الناس ومجابهتهم، حتى بلغ السيل الزبى فتقهقر- والعياذ بالله - حتى وجد نفسه بعيداً عن القلوب والأجساد معاً..فأصبح في قيد من قيود الأرض ليرجع مع من هوى وسقط.
الانغماس في الدنيا وتبعاتها، والانهماك في المباحات،
واللهو والسفاسف، و الغرق في المرابحة والتجارة، وقلة التورع في المعاملات المالية لاسيما التي في دائرة الشبهة، والغرق الشديد في الرفاهية وعادة ذلك في المسكن والمركب والملبس والمأكل، وكل هذا مندرج تحت (إظهار النعمة المكتسبة) أو (عدم ترك الأبناء عالة يتكففون الناس)!. ولقد قال تعالى في ذم اليهود: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة:96].و عن أنس -رضي الله عنه -قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنان: حب المال، وطول العمر" (رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري). وقد أخبر المصطفى- صلى الله عليه وسلم-أمته كما روى البخاري ومسلم، قال: "فو الله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم".
(ودرجات الورع أربع:
الدرجة الأولى: درجة العدول عن كل ما تقتضي الفتوى تحريمه.
الدرجة الثانية: الورع عن كل شبهة لا يجب اجتنابها، ولكن يُستحب، ومن هذا قول المصطفى - صلى الله عليه وسلم: ((دع ما يريبك إلى ما يريبك)).
الدرجة الثالثة: الورع عن بعض الحلال مخافة الوقوع في الحرام.
الدرجة الرابعة: الورع عن كل ما ليس لله تعالى، وهو ورع الصديقين.
والتحقيق فيه أن الورع له أول وغاية، وبينهما درجات في الاحتياط، فكلما كان الإنسان أشد تشديداً، كان أسرع جوازاً على الصراط، وأخف ظهراً، وتتفاوت المنازل في الآخرة بحسب تفاوت هذه الدرجات في الورع، كما تتفاوت دركات النار في حق الظلمة بحسب درجات الحرام، فإن شئت فزد في الاحتياط، وإن شئت فترخص، فلنفسك تحتاط وعليها تترخص). بتصرف "مختصر منهاج القاصدين" ص101,100.
التعلق بالذوات والأماكن،
وهذا جعل بعض المتعلقين بالرموز حين يبعد هو، أو يذهب ذلك، فإنه يقدم دينه فداءً، ولا نعلم لمن كانت الشعارات الرنانة في دين الله بادئ الأمر، والمحافظة على الواجبات، والبعد عن المنكرات، ولمن كان البذل والعطاء ؟ حقاً إنها فتنة وقع فيها البعض، ومقالنا هنا هو ما قاله الصديق أبي بكر-رضي الله عنه- حين اُفتتن بعض الصحابة بموت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَاتَ وَأَبُو بَكْرٍ بِالسُّنْحِ، - قَالَ: إِسْمَاعِيلُ يَعْنِي بِالعَالِيَةِ - فَقَامَ عُمَرُ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: وَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ مَا كَانَ يَقَعُ فِي نَفْسِي إِلَّا ذَاكَ، وَلَيَبْعَثَنَّهُ اللَّهُ، فَلَيَقْطَعَنَّ أَيْدِيَ رِجَالٍ وَأَرْجُلَهُمْ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ " فَكَشَفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبَّلَهُ،قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يُذِيقُكَ اللَّهُ المَوْتَتَيْنِ أَبَدًا، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: أَيُّهَا الحَالِفُ عَلَى رِسْلِكَ، فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ جَلَسَ عُمَرُ، فَحَمِدَ اللَّهَ أَبُو بَكْرٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: أَلا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ، وَقَالَ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } [الزمر: 30]، وَقَالَ: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } [آل عمران: 144]، قَالَ: فَنَشَجَ النَّاسُ يَبْكُونَ...)) حقاً علينا أن نتتلمذ من هذا الموقف الرباني للتعلق بالله، بل والتوسيع على النفس في الضائقات و فقد العلماء والإخوان بذلك لا العكس.
إتباع الهوى، والاستسلام للشهوات،
وعادة ما يكون الهوى المتبع ضلال وغي ومخالفته عين الصواب والحق، قال الله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:175-176].ومن صور ذلك:
شهوة الفرج، ولاسيما النساء عند الرجال وكذا المردان، روى البخاري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء), وهذا عادة ما يصيب المرء عن طريق بصره، وربما غوي عن طريق شيء آخر؛ لأن مفاتيحه كثيرة، ومقدماته لا تُحصى قال تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32]، فالمعاين لقوله {وَلاَ تَقْرَبُوا} يجد البلاغة الوصفية في التحذير، حيث يشمل كل المقدمات والطرق المؤدية لهذه الفاحشة، غير أن أعظمها وأشدها إطلاق البصر الذي ينشأ عنه إطلاق الفكر،قال الحق - سبحانه - {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}[النور30]، ونحن لا نفرض قيداً على أبصارنا، ولكن يُجاهد المرء ذاته وليتلذذ بهذه العبادة العظيمة، وقد تواصى السلف الصالح بهذا الأمر، وكانوا على حرص شديد من فتنة النساء والمردان، قال الحسن بن ذكوان: لا تجالسوا أبناء الأغنياء فإن لهم صورًا كصور العذارى، فهم أشد فتنة من النساء.وقال بعض التابعين: ما أنا أخوف على الشاب الناسك من سبع ضار من الغلام الأمرد يقعد إليه. (أنظر الكبائرص42، للذهبي - دار الثريا).
أقول كم ذهب جراء شهوته صالحين كثر قدموا دنياهم على دينهم، وكانت بدايتها من رمقة بصر أشعلت فتيلة الهوى، وصادفت قلباً خاوياً فتملكته -والعياذ بالله-، وهذا يحصل كثيراً، ويزول والحمد لله بالتوبة والأوبة والرجوع، لا كما يصيب البعض من اليأس والقنوط.
حب التصدر، والشهرة والافتتان بالظهور الإعلامي.
وهذه فتنة عظيمة ومصيبة جلية، وتأتي على مداخل وطرق شتى قل من يسلم منها إلا من رحمه الله، عَنْ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَ فِلِدِينِهِ"، و إن الحصيف هو الذي ما يلبث أن يجاهد نفسه في مدافعة ذلك، وفي وقتنا هذا زاد الطين بلة أنه مع تعدد وسائل الإعلام، وزيادة فرص المناصب والوجاهات توجب على الأخيار عدم التراخي والتراجع لسد هذه الثغرات وملأها للمجتمع خيراً ونفعاً، ولكن الرزية أنها أصبحت فتنة عند البعض فحين وصل لذلك الكرسي، أو استلم ذاك المذياع، وربما شوهد عبر الأقمار الصناعية مقدماً أو مشاركاً وربما ضيفاً... أصبحت غاية له بدلاً من كونها وسيلة لنقل الخير، وقد يبذل القيم والنفيس لديه من أجل أن يقبل الناس صورته، وكلامه، وملبسه، وحتى ربما غير أفكاره وطريقة كلامه استجابة لمطامع البعض، وحتى يصل لما يريدون فيصل هو لما يُريد.
وقد كان السلف الصالح على بلوغ صيتهم ونفعهم ينفرون من الشهرة والتصدر. قال بشر بن الحارث: " ما اتقى الله من أحب الشهرة " سير أعلام النبلاء 11/216, وقال الإمام أحمد: " أريد أن أكون في شعب بمكة؛ حتى لا أُعرف، وقد بليت بالشهرة "، ولما بلغ الإمام أحمد أن الناس يدعون له قال: " ليته لا يكون استدراجاً "المرجع السابق 11/210-211.
وقال أحد الكتاب : (ولما كان المطلوب بالشهرة وانتشار الصيت هو الجاه والمنزلة في القلوب، وحب الجاه هو منشأ كل فساد، لذا كان الهرب والخوف من الشهرة من دلائل الإخلاص) (تعطير الأنفاس في الحديث عن الإخلاص).