قال ابن الجوزي – رحمه الله تعالى - :
وقد لبّس إبليسُ على الكاملين في العلوم ، فيسهرون ليلهم ويدأبون نهارهم في تصانيف العلوم ، ويريهم إبليس أنّ المقصود نشر الدين ، ويكون مقصودهم الباطن انتشار الذكر وعلو الصيت ، والرياسة ، وطلب الرحلة من الآفاق إلى المصنف . وينكشف هذا التلبيس ، بأنه لو انتفع بمصنفاته الناس ، من غير تردد[ إليه ] ، أو قُرِئت على نظيره في العلمِ ، فرح بذلك إن كان مراده نشر العلم ، وقد قال بعض السلف : ما من علمٍ عَلَّمْتهُ إلا أحببت أن يستفيده الناس من غير أن ينسب إليَّ .
ومنهم من يفرح بكثرة الأتباع ، ويلبّس عليه إبليس بأن هذا الفرح لكثرة طلاب العلم ، وإنما مراده كثرة الأصحاب واستطارة الذكر ، ومِنْ ذلك العُجب بكلماتهم وعلمهم ، وينكشف هذا التلبيس بأنه لو انقطع بعضهم إلى غيره ممن هو أعلمُ منه ثَقُلَ ذلك عليه وما هذه صفة المخلص في التعليم ! لأن مَثَلَ المخلص مثل الأطباء الذين يداوون المرضى لله سبحانه وتعالى ، فإذا شفي بعض المرضى على يد طبيبٍ منهم فرح الآخر ؛ وقد ذكرنا آنفًا حديث ابن أبي ليلى ونعيده بإسناد آخر عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : أدركت عشرين ومائة من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم - من الأنصار ما منهم رجل يسأل عن شيء إلا وَدَّ أن أخاه كفاه ، ولا يحدث بحديثٍ إلا وَدَّ أن أخاه كفاه .اهـ
( تلبيس إبليس ) ص 159-160
وقال أيضًا :
و إني تدبرت أحوال أكثر العلماء والمتزهدين ، فرأيتهم في عقوباتٍ لا يحسون بها ، ومعظمها من قبل طلبهم للرياسة .
فالعالم منهم يغضب إن رُدَّ عليه خطؤه ، والواعظ مُتْصَنعٌ بوعظه ، و المتزهد منافق أو مُراء .
فأول عقوباتهم : إعراضهم عن الحق شغلاً بالخلق .
و من خَفِيِّ عقوباتهم : سلب حلاوة المناجاة ، ولذَّة التعبُّد ؛ إلا رجال مؤمنون ، ونساء مؤمنات ، يحفظ الله بهم الأرض ، بواطنهم كظواهرهم ، بل أجلى ! وسرائرهم كعلانيتهم ، بل أحلى ! وهِمَمُهُم عند الثريا بل أعلى .
إن عُرِفوا تنكّروا ، وإن رُئيت لهم كرامة أنكروا .
فالناس في غَفَلاتهم ، وهم في قَطْعِ فَلاَتهم ، تحبهم بقاع الأرض ، وتفرح بهم أملاك السماء . اهـ (صيد الخاطر ) ص 49
منقول للفائدة