( 33 ) « اللفظ جسم ، وروحه المعنى ، وارتباطه كارتباط الروح بالجسم : يضعف بضعفه ، ويقوى بقوته ، فإذا سلم المعنى واختل بعض اللفظ كان نقصاً للشعر وهجنة عليه .. فإن اختل المعنى كله وفسد بقي اللفظ مواتاً لا فائدة فيه » (1) . ويبدو لي أن هذا النوع من التعقيد والتقرير أقرب إلى القصد والاعتدال منه إلى التمحل والتعقيد ، فالصورة عند ابن رشيق لا تكون واضحة الرؤية خصبة التخطيط إلا من خلال عنايتها باللفظ لتجعله الوسيط الدال على المعنى المراد لأكيد الصلة ووشيج النسب بينهما « لأن التفكير في اللفظ والمعنى تفكير جملي يفكر فيه الأديب مرة واحدة وبحركة عقلية واحدة ، فإذا رتبت المعاني في الذهن ترتيباً منطقياً ، وإذا تحددت في الفكر تحديداً يجمعه ترابط المعاني وتداعيها ، هذا الترابط وهذا التداعي الذي يرضاه المنطق أو يرضاه حسن الأديب ، انحدرت هذه المعاني على اللسان بألفاظها الملائمة بها خطابة ، وانحدرت على القلم بألفاظها المطاوعة لها كتابة وشعراً من غير تهذيب واختيار لهذه الألفاظ » (2) . وهذا المنهج الذي اختطه ابن رشيق تكاد تنجذب له نفوس قسم من النقاد القدامى والمعاصرين ، ففي طليعة القدماء ابن الأثير ، الذي يرى أن عناية العرب بالفاظها إنما هو عناية بمعانيها ، لانها أركز عندها وأكرم عليها ، وإن كان يسوغ بل يعترف أن عناية الشعراء منصبة على الجانب اللفظي ، ولكنها وسيلة لغاية محمودة وهي إبراز المعنى صقيلاً ، فإذا رايت العرب قد أصلحوا ألفاظهم وحسنوها ، ورققوا حواشيها ، وصقلوا أطرافها ، فلا تظن أن العناية إذ ذاك إنما هي بألفاظ فقط ، بل هي خدمة منهم للمعاني (3) . ولا تفسر هذه المحاولة من ابن الأثير بالاقتداء بخطوة ابن رشيق وهي وإن لم تصرح بمزج اللفظ والمعنى في قالب واحد ، ولكنها تشير إلى ____________ (1) العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده : 1|124 . (2) إبراهيم سلامة ، بلاغة ارسطو بين العرب واليونان : 151 ـ 152 . (3) ابن الأثير ، المثل السائر : 1|353 . ________________________________________ ( 34 ) قيمة المضمون والشكل معاً في صقل الصورة ، وتلمح إلى طبيعة التلاؤم بينهما . وقد لاقى هذا الاتجاه سيرورة وانتشاراً عند كثير من النقاد المحدثين ـ وإن لم يثبت اطلاعهم عليه ، لأنهم لا يشيرون إلى مصدره وكأنهم مبتكرون ـ فربطوا بين اللفظ والمعنى حتى ليخيل إليك أنهما شيء واحد ، وحدبوا على تطوير نظرتهم هذه وصعدوا بها إلى مستوى الحقائق الثابتة من خلال إشباع البحوث استدلالاً لها ، ونسجاً على منوالها ، حتى أخذت طريقها إلى مستوى النظريات والصيغ النهائية . يرى الناقد الفرنسي دي جورمون « أن الأسلوب والفكر شيء واحد ، وإن من الخطأ محاولة فصل الشكل عن المادة » (1) . وطبيعي أنه ينظر إلى الألفاظ بأنها أساليب وإلى المعاني بأنها أفكار ، ثم يخطئ القائلين بفصل تلك الألفاظ عن هذه المعاني . ويقول ( دونالد استوفر ) باتحاد الشكل والمحتوى ، ويرى فيهما شخصية واحدة لا يمكن أن ينظر إلى أجزائها في استيعابها وتحديد النظرة الفاحصة إليها فيقول : إن القصيدة تتمتع بشخصية متماسكة حية ، وأنها وحدة تتألف من عناصر مختلفة كثيرة ، وهي متماسكة ومتوازنة ، من حيث الشكل والمحتوى بل يتداخل فيها الشكل والمحتوى على نحو لا يمكن معه تصور كل منهما على حد » (2) . ويعتقد الناقد الأمريكي « كلينث بروكس » باستحالة فصل المادة عن الشكل وبالعكس في أي حال من الأحوال لأن تركيبها قد اتحد فلا يبرز إلا كلا موحداً فيقول « إن جوهر القصيدة لا يبرز إلا كلاً موحداً ، أي يستحيل علينا تجريد الجوهر وصياغته في شكل آخر ، لأن الجوهر في هذه الحالة هو المركب الجديد من بناء لا ينفصل عن موسيقاه ، والصور والدلالات المتشابكة والمواقف المعينة ، أي القصيدة ذاتها » (3) . ____________ (1) وليم فان أوكونور ، النقد الأدبي : 102 . (2) حياة جاسم ، وحدة القصيدة في الشعر العربي حتى نهاية العصر العباسي : 151 . (3) محمد محمد ، النقد التحليلي : 114 . ________________________________________ ( 35 ) هكذا كانت النظرة بالنسبة للنقاد الغربيين ، فإذا استقبلنا النقاد العرب المعاصرين وجدنا الفكرة أعمق رسوخاً ، وأصلب عوداً ، والنظرة أفحص إمعاناً ، وأكثر ذيوعاً ، تارة بالاتحاد بينهما ، وأخرى بعدم الانفصال ، وثالثة بوحدة المؤدى بين الشكل والمحتوى . يرى الأستاذ أحمد الشايب عدم إمكانية فصل القيمة الفنية بين اللفظ والمعنى ويرى كلاً منهما انعكاساً للآخر بسبب « شدة الارتباط بين المادة والصورة أو بين اللفظ والمعنى ، أو بين الفكرة والعاطفة من ناحية ، والخيال واللفظ من ناحية ثانية ، إذ كان هذان صورة لذينك ، وأي تغيير في المادة يستتبع نظيره في الصورة والعكس صحيح » (1) . ويرى الدكتور بدوي طبانة أن اللفظ والمعنى حقيقتان متحدتان ، ومنزلتهما واحدة لا تمايز بينهما ، والعناية بأحدهما عناية بالطرف الآخر ، والاهتمام يجب أن يقسم عليهما بالتساوي لأنه اهتمام بالعمل الأدبي وزنة للقيمة الفنية فيقول : « وليست منزلة المعنى دون منزلة اللفظ في تقدير القيمة الفنية للعمل الأدبي ، ولا شك عند المنصفين أن وجوب مراعات جانب المعنى لا يقل شأناً عن وجوب الاهتمام بالالفاظ » (2) . وقد أبدى الدكتور شوقي ضيف اهتماماً كبيراً بالمسألة ، ووجه لها عنايته الفائقة ، وأعار لها الصفحات العديدة في كتابه « النقد الأدبي » وتوصل إلى أن الفصل بين اللفظ والمعنى ، أو الشكل والمضمون أمر مستحيل ... « فليس هناك محتوى وصورة ، بل هما شيء واحد ، ووحدة واحدة ، إذ تتجمع في نفس الأديب الفنان مجموعة من الأحاسيس ويأخذ تصويرها بعبارات يتم بها عمل نموذج أدبي ، وأنت لا تستطيع أن تتصور مضمون هذا النموذج أو معناه بدون قراءته ، وكذلك لا تستطيع أن تتصور صورته أو شكله أو لفظه ، دون أن تقرأه ، فهو يعبر عن الجانبين جميعاً مرة واحدة ، وليسا هما جانبين ، بل هما شيء واحد ، أو جوهر واحد ممتزج متلاحم ، ____________ (1) أحمد الشايب ، أصول النقد الأدبي : 246 . (2) بدوي طبانة ، دراسات في نقد الأدب العربي من الجاهلية إلى نهاية القرن الثالث : 138 ـ 139 .