قال موسى عليه السلام: (واجعل لي وزيراً من أهلي. هارون أخي. اشدد به أزري. وأشركه في أمري. كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً إنك كنت بنا بصيراً. قال قد أوتيت سؤلك يا موسى) (طه 29 - 36) أي قد أجبناك إلى جميع ما سألت، إلى أخيه فأوحى إليه، وهذا جاه عظيم، قال الله تعالى: (وكان عند الله وجيهاً) (الأحزاب 69) وقال تعالى: (ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبياً) (مريم 53) وقد سمعت أم المؤمنين عائشة رجلاً يقول لأناس وهم سائرون في طريق الحج: (أي أخ أمن على أخيه)؟ فسكت القوم، فقالت عائشة لمن حول هودجها: هو موسى بن عمران، حين شفع في أخيه هارون فأوحى إليه قال الله تعالى: (ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبياً).
فأتيا فرعون فقالا له ذلك، وبلغاه ما أرسلا به من دعوته إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له. وأن يفك أسارى بني إسرائيل من قبضته وقهره وسطوته، وتركهم يعبدون ربهم حيث شاؤوا، ويتفرغون لتوحيده ودعائه والتضرع لديه. فتكبر فرعون في نفسه وعتا وطغى، ونظر إلى موسى بعين الازدراء والتنقص قائلاً له: (ألم نربك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين) (الشعراء 18) أي ما أنت الذي ربيناه في منزلنا، وأحسنا إليه، وأنعمنا عليه مدة من الدهر. وهذا يدل على أن فرعون الذي فر منه مات في مدة مقامه بمدين، وأن الذي بعث إليه فرعون آخر. وقوله (وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين) أي وقتلت الرجل القبطي وفررت منا وجحدت نعمتنا (قال فعلتها إذاً وأنا من الضالين) (الشعراء 20) أي قبل أن يوحى إلي وينزل علي (ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكماً وجعلني من المرسلين) (الشعراء 21) ثم قال مجيباً عما امتن به من التربية والاحسان إليه (وتلك نعمة تمنهاعلي أن عبدت بني إسرائيل) أي وهذه النعمة التي ذكرت أنك أحسنت إلي وأنا رجل من بني إسرائيل، تقابل ما استخدمت هذا الشعب العظيم بكامله، واستعبدتهم في أعمالك وخدمك وأشغالك.
يذكر تعالى ما كان بين فرعون وموسى من المقاولة والمحاجة والمناظرة وما أقامه الكليم على فرعون اللئيم من الحجة العقلية المعنوية ثم الحسية وذلك أن فرعون قبحه الله إله أظهر جحد الصانع تبارك وتعالى وزعم أنه الإله (فحشر فنادى. فقال أنا ربكم الأعلى) (النازعات 23 - 24) وقال: (يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري) وهو في هذه المقالة معاند يعلم أنه عبد مربوب وأن الله هو الخالق البارئ المصور الإله الحق كما قال تعالى: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً فانظر كيف كان عاقبة المفسدين) (النمل 14) ولهذا قال لموسى عليه السلام على سبيل الإنكار لرسالته والإظهار أنه ما ثم رب أرسله (وما رب العالمين) لأنهما قالا له: (إنا رسول رب العالمين) فكأنه يقول لهما: ومن رب العالمين الذي تزعمان أنه أرسلكما وابتعثكما؟ فأجابخ موسى قائلاً: (رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين) (الشعراء 24) يعني رب العالمين خالق هذه السماوات والأرض المشاهدة وما بينهما من المخلوقات المتجددة من السحاب والرياح والمطر والنبات والحيوانات التي يعلم كل موقن أنها لم تحدث بأنفسها ولابد لها من موجد ومحدث وخالق وهو الله الذي لا 'له إلا هو رب العالمين (قال) أي فرعون لمن حوله من امرائه ومرازبته (رؤساء قومه) وزرائه على سبيل التهكم والتنقص لما قرره موسى عليه السلام: (ألا تسمعون) يعني كلامه هذا. قال موسى مخاطباً له ولهم: (ربكم ورب آبائكم الأولين) أي هو الذي خلقكم والذين من قبلكم من الآباء والأجداد والقرون السالفة في الآباء فإن كل أحد يعلم أنه لم يخلق نفسه ولا أبوه ولم يحدث من غير محدث وإنما أوجده وخلقه رب العالمين.
هذان المقامان هما المذكوران في قوله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) (فصلت 53). ومع هذا كله لم يستفق فرعون من رقدته ولا نزع عن ضلالته بل استمر على طغيانه وعناده وكفرانه (قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون. قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون) أي هو المسخر لهذه الكواكب الزاهرة المسير للأفلاك الدائرة خالق الظلام والضياء ورب الأرض والسماء رب الأولين والآخرين خالق الشمس والقمر الكواكب السائرة والثوابت الحائرة خالق الليل بظلامه والنهار بضيائه والكل تحت قهره وتسخيره وتسييره سائرون وفي فلك يسبحون يتعاقبون في سائر الأوقات ويدورون فهو تعالى الخالق المالك المتصرف في خلقه بما يشاء. فلما قامت الحجج على فرعون وانقطعت شبهه ولم يبق له قول سوى العناد عدل إلى استعمال سلطانه وجاهه وسطوته (قال لإن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين قال أولو جئتك بشيء مبين. قال فات به إن كنت من الصادقين. فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين. ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين) (الشعراء 28 - 33). وهذان هما البرهانان اللذان أيده الله بهما وهما العصا واليد وذلك مقام أظهر فيه الخارق الذي بهر به العقول والأبصار حين ألقى عصاه فغذا هي ثعبان مبين أي عظيم الشكل بديع في الضخامة والهول والمنظر العظيم الفظيع الباهر حتى قيل: عن فرعون لما شاهد ذلك وعاينه أخذه رهب شديد وخوف عظيم وبحيث أنه حصل له إسهال عظيم أكثر من أربعين مرة في يوم، وكان قبل ذلك لا يتبرز في كل أربعين يوماً إلا مرة واحدة فانعكس عليه الحال. وهكذا لما أدخل موسى عليه السلام يده في جيبه واستخرجها أخرجها وهي كفلقة القمر تتلألأ نوراً بهر الأبصار فإذا أعادها إلى جيبه رجعت إلى صفتها الأولى، ومع هذا كله لم ينتفع فرعون - لعنه الله - بشيء من ذلك بل استمر على ما هو عليه وأظهر أن هذا كله سحر وأراد معارضته السحرة فأرسل يجمعهم من سائر مملكته ومن في رعيته وتحت قهره ودولته كما سيأتي بسطه وبيانه في موضعه من إظهار الحق المبين والحجة الباهرة القاطعة على فرعون وملائه وأهل دولته وملته. ولله الحمد والمنة. قال تعالى في سورة طه: (فلبث سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى واصطنعتك لنفسي. إذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا قي ذكري إذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى. قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا وأن يطغى. قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى) طه 40 - 46.
يقول تعالى مخاطباً لموسى فيما كلمه به ليلة أوحي إليه وأنعم بالنبوة عليه وكلمه منه إلأيه: قد كنت مشاهداً لك وأنت في دار فرعون وأنت تحت كنفي وحفظي ولطفي ثم أخرجتك من أرض مصر إلى أرض مدين بمشيئتي وقدرتي وتدبيري فلبث فيها سنين (ثم جئت على قدر) أي منى لذلك فوافق ذلك تقديري وتسيري (واصطنعتك انفسي) أي اصطفيتك لنفسي برسالتي وكلامي (اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري) يعني ولا تفترا في ذكري إذ قدمتما عليه ووفدتما إليه، فإن ذلك عون لكما علىمخاطبته ومجاوبته وإهداء النصيحة إليه وإقامة الحجة عليه. وقد جاء في بعض الأحاديث: (يقول الله تعالى: إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه) وقال تعالى: (يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً) الأنفال 45. ثم قال تعالى: (اذهبا إلى فرعون إنه طغى. فقولا قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى) طه 43 - 44. وهذا من حلمه تعالى وكرمه ورأفته ورحمته بخلقه مع علمه بكفر فرعون وعتوه وتجبره وهو إذ ذاك أردى خلقه وقد بعث إليه صفوته من خلقه في ذلك الزمان ومع هذا يقول لهما ويأمرهما أن يدعواه إليه بالتي هي أحسن برفق ولين، ويعاملاه معاملة من يرجو أن يتذكر أو يخشى كما قال لرسوله: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) وقال تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم) العنكبوت 46. قال الحسن البصري: (فقولا قولاً لينا) اعذرا إليه قولاً له: إن لك رباً ولك معاداً وإن بين يديك جنة وناراً.