قال تعالى: (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى) البقرة: 260. ذكر المفسرون لهذا السؤال أسباباً منها: أن الله عزوجل أجابه إلى ما سأل، فأمره أن يعمد إلى أربعة من الطيور، واختلفوا في تعيينها على أقوال، والمقصود حاصل على كل تقدير، فأمره أن يمزق لحومهن وريشهن، ويخلط ما أمر به، ثم أمر أن يدعوهن بإذن ربهن، فلما دعاهن جعل كل عضو يطير إلى صاحبه، وكل ريشة تأتي إلى أختها، حتى اجتمع بدن كل طائر على ما كان عليه، وهو ينظر إلى قدرة الذي يقول للشيء كن فيكون، فأتين إليه سعيا، ليكون أبين له، وأوضح لمشاهدته من أن يأتين طيراناً. ويقال: إنه أمر أن يأخذ رؤوسهن في يده فجعل كل طائر يأتي فيلقى رأسه فيتركب على جثته كما كان، فلا إله إلا الله. وقد كان إبراهيم عليه السلام يعلم قدرة الله تعالى على إحياء الموتى علماً يقينياً لا يحتمل النقيض، لكن أحب أن يشاهد ذلك عياناً، ويترقى من علم اليقين، إلى عين اليقين، فأجابه الله إلى سؤاله، وأعطاه غاية مأمولة.وقال تعالى: (يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون) آل عمران: 650. ينكر تعالى على أهل الكتاب من اليهود والنصارى في دعوى كل من الفريقين كون الخليل على ملتهم وطريقتهم، فبرأه الله منهم وبين كثرة جهلهم وقلة عقلهم في قوله (وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده). أي فكيف يكون على دينكم وأنتم إنما شرع لكم ما شرع بعده بمدد متطاولة ولهذا قال: (أفلا تعقلون) إلى أن قال: (ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين) فبين أنه كان على دين الله الحنيف، كما قال تعالى: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين) .. فنزه الله عزوجل خليله عليه السلام عن أن يكون يهودياً أون صرانياً وبين أنه إنما كان حنيفاً مسلماً ولم يكن من المشركين، ولهذا اقل تعالى (إن أولى الناس إبراهيم للذين اتبعوه) يعني الذين كانوا على ملته من أتباعه في زمانه، ومن تمسك بدينه من بعدهم: (وهذا النبي) يعني محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله شرع له الدين الحنيف الذي شرعه للخليل، وكمله الله تعالى له، وأعطاه ما لم يعط نبياً ولا رسولاً قبله.
قال البخاري: حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا هشام عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما راى الصور في البيت لم يدخل حتى أمر بها فمحيت، ورأى إبراهيم وإسماعيل بأيديهما الأزلام قط) فقال: قاتلهم الله! والله إن يستقسما بالأزلام قط) لم يخرجه مسلم وفي بعض ألفاظ البخاري: (قاتلهم الله! لقد علموا أن شيخنا لم يستقسم بها قط) فقوله (أمة) أي قدوة وإماماً مهتدياً داعياً إلى الخير، مخلصاً على بصيرة ( ولم يك المشركين. شاكراً لأنعمه) أي قائماً بشكر ربه بجميع جوارحه من قلبه ولسانه وأعماله (اجتباه) أي اختاره الله لنفسه واصطفاه لرسالته واتخذه خليلاً، وجمع له بين خيري الدنيا والآخرة.
قال تعالى: (ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفاً واتخذ الله إبراهيم خليلاً) النساء 125. يرغب الله تعالى في اتباع إبراهيم عليه السلام، لأنه كان على الدين القويم والصراط المستقيم، وقد قام بجميع ما أمره به ربه، ومدحه تعالى بذلك فقال: (وإبراهيم الذي وفى) النجم 37. ولهذا اتخذه الله خليلاً، والخلة هي: غاية المحبة. وهكذا نال هذه المنزلة خاتم الأنبياء، وسيد الرسل، محمد صلوات الله وسلامه عليه. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أيها الناس، إن الله إتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً). وقال أيضاً في آخر خطبة خطبها: (أيها الناس لو كنت منتخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبابكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله).
عن عكرمة عن ابن عباس قال: (جلس ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرونه، فخرج، حتى إذا دنا منهم سمعه يتذاكرون، فسمع حديثهم، إذا بعضهم يقول: عجب أن الله اتخذ من خلقه خليلاً فإبراهيم خليله؟!. وقال آخر: ماذا بأعجب من أن الله كلم موسى تكليماً. وقال آخر: فعيسى روح الله وكلمته وقال آخر: آدم اصطفاه الله. فخرج عليهم، فسلم وقال: قد سمعت كلامكم وعجبكم، إن إبراهيم خليل الله، وهو كذلك. وموسى كليمه، وهو كذلك، وعيسى روحه وكلمته، وهو كذلك. وآدم اصطفاه الله، وهو كذلك. ألا وإني حبيب الله، ولا فخر، ألا وإني أو شافع، وأول مشفع، ولا فخر. وأنا أول من يحرك حلق باب الجنة، فيفتحه الله، فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين. وأنا أكرم الأولين والآخرين يوم القيامة، ولا فخر).
عن عكرمة عن ابن عباس قال: أتنكرون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؟! لما اتخذ الله إبراهيم خليلاً ألقى في قلبه الوجل، حتى إن كان خفقان قلبه ليسمع من بعد كما يسمع خفقان الطير في الهواء. وقال عبيد بن عمير: كان إبراهيم عليه السلام يضيف الناس، فخرج يوماً يلتمس إنساناً يضيفه فلم يجد أحداً يضيفه، فرجع إلى داره فوجد فيها رجلاً قائماً، فقال: يا عبدالله، ما أدخلك داري بغير إذني؟! قال: دخلتها بإذن ربها. قال: ومن أنت؟ فقال أنا ملك الموت أرسلني ربي إلى عبد من عباده، أبشره بأن الله قد اتخذه خليلاً. قال: من هو؟ فوالله إن أخبرتني به ثم كان بأقصى البلاد لآتينه، ثم لا أبرح له جاراً حتى يفرق بيننا الموت. قال: ذلك العبد أنت. قال: أنا؟ قال: نعم. قال: فبم اتخذني ربي خليلاً؟. قال: بأنك تعطي الناس ولا تسألهم، رواه ابن أبي حاتم. وقد ذكره الله تعالى في القرآن كثيراً في غير ما موضع بالثناء عليه والمدح له فقيل: إنه مذكور في خمسة وثلاثين موضعاً، منها خمسة عشر في البقرة وحدها، وهو أحد أولي العزم الخمسة المنصوص على أسمائهم تخصيصاً من بين سائر الأنبياء في آيتي الأحزاب والشورى، وهما قوله تعالىك (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً). الأحزاب 7 ثم هو أشرف أولي العزم بعد محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي وجده عليه السلام في السماء السابعة مسنداً ظهره بالبيت المعمور الذي يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة.
عن ابن عباس: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن) البقرة 124. قال: إبتلاه الله بالطهارةك خمس في الرأس، وخمس في الجسد، في الرأس: قص الشارب، والمضمضة، والسواك، والاستنشاق، وفوق الرأس. وفي الجسد: تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وغسل أثر الغائط والبول بالماء.
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط).
والمقصود أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يشغله القيام بالإخلاص لله عزوجل وخشوع العبادة العظيمة عن مراعاة مصلحة بدنه، وإعطاء كل عضو ما يستحقه من الإصلاح والتحسين، وإزالة ما يشين من زيادة شعر أو ظفر، أو وجود قلح (صفرة وخضرة تعلو الأسنان) أو وسخ. فهذا من جملة قوله تعالى في حقه من المدح العظيم: (وإبراهيم الذي وفى) عن عكرمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة قصراً - أحسبه قال - من لؤلؤة، ليس فيه خصم ولا هي (كسر ولا شق) أعده الله لخليله إبراهيم عليه السلام نزلاً).
قال الإمام أحمد: حدثنا يونس وحجين قالا حدثنا الليث عن أبي الزبير عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عرض علي الأنبياء، فإذا موسى ضرب من الرجال كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى ابن مريم فإذا أقرب من رأيت به شبهاً عروة بن مسعود، ورأيت غبراهيم فإذا أقرب من رأيت به شبهاً دحية). تفرد به الإمام أحمد من هذا الوجه وبهذا اللفظ. وقال أحمدك حدثنا أسود بن عامر حدثنا إسرائيل عن عثمان (يعني ابن المغيرة) عن مجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رايت عيسى ابن مريم وموسى وإبراهيم، فأما عيسى فأحمر جعد عريض الصدر، وأما موسى فآدم جسيم، قالوا له: فإبراهيم؟ قال: انظروا إلى صاحبكم). يعني نفسه.
ذكر ابن جرير في تاريخه أن مولده كان في زمن النمرود بن كنعان. وهو فيما قيل: الضحاك الملك المشهور، الذي يقال:
إنه ملك ألف سنة، وكان غاية الغشم والظلم. وذكر بعضهم أنه من بني راسب الذين بعث إليهم نوح عليه السلام وإنه كان إذ ذاك ملك الدنيا وذكروا أنه طلع نجم أخفى ضوء الشمس والقمرن فهال ذلك أهل ذلك الزمان، وفزع نمرود، فجمع الكهنة والمنجمين، وسألهم عن ذلك؟ فقالوا: يولد مولود في رعيتك، يكون زوال ملكك على يديه، فأمر عند ذلك بمنع الرجال عن النساء، وأن يقتل المولودون من ذلك الحين. فكان مولد إبراهيم الخليل في ذلك الحين، فحماه الله عزوجل وصانه من كيد الفجار، وشب شباباً باهراً، وأنبته الله نباتاً حسناً، حتى كان من زمره ما تقدم. وكان مولده بالسوس. وقيل ببابل. وقيل: بالسواد من ناحية كوثي (اسم لثلاثة مواضع، موضعان بسواد العراق في أرض بابل هما: كوثي الطريق. والموضع الثالث: منزل بني عبدالدار بمكة، واختلف الناس في أيهما ولد إبراهيم عليه السلام؟ وقد رجح بعضهم أنه ولد بكوثي ربي بالعراق، وبها مشهده عليه السلام) وتقدم عن ابن عباسك أنه ولد ببرزة شرقي دمشق، فلما أهلك الله نمرود على يديه وهاجر إلى حران ثم إلى أرض الشام وأقام ببلاد إيليا وولد له إسماعيل وإسحاق، وماتت سارة قبله بقرية حبرون التي في أرض كنعان ولها من العمر مائة وسبع وعشرون سنة فيما ذكر أهل الكتاب فحزن عليها إبراهيم عليه السلام، ورثاها رحمها الله، واشترى من رجل من بني حيث يقال له: عفرون بن صخر مغارة بأربع مائة مثقال ودفن فيها سارة هنالك. قالوا: ثم خطب إبراهيم على إبنه اسحاق فزوجه رفقاً بنت بتوئيل بن ناحور بن تارح، وبعث مولاه فحملها من بلادها ومعها مرضعتها وجواريها على الإبل.
روى ابن عساكر عن غير واحد من السلف عن أخبار أهل الكتاب في صفة مجيء ملك الموت إلى إبراهيم عليه السلام أخباراً كثيرة، الله أعلم بصحتها وقد قيل: أنه مات فجأة وكذا داود وسليمان. الذي ذكره أهل الكتاب وغيرهم خلاف ذلك: قالوا: ثم مرض إبراهيم عليه السلام ومات عن مئة وخمس وسبعين. وقيل: وتسعين سنة. دفن في المغارة المذكورة التي كانت بحبرون الحيثى، عند امرأته سارة، التي في مزرعة عفرون الحيثي. وتولى دفنه إسماعيل وإسحاق، صلوات الله وسلامه عليهما، وقد ورد ما يدل أنه عاش مائتي سنة، كما قاله ابن الكلبي. وقال أبو حاتم بن حبان في صحيحه: أنبأنا المفضل بن محمد الجندي بمكة حدثنا علي بن زياد اللخمي حدثنا أبو قرة عن ابن جريج عن يحيى بن سعيد بن عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اختتن إبراهيم بالقدوم وهو ابن عشرين ومائة سنة، وعاش بعد ذلك ثمانين سنة) وقد رواه الحافظ ابن عساكر من طريق عكرمة بن إبراهيم وجعفر بن عون العمري عن يحيى بن سعيد عن سعيد عن أبي هريرة موقوفاً.
ثم قال ابن حبان: ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن رفع هذا الخبر، وهم: أخبرنل محمد بن عبدالله بن الجنيد حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن ابن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اختتن إبراهيم حين بلغ مائة وعشرين سنة، وعاش بعد ذلك ثمانين سنة واختتن بقدوم) وقد رواه الحافظ ابن عساكر من طريق يحيى بن سعيد عن ابن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد أتت عليه ثمانون سنة. ثم روى ابن حبان عن عبدالرزاق أنه قال: القدوم: اسم القرية. قلت: الذي في الصحيح: أنه اختتن وقد أتت عليه ثمانون سنة وفي رواية: وهو ابن ثمانين سنة. وليس فيهما تعرض لما عاش بعد ذلك. والله اعلم. وقال محمد ابن إسماعيل الحساني الواسطي زاد في تفسير وكيع عنه فيما ذكره من الزيادات حدثنا أبو معاوية عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: كان إبراهيم أول من تسرول وأول من فرق، وأول من استحد وأول من اختتن بالقدوم، وهو ابن عشرين ومائة سنة، وعاش بعد ذلك ثمانين سنة، وأول من قرى الضيف، وأول من شاب، هكذا رواه موقوفاً وهو أسبه بالمرفوع خلافاً لإبن حبان. والله أعلم.
وقال مالك: عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: كان إبراهيم أول من أضاف الضيف، وأول الناس اختتانا وأول الناس قص شاربه، وأول الناس رأى الشيب فقال: يا رب ما هذا؟ فقال الله: (وقار) فقال: يا رب زدني وقاراً. وزاد غيرهماك وأول من قص شاربه، وأول من استحد، وأول من لبس السراويل. فقبره وقبر ولده إسحاق وقبر ولد ولده يعقوب في المربعة التي بناها سليمان بن داود عليه السلام، ببلد حبرون، وهو البلد المعروف بالخليل اليوم. وهذا تلقى بالتواتر أمة بعد أمة، وجيل بعد جيل، ومن زمن بني إسرائيل، وإلى زماننا هذا، أن قبره بالمربعة تحقيقاً. فأما تعيينه منها: فليب فيه خبر صحيح عن معصوم، فينبغي أن تراعي تلك المحلة، وأن تحترم احترام مثلها، وأن تبجل، وأن تجل أن يداس في أرجائها، خشية أن يكون قبر الخليل أو أحد من أولاده الأنبياء تحتها. أول من ولد لإبراهيم عليه السلام إسماعيل من هاجر القبطية المصرية، ثم ولد له إسحاق من سارة بنت عن الخليل، ثم تزوج بعدها قنطوراً بنت يقطن الكنعانية فولدت له ستة: مدين وزمران وسرج ويقشان ونشق، ولم يسم السادس، ثم تزوج بعدها حجون بنت أمين فولدت له خمسة: كيسان وسورج وأميم ولوطان ونافس
انتهى