مدخـــــــــــــــــــــــل
يعّد الشعر من أهم فنون الأدب العربي ، و هو ديوان العرب و سجّل تاريخهم ، يختلف عن النثر في تلك الموسيقى المطردة ، و التي تخضع لقواعد صوتية خاصة تجعل منه شكلا فريدا يميزه عن النثر ، وقد عرف هذا الوزن في المفهوم و التوظيف حتى وصل إلى الشكل الذي يعرف في العصر الحديث باسم الشعر الحر . (1) حيث تقول نازك الملائكة حول تعريف الشعر الحر : « هو شعر ذو شطر واحد و ليس له طول ثابت ، و إنما يصحّ ألا يتغير عدد التفعيلات من شطر إلى شطر و يكون هذا التغيير وفق قانون عروضي يتحكم فيه » . (2) ثم تتابع نازك قائلة : أساس الوزن في الشعر الحر أنه يقوم على وحدة التفعيلة ، و المعنى البسيط الواضح لهذا الحكم إن الحرية في تنويع عدد التفعيلات أو أطوال الأشطر بدءا أن تكون التفعيلات في الأسطر متشابهة تمام التشابه ، فيظّم الشاعر من البحر ذي التفعيلة الواحدة المكررة أشطر تجري على هذا النسق :
فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن
فاعلاتن فاعلاتن
فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن
فاعلاتن . (3)
يتّضح لنا من خلال هذا التعريف طبيعة الشعر الحر ، فهو شعر يجري وفق القواعد العروضية للقصيدة العربية و يلتزم بها و لا يخرج عنها إلا من حيث الشكل و التحرر من القافية الواحدة في أغلب الأحيان ، و إذا أراد الشاعر أن ينسج قصيدة ما على بحر معين و ليكن البسيط مثلا ، استوجب عليه في قصيدته أن يلتزم بهذا البحر و تفعيلاته من مطلعها إلى نهايتها ، و إنما الشعر هو الأساس الذي تبنى عليه القصيدة .
(1)أحلام حلوم ، النقد المعاصر ، دار الشجرة ، دمشق ، ط1، 2000 ، ص 05 .
(2) نازك الملائكة ، قضايا الشعر المعاصر ، دار العلم للملايين ، مكتبة النهضة ، بغداد ، ط2 ، 1965 ، ص 60 .
(3) نفسه ص 61 .
بداية حركة الشعر الحر :
ظهرت حركة التجديد في الشعر العربي المعاصر منذ نهاية الأربعينيات من هذا القرن ، لم تكن في الواقع كما يفهم أحيانا ثورة ضد نظام البيت الشعري و القافية و التحول بالقصيدة إلى نظام التفعيلة الشعرية و السطر الشعري ، لأن هذه في الواقع كانت نتيجة مصاحبة لهذه الثورة الشعرية . (1) حيث كانت بداية حركة الشعر الجديد سنة 1947 في العراق ، و من بغداد نفسها زحفت هذه الحركة و امتدت حتى غمرت الوطن العربي كله ، حيث صدر في نفس السنة قصيدتان من طراز جديد الأولى بعنوان ﴿الكوليرا﴾﴿لنازك الملائكة ﴾ و الثانية ﴿ لبدر شاكر السياب﴾ و كان عنوانها ﴿هل كان حبا﴾ .(2) تقول نازك الملائكة: « كانت بداية حركة الشعر الحر سنة 1947م في العراق و من العراق بل من بغداد نفسها ، و زحفت هذه الحركة و امتدت حتى غمرت الوطن العربي كله ، و كانت بسبب الذين استجابوا لها تجرف أساليب شعرنا الأخرى جميعا ، و كانت أول قصيدة حرّة الوزن تنشر قصيدتي المعنونة ﴿الكوليرا ﴾ ثم قصيدة ﴿هل كان حبا﴾ لبدر شاكر السياب من ديوانه ﴿ أزهار ذابلة ﴾ ، و كلا القصيدتين نشرتا في عام 1947 » . (3) نرى نازك من خلال النص الذي نقلنا منه تعترف أن بدايات الشعر الحر كانت سنة 1947 ، و أنه طلع من العراق و منه انتشر إلى باقي أنحاء الوطن العربي ، و احتفظت الشاعرة لنفسها بفضل السبق في ولادة الشعر الحر عام 1947 . و من خلال هذا التعريف نجد أن السيدة نازك الملائكة قد حكمت و أطلقت الحكم و عممته دون تروّ منها ، لأن هناك بدايات غير التي أشارت إليها أيضا ، و إن كانت هذه البدايات لم تحفل اهتمامها على الرغم من أن هذه الأخيرة قد تكون ذات شأن في تحديد نشأة الشعر الحر تحديدا فعليا .
(1) السعيد الورقي ، في الأدب العربي المعاصر ، دار النهضة العربية للطباعة و النشر ، بيروت – لبنان ، ط 1 ، 1984 ، ص 38 .
(2) مصطفى حركات ، الشعر الحر أسسه و قواعده ، الدار الثقافية للنشر ، القاهرة ، ط 1 ، 1998 ، ص 05 .
(3)نازك الملائكة ، قضايا الشعر المعاصر ، ص 65 .
ظروفه :
كانت لحركة الشعر الحر ظروف معرقلة جعلت سبيلها وعرا ، بعض تلك الظروف عام يتعلق بطبيعة الحركات الجديدة إجمالا ، و بغضها خاص بالشعر الحر نفسه ، فأما الظروف العامّة فتكمن في أن الشعر الحر شأنه شأن أي حركة جديدة في ميادين الفكر و الحضارة ، أما الظروف الخاصة فتكمن في كون الشعر الحر حركة جديدة جاء بها الأدباء العرب أول مرة في هذا العصر . (1)
و بعد الشعراء و القراء ، بدأ المنظرون يهتمون بهذا الشعر و حاولوا دراسته و لكنهم لم يستنبطوا قواعده مثلما يستنبط الخليل قواعد الشعر العمودي ، و انشغلوا بنقاشات عميقة حول التسمية . (2) و من أهم هذه النقاشات : هل الشعر شعر حر ؟ أم شعر مرسل ؟ أم شعر نثري ؟. كما أنهم افتتنوا بمفهوم نظري جديد لم يحاولوا تعريفه و هو الإيقاع ... فأصبح هذا المفهوم مبررا للعجز عن وضع قواعد و سببا في كل الافتراضات الوهمية و الأنظمة الخيالية . (3) خلافا على الشكل فقط دون المضمون ، أي أن الخلاف يقتصر على الأوزان فقط دون المعاني . و تنحصر أوزان الشعر الجديد في الأوزان التالية :
الشعر المرسل : و هو الذي يتقيد بالوزن و لا يتقيد بالقافية ، بل ترسل فيه القافية إرسالا فتتغير و تجدد كيفما يتراءى للشاعر .
الشعر الحر : و هو الذي يتحرّر فيه الشاعر في الأوزان و الأبحر الشعرية المعروفة و لكنه يتقيّد بالقافية في كل مجموعة معينة من الأبيات .
الشعر المرسل الحر : و هو الذي يتحرّر فيه الشاعر من القافية و الوزن جميعا ، و من الممكن أن نطلق عليه (اسم الشعر المنثور )أو (النثر المشعور) أو( قصيدة النثر ). (4)
(1)أنظر نازك الملائكة ، قضايا الشعر العربي المعاصر ، ص 65 ، 66 .
(2)مصطفى حركات ، الشعر الحر أسسه و قواعده ، ص 05 .
(3)نفسه ، ص 06 .
(4) حامد حنفي داود ، تاريخ الأدب الحديث ، تطوره ، معالمه الكبرى ، مدارسه ، ديوان المطبوعات الجامعية ، بن عكنون الجزائر ، ط 1 ، 1993 ، ص143 .
و المرسل أسبق بالظهور من الحر ، و إن الشعراء في مصر و المشرق العربي يهرعون إلى هذا النوع من الشعر .
أما عن الحداثة الشعرية وصلتها بالجذور العربية في ساحتنا العربية الأدبية ، فيقول رفعت السعيد :« إن للتحديث شروطه و رجاله ، و من غير المعقول أن يحسب مجرد نقل أو ترجمة عشوائية لأي شيء حداثة ، و من غير المعقول أن تضطلع بالحديث فئات غير عقلانية بطبيعتها تبهرها أية صرعة ، فتعود بها لتغرسها عنوة و عندما لا تنغرس تأخذ هذه الفئات بالصياح : إن العرب متخّلفون و رافضون للحضارة ، ففي فرنسا و الغرب يعتبر هذا النمط من الكتابة حديثا» . (1) ، فهو يرى أن هؤلاء الذين يزعمون الحداثة إنما هم فئة بهرتهم حضارة الغرب فأصبحوا يقلدونه في كل شيء .
أما أمين نخلةفيقول :« كان الشاعر عبر العصور فنّانا تبرز في أشعره عبقرية لغته و عبقرية أمه ، و لم يرى الشاعر يوما إلا متجلببا بالفن ، و لكن هذه الصورة البهيّة للشاعر و الشعر تكاد تفارق زماننا الحالي ، فأنت تقرأ شعرا و لا تقرأ شعرا ، بل أنت لا تقرأ لا شعرا و لا نثرا و لا تجد نفسك إلا كأنك أمام أنواع من الأعشاب الطفيلية الغبراء التي تنمو في بعض البراري و القفار » . (2 ) فالشاعر في هذا التعريف يقارن بين أدباء الأمس الذين كانوا عبر العصور السابقة و ما ميّز شعرهم من سمات و عبقرية في اللغة مع أدباء اليوم .
فالحداثة عند بعضهم هي التنّكر بالزّي الغريب و بالمعنى الذي لا يعني و الصورة التي لا يفك مطاليقها أحد ، إنها في الواقع تعطيل لمقاييس الأدب و تقاليده منذ كان الأدب ، و اغتيال للتجويد و هزيمة للغة و البيان و حيرة للعقل . (3)
(1)جهاد فاضل ، قضايا الشعر الحديث ، دار الشروق ، بيروت ، ط 1 ، 1984 ، ص 88 .
(2)المرجع نفسه ص 97 .
(3)محمد أحمد ربيع ، في تاريخ الأدب العربي الحديث ، دار الفكر ، عمان ، الأردن ، ط 2 ، 2006 ، ص 139 .
مميزات الشعر الحر :
من مميزات الشعر الحر الوحدة العضوية ، حيث لم يعد البيت هو الوحدة ، و إنما صارت القصيدة تشكّل كلاما متماسكا و تزاوج الشكل و المضمون . فالبحر و القافية و التفعيلة و الصياغة وضعت كلها في خدمة الموضوع و صار الشاعر يعتمد على التفعيلة و على الموسيقى الداخلية المناسبة بين الألفاظ .
يقوم الشعر الحر على تشكيل الصور الشعرية الجديدة و الإكثار منها ، و هذا مقطع من قصيدة بعنوان ﴿الطين و الأظافر ﴾ للشاعر ﴿ محي الدين فارس ﴾ ، يقول :
ذَاتَ مَسَاءٍ
مُلْفَحَ الَآفَاقِ بِالغُيُومْ
وَ البَرْقُ مِثْلَ أَدْمَعٍ تَفُرُ مِنْ مَحَاجِرِ النُجُومْ
وَ الرِيحُ مَا تَزَالُ فِي أَط لَالِنَا تَحُومْ
وَ تَزْرَعُ الهُمُومْ .(1)
يكثر في هذا الشعر المواضيع الحديثة مثل المدينة و الموت ، و يتّسم الشعر المعاصر عامة و الشعر الحر خاصة بظهور النزعة الحزينة فيه ، و يرى بعض الباحثين أن النزعة الحزينة في شعرنا المعاصر ليست إلا نوعا من التأثر بأحزان الشاعر الأوربي الحديث ، الذي عاين طغيان الحضارة المادية على الروح الغربي في القرن العشرين .
الشعر الحر لا يتقيّد بالتفعيلات العروضية القائمة بين الشطرين ، و إنما القصيدة فيه تقوم على وحدة التفعيلة و لا يتقيد بوحدة القافية ، و يهتم الشعر الحر بالأساطير و يستثمرها الشعراء في قصائدهم . (2)
(1)محمد أحمد ربيع ، في تاريخ الأدب العربي الحديث ، ص 197 .
(2)نفسه ، ص 142 ، 143 ، 147 .
أما نازك الملائكة فترى أن لهذا الشعر سمات مضلّلة تغري الشعراء إلى الكتابة فيه ، و من أهم هذه السمات ما يلي :
- الحرية البرّاقة التي تمنحها الأوزان الحرة للشاعر ، فما يكاد الشاعر يبدأ قصيدته حتى تخلب لبّه السهولة التي يتقدم بها ، فلا قافية تضايقه و لا عددا معينا من التفعيلات يقف في سبيله .
- الموسيقية التي تمتلكها الأوزان الحرة ، فهي تساهم مساهمة كبيرة في تضليل الشاعر عن مهمته .
- التدفق ، و هي ميزة معقّدة تفوق الميزتين السابقتين في التعقيد ، و ينشأ التدفق عن وحدة التفعيلة في أغلب الأوزان الحرة . (1)
و من هنا نجد الشعراء المحدثين يميلون إلى استخدام قصيدة الشعر الحر للتعبير عن مشاعرهم ، و ذلك لما تميّزت به من سمات فنية .
v أما عن عيوب الشعر الحر فبيّنت نازك عيوب الشعر الحر و أبرزها عيبان يرتكز كل منهما إلى تركيب التفعيلات في الشعر الحر و هما :
- اقتصار الشعر الحر بالضرورة على عشرة بحور ، و هذا يضيق مجال إبداع الشاعر ، فقد ألف الشاعر أن يجد أمامه ستة عشر بحرا شعريا بوافيها و مجزوءها و مشطورها و منهوكها ، و قيمة ذلك في التوزيع و التلوين و مسايرة مختلف أعراض الشاعر الكبيرة .
- يرتكز أغلب الشعر الحر على ثمانية أبحر من أصل عشرة إلى تفعيلة واحدة ، و ذلك يسبّب فيه رتابة مملّة ، خاصة حين يريد الشاعر أن يطيل قصيدته . (2)
(1)نازك الملائكة ، قضايا الشعر العربي المعاصر ، ص40 ، 41 .
(2)انظر المرجع نفسه ، ص 42 ، 43 .
موقف النقاد من الشعر الحر :
يقف النقاد من الشعر الحر مواقف مختلفة ، فريق يعيبه و يطرحه و يستهجنه ، و فريق يدافع عنه و يستحسنه و يراه طابع العصر ، و فريق ثالث يقبل ما جاء على نمط أوزان الشعر القديمة . (1)أما أصحاب الشعر الحر فيقولون أن شعرهم لا يخلو من الوزن و الموسيقى ، و تقول نازك الملائكة في مقدمة ديوانها ﴿ شظايا و رماد﴾ : « أن الشعر الحر ليس خروجا على الأوزان العربية القديمة ، بل هو أسلوب جديد في ترتيب تفاعيل الخليل ، يطلق جناح الشعر من القيود ، إنه يحرّر الشاعر من عبودية الشطرين ، فالبيت ذو التفاعيل الستّ يضطر إلى أن يختم الكلام عند التفعيلة الرابعة ، بينما يمكّنه الأسلوب الجديد من الوقوف حيث يشاء » . (2)تؤكد نازك من خلال هذا التعريف أن الشعر الحر لابدّ أن يعتمد في أساسه على أوزان الخليل و لا يخرج عنها .
أمّا عن القصيدة الأولى التي نظّمتها نازك و مناسبتها فتقول : « نظمتها يوم 27 / 10/ 1947 و أرسلتها إلى بيروت فنشرتها مجلة العروبة في عددها الصادر في أول كانون الأول 1947 ، و علّقت عليها في العدد نفسه ، و كنت نظّمت تلك القصيدة أصوّر بها مشاعري نحو مصر الشقيقة خلال وباء الكوليرا الذي داهمها » . (3)إن أول قصيدة لنازك كانت سنة 1947 و ذلك إثر الوباء الذي حلّ بمدينة مصر ، و هو وباء الكوليرا الذي أودى بحياة الكثير من الناس ، فنظمت الشاعرة هذه القصيدة تعبّر عن مشاعرها اتجاه الشعب المصريلشقيق.
و في صيف سنة 1949م صدر ديوان ﴿ نازك شظايا و رماد ﴾ الذي تضمنته مجموعة من القصائد الحرة ، و أثار صدوره ضجّة نقدية في العراق و خارج العراق . و في آذار 1959 صدر في بيروت ديوان الشاعر العراقي عبد الوهاب البياني بعنوان ﴿ ملائكة و شياطين ﴾ ، ثم تلاه دواوين أخرى لشعراء . و هكذا بدأ الشعر الحر في الانتشار بين متحمس له و رافض .(4) و لقد اختلفت الآراء حول هذا النوع من الشعر بين مؤيدين و رافضين.
(1) محمد عبد المنعم خفاجي ، الادب العربي الحديث و مدارسه ، دار الطباعة المحمدية ، القاهرة ، د ط ، ص 375 .
(2) نازك الملائكة ، قضايا الشعر العربي المعاصر ، ص35 .
(3) نفسه ، ص 36 .
(4) محمد أحمد ربيع ، في تاريخ الأدب العربي الحديث ، ص 138 .
و في الأخير نستنتج أن انطلاقة القصيدة العربية و تحررها ، جعلها أكثر مرونة و حيويّة و تجاوبا مع نوعية الموضوع الذي تكتب فيه ، و منحت الشاعر الفرصة في التعبير عن مشاعره و تجاربه الشعورية بحريّة تامة ، فلا تقيّد بأطوال معينة للبيت الشعري .
و لم تتوقف حركة التطور الموسيقية للقصيدة العربية عند حدود التحرر الجزئي من قيود القافية ، بل تخطتها إلى أبعد من ذلك ، فظهرت محاولة جديدة و جريئة و جادة في ميدان التجديد الموسيقي للشعر العربي عرفت بالشعر الحر ، و كانت هذه المحاولة أكثر نجاحا من سابقاتها و تجاوزت حدود الإقليمية لتصبح نقلة فنيّة و حضارية عامة في الشعر العربي .