اختلفوا في هذا الشيخ من هو ؟ فقيل: هو شعيب عليه السلام . وهذا هو المشهور عند كثيرين ومما نص عليه الحسن البصري ومالك بن أنس وجاء مصرحا به في حديث ، و لكن في اسناده نظر ، وصرح طائفة بأن شعيبا عليه السلام عاش عمرا طويلا بعد هلاك قومه ، حتى أدركه موسى عليه السلام وتزوج بابنته . وروى ابن أبي حاتم وغيره عن الحسن البصري : أن صاحب موسى عليه السلام هذا اسمه شعيب ، وكان سيد الماء ، لكن ليس بالنبي صاحب مدين وقيل إنه ابن أخي شعيب وقيل ابن عمه وقيل رجل مؤمن من قوم شعيب ، وقيل رجل اسمه يثرون ، هكذا هو في كتب أهل الكتاب : يثرون كاهن مدين أي كبيرها وعالمها . قال ابن عباس وأبو عبيده بن عبد الله: اسمه يثرون ، زاد أبو عبيده وهو ابن أخو شعيب . زاد ابن عباس : صاحب مدين . بعدما أضافه وأكرم مثواه فقص عليه ما كان من أمره ، بشره بأنه قد نجى فعند ذلك قالت احدى البنتين لأبيها : يا أبي استأجره - أي لرعي غنمك- ثم مدحته بأنه قوي أمين . قال عمر وابن عباسوشريح القاضي وأبو مالك وقتاده ومحمد ابن اسحاق وغير واحد : لما قالت ذلك قال لها أبوها : وما أعلمك بهذا . فقالت : أنه رفع صخرة لا يطيق رفعها الا عشرة ،وأنه لما جئت معه تقدمت أمامه فقال كوني من ورائي ، فإذا اختلف الطريق فاقذفي لي بحصاة أعلم بها كيف الطريق . قال ابن مسعود: أفرس الناس ثلاثة : صاحب يوسف حين قال لإمرأته أكرمي مثواه ، وصاحبة موسى حين قالت : (يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين) ، وأبو بكر حين استخلف عمر بن الخطاب.(قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثمان حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين) فاستدل بهذا جماعة من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله على صحة ما إذا باعه هذين العبدين أو الثوبين ونحو ذلك أنه يصح ، لقوله : (احدى ابنتي هاتين ) وفي هذا نظر ، لأن هذه مراوضة لا معاقدة . قال البخاري : حدثنا محمد بن عبد الرحيم حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا مروان بن شجاع عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال: سألني يهودي من أهل الحيرة : أي الأجلين قضى موسى ؟ فقلت : لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله : فتقدمت فسألت ابن عباس ، فقال : قضى أكثرهما وأطيبهما ، إن رسول الله إذا قال فعل .تفرد به البخاري من هذا الوجه وقد رواه النسائي في حديث الفتون من طريق القاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير . وقد رواه ابن جرير عن أحمد بن محمد الطوسي وابن أبي حاتم عن أبيه كلاهما عن الحميدي عن سفيان بن عيينه حدثني ابراهيم بن يحيى بن أبي يعقوب عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " سألت جبريل أي الأجلين قضى موسى ؟ قال : أتمهما وأكملهما " وقد رواه البزار عن أحمد بن أبان القرشي عن سفيان بن عيينه عن ابراهيم بن أعين عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره . وقد رواه سنيد عن حجاج عن ابن جريج عن مجاهد مرسلا : أن رسول الله سأل عن ذلك جبريل ، فسأل جبريل إسرافيل فسأل إسرافيل الرب عز وجل فقال : أبرهما وأوفاهما . ورواه ابن جرير من طريق محمد بن كعب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي الأجلين قضى موسى ؟ قال : أوفاهما وأتمهما . عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي الأجلين قضى موسى ؟ قال : أوفاهما وأبرهما .قال : وإن سئلت أي المرأتين تزوج ؟ فقل الصغرى منهما .
أراد موسى عليه السلام فراق شعيب سأل امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به. فأعطاها ما ولدت من غنمه من قالب لون من ولد ذلك العام، وكانت غنمه سوداً حساناً، فانطلق موسى عليه السلام إلى عصا قسمها من طرفها، ثم وضعها في أدنى الحوض، ثم أوردها فسقاها، ووقف موسى عليه السلام بإزاء الحوض فلم يصدر منها شاة إلا ضرب جنبها شاة شاة. قال: فائتمنت، وانثت، ووضعت كلها قوالب ألوان، إلا شاة أو شاتين ليس فيها فشوش، ولا ضبوب، ولا عزوز، ولا ثعول، ولا كموش تفوت الكف. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو اقتحمتم الشام وجدتم بقايا تلك الغنم) وهي السامرية. قال ابن لهيعة: الفشوش: واسعة السخب. والضبوب: طويلة الضرع تجره. والعزوز: ضيقة السخب، الثعول: الصغيرة الضرع كالحلمتين. والكموش: التي لا يحكم الكف على ضرعها لصغره. وفي صحة رفع هذا الحديث نظر، وقد يكون موقوفاً. كما قال ابن جرير حدثنا محمد بن المثنى حدثنا معاذ بن هشام حدثنا أبي عن قتادة حدثنا أنس بن مالك قال: (لما دعا نبي الله موسى صاحبه إلى الأجل الذي كان بينهما، قال له صاحبه: كل شاة ولدت على لونها فلك ولدها، فعمد فوضع خيالاً على الماء ، فلما رأت الخيال فزعت، فجالت جولة، فولدن كلهن بلق (بلقات الشاة: كان فيها سواد وبياض) إلا شاة واحدة، فذهب بأولادهن ذلك العام).
تقدم أن موسى قضى أتم الأجلين وأكملهما، وقد يؤخذ هذا من قوله: (فلما قضى موسى الأجل) وعن مجاهد: أنه أكمل عشراً وعشراً بعدها. وقوله: (وسار أهله) أي من عند صهره ذاهباً. فيما ذكره غير واحد من المفسرين، وغيرهم: أنه اشتاق إلى أهله، فقصد زيارتهم ببلاد مصر في صورة متحف، فلما سار بأهله ومعه ولدان منهم وغنم قد استفادها مدة مقامه قالوا، واتفق ذلك في ليلة مظلمة باردة وتاهوا في طريقهم، فلم يهتدوا إلى السلوك في الدرب المألوف، وجعل يوري زناده فلا يورى شيئاً، واشتد الظلام والبرد، فبينما هو كذلك إذ أبصر عن بعد ناراً تأجج في جانب الطور - وهو الجبل الغربي منه عن يمينه - فقال لأهله: امكثوا إني آنست ناراً، وكأنه - والله أعلم - رآها دونهم، لأن هذه النار هي نور في الحقيقة، ولا يصلح رؤيتها لكل أحد. (لعلي آتيكم منها بخبر) أي لعلي استعلم من عندها عن الطريق (أو جذوة من النار لعلكم تصطلون) فدل على أنهم كانوا قد تاهوا عن الطريق في ليلة باردة ومظلمة، لما قصد موسى تلك النار التي رآها فانتهى إليها، وجدها تأجج في شجرة خضراء من العوسج (الشوك) وكل ما لتلك النار في اضطرام، وكل ما لخضرة تلك الشجرة في ازدياد، فوقف متعجباً، وكانت تلك الشجرة في لحف جبل غربي منه عن يمينه، كما قال تعالى: (وما كنت بجانب الغربي إذ اقتضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين) القصص 44. وكان موسى في واد اسمه طوى، فكان موسى مستقبل القبلة وتلك الشجرة عن يمينه من ناحية الغرب، فناداه ربه بالواد المقدس طوى، فأمر بخلع نعليه تعظيماً وتكريماً وتوقيراً لتلك البقعة المباركة ولا سيما في تلك الليلة المباركة.
وعند أهل الكتاب: أنه وضع يده على وجهه من شدة ذلك النور، مهابة له وخوفاً على بصره، ثم خاطبه تعالى كما يشاء قائلاً له: إنني أنا الله رب العالمين. (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة إلا له. ثم أخبره أن هذه الدنيا ليست بدار قرار، وإنما الدار الباقية يوم القيامة، التي لابد من كونها ووجودها (لتجزي كل نفس بما تسعى) أي من خير وشر، وحضه وحثه على العمل لها، ومجانبة من لا يؤمن بها ممن عصى مولاه واتبع هواه.
قال تعالى له مخاطباً ومؤانساً ومبيناً له أنه القادر على كل شيء الذي يقول للشيء كن فيكون: (وما تلك بيمينك يا موسى) أي ما هذه عصاك التي تعرفها منذ صحبتها؟ (قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها غنمي ولي فيها مآرب أخرى) أي بل هذه عصاي التي أعرفها وأتحققها (قال ألقها يا موسى. فألقاها فإذا هي حية تسعى) طه 19 - 20. وهذا خارق عظيم وبرهان قاطع على أن الذي يكلمه يقول للشيء كن فيكون. وأنه الفعال بالاختيار.
وعند أهل الكتاب: أنه سأل برهاناً على صدقه عند من يكذبه من أهل مصر. فقال له الرب عزوجل: ما هذه التي في يدك قال: عصاي، قال: ألقها إلى الأرض (فألقاها فإذا هي حية تسعى) فهرب موسى من أمامها فأمره الرب عزوجل أن يبسط يده ويأخذها بذنبها، فلما استمكن منها ارتدت عصا في يده وقد قال الله تعالى في الآية الأخرى: (وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبراً ولم يعقب) أي قد صارت حية عظيمة لها ضخامة هائلة وأنياب تصك وهي مع ذلك في سرعة حركة الجان وهو ضرب من الحيات، يقال الجان والجنان وهو لطيف ولكن سريع الاضطراب والحركة جداً فهذه جمعت الضخامة والسرعة الشديدة فلما عاينها موسى عليه السلام ولى مدبراً أي هارباً منها لأن طبيعته البشرية تقتضي ذلك (ولم يعقب) أي ولم يلتفت (فناداه ربه) قائلاً له: (يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين) فلما رجع أمره الله تعالى أن يمسكها: (قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى. فيقال: إنه هابها شديداً فوضع يده في كم مدرعته، ثم وضع يده في وسط فمها، وعند أهل الكتاب: بذنبها فلما استمكن منها إذا هي قد عادت كما كانت عصا ذات شعبتين، فسبحان القدير العظيم رب المشرقين والمغربين، ثم أمره تعالى بإدخال يده في جيبه، ثم أمره بنزعها فإذا هي تتلألأ كالقمر بياضاً من غير سوء - أي من غير برص ولا بهق - ولهذا قال: (اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب) قيل: معناه إذا خفت فضع يدك على فؤادك يسكن جأشك، وهذا وإن كان خاصاً به إلا أن بركة الإيمان به حق بأن ينفع من استعمل ذلك على وجه الاقتداء بالأنبياء. يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله وكليمه موسى عليه السلام، في جوابه لربه عزوجل، حين أمره بالذهاب إلى عدوه الذي خرج من ديار مصر فراراً من سطوته وظلمه، حين كان من أمره ما كان في قتل ذلك القبطي، ولهذا (قال رب إني قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلون. وأخي هارون هو أفصح مني لساناً فأرسله معي ردءاً يصدقني إني أخاف أن يكذبون). أي اجعله معي معيناً وردءاً ووزيراً يساعدني ويعينني على أداء رسالتك إليهم، فإنه أفصح مني لساناً وأبلغ بياناً. قال الله تعالى مجيباً له إلى سؤاله: (سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً) أي برهاناً (فلا يصلون إليكما) أي فلا ينالون منكما مكروهاً بسبب قيامكما بآياتنا. وقيل: ببركة آياتنا (أنتما ومن اتبعكما الغالبون) وقال في سورة طه: (اذهب إلى فرعون إنه طغى. قال رب اشرح لي صدي ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي) طه 24 - 28. قيل: أنه أصابه في لسانه لثغة، بسبب تلك الجمرة التي وضعها على لسانه التي كان فرعون أراد اختبار عقله، حين أخذ بلحيته وهو صغير فهم بقتله، فخافت عليه آسية وقالت: إنه طفل، فاختبره بوضع تمرة وجمرة بين يديه، فهم بأخذ التمرة فصرف الملك يده إلى الجمرة، فأخذها فوضعها على لسانه، فأصابته لثغة بسببها، فسأل زوال بعضها بمقدار ما يفهمون قوله، ولم يسال زوالها بالكلية.
قال الحسن البصري: والرسل إنما يسألون بحسب الحاجة، ولهذا بقيت في لسانه بقية، ولهذا قال فرعون قبحه الله فيما زعم إنه يعيب به الكليم: (ولا يكاد يبين) أي يفصح عن مراده، ويعبر عما في ضميره وفؤاده.