منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - تشريف الإسلام للمرأة
عرض مشاركة واحدة
قديم 2012-10-10, 10:23   رقم المشاركة : 37
معلومات العضو
mahmoudb69
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية mahmoudb69
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

تفسير قوله تعالى: (يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة)
قال الله تعالى: {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} [البلد:15] أي: يتيماً من أهلك، {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد:16] والمسكين هو الفقير.
((ذَا مَتْرَبَةٍ)) يعني: كأنه لصق بالتراب، فلا يوجد لديه شيء.
فقوله تعالى: {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} [البلد:15] يدل على أن أول شيء هو صلة الأرحام، ثم صلة اليتامى الأقربين، ثم بعد ذلك صلة يتامى المسلمين.
ومراد الله من عباده لين قلوبهم ورقتها، فإذا رق القلب أتى منه كل خير، وإذا قسا القلب أتى منه كل شر، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يدخل أقواماً الجنة أفئدتهم مثل أفئدة الطير).
قال الإمام النووي: في رقتها وفي لينها وفي توكلها على الله تبارك وتعالى.
ومن الأسباب لرقة القلب ما قاله المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إذا أردت أن يلين قلبك وتدرك حاجتك -أي حاجة- فامسح رأس اليتيم، واطعمه من طعامك، واسقه من شرابك، يلن قلبك، وتدرك حاجتك).
وعندما يكون الإنسان صالحاً يتكفل الله بأولاده، قال تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82]، وقد يمر على أولادك ما يمر على يتامى المسلمين فاتق الله تبارك وتعالى، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لا يرحم لا يرحم)، والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (قد غفر الله لبغي -وفي رواية: لمومسة أي: زانية- من بني إسرائيل وجدت كلباً يكاد أن يأكل التراب من شدة العطش، فنزعت موقها -أي: خفها- ثم حملت به الماء حتى سقته، فغفر الله لها).
والله تبارك وتعالى غفر لامرأة زانية؛ لأنها لما وجدت رضيعيها يبكيان أسندتهما إلى صدرها، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله غفر لهذه برحمتها بولديها، وإن الله لا يقدس أمة لا ترحم ضعيفها).
والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة)، ومن الذي لا يريد أن يكون قريباً من المصطفى صلى الله عليه وسلم؟! وسيدنا أنس كان يبكي ويقول: (يا رسول الله! إن كنت معنا فرحنا بك، وإن غبت عنا اشتقنا إليك، فتذكرت مقامك في الجنة مع النبيين فآلمني هذا الأمر وشق علي فبكيت، فلما نزل قول الله تبارك وتعالى: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] يقول سيدنا أنس: فوالله ما فرحنا بآية مثل فرحنا بهذه الآية).
وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله)، فإذا أردت أن تجاهد في سبيل الله فأد حق اليتامى والمساكين والأرامل.
والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (كافل اليتيم له أو لغيره معي كهاتين في الجنة).
فيتامى المسلمين كثيرون، ومن أكل طعاماً أو فاكهة وأطفال جاره يتضاغون من الجوع فليس على سنة المصطفى في ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من بات شبعان وجاره جائع).
وسيدنا عمر سجن الحطيئة لأنه كان يشتم الناس، فبعث إليه بيتين من الشعر فبكى سيدنا عمر بسبب هذين البيتين، وعفا عنه، وهما: ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ زغب الحواصل لا ماء ولا شجر ألقيت كاسبهم في قاع مظلمة فاغفر عليك سلام الله يا عمر فسيدنا عمر بكى، وهذا من رقة قلبه، لأنه قال في الشعر: زغب الحواصل لا ماء ولا شجر أي: لا يوجد شخص يسأل عليهم.
ولو كل الناس ينفقون على اليتامى فإن الله تعالى يبارك في المال، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما قل مال من صدقة)، وقال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7].

(29/15)


الفرق بين اليتيم والمسكين
الفرق بين الفقير والمسكين: أن الفقير حاله أشد ضنكاً من المسكين، بدليل قول الله تبارك وتعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79] فهم مساكين ومعهم سفينة، وسمي الفقير فقيراً من الفقرة، والفقرة هي الحفرة التي يحفرونها من أجل أن يضعوا فيها النخلة، وكأن الفقير قد نزل في هذه الحفرة.
وقول آخر: أنه مأخوذ من فقرة الظهر، ومنه العمود الفقري، فعندما تأخذ فقرة من ظهر الإنسان فإنه لا يستطيع أن يتحرك، وهكذا الفقير لا يستطيع الحركة وكأنه قد أصيب بشلل.
والفقير والمسكين لو أتيا في آية واحدة فالفقير له معنى والمسكين له معنى، ولو ذكر أحدهما دون الآخر فإنه يشمل معناه.
إذاً: قوله: ((أَوْ مِسْكِينًا)) يشمل الفقير.
والإسلام يستوصي بالفقراء وبالمساكين خيراً، قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين)، وتعوذ بالله من الفقر والإسراف.

(29/16)


تفسير قوله تعالى: (ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا)
وقال تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد:17].
يعني: لا ينفع إطعام المساكين في الآخرة بدون إيمان وإسلام، والكافر وإن كان منفقاً في سبيل الخير فإن الله تبارك وتعالى يوفي إليه أجره في دار الدنيا، وليس له في الآخرة من نصيب، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم لـ عدي بن حاتم: (أسلمت على ما أسلفت من خير) أي: أسلمت على ما كان منك من خير.
قوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [البلد:17] يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (والصبر ضياء)، فالمؤمنون يوصي بعضهم البعض بالصبر، لا يوصي بعضهم البعض بالعجلة، يقول الله تبارك وتعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة:24]، والصبر يكون على طاعة الله، وعلى الأقدار المؤملة، وعن معاصي الله تبارك وتعالى.
وقوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد:17] المرحمة: هي رحمة العباد، وتكاد أن تكون رسالة الإسلام في الرحمة، يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وما وإلّا من أساليب الحصر والقصر، يعني: رسالتك الرحمة ودينك الرحمة، والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله إذا أحب شخصاً ألهمه الرفق، وإن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على غيره).
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (المؤمنون هينون لينون كالجمل الأنف إذا انقيد انقاد، وإذا أنيخ على صخرة استناخ).
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على أقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟ أحاسنكم أخلاقاً: الموطئون أكنافاً اللينون).
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (المؤمن يألف ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف).
والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (في كل ذات كبد حرى أجر) يعني: لو أنك سقيت كلباً أو حيواناً وهو عطشان، فإن الله تبارك وتعالى يثيبه على ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من لا يرحم لا يرحم).
وسيدنا جبريل يقول للمصطفى صلى الله عليه وسلم: (لو رأيتني يا محمد وأنا أدس في فيه -يعني: في في فرعون- من حمأ البحر -أي: من طين البحر-؛ حتى لا تدركه رحمة الله تبارك وتعالى)، لأن فرعون لم يرحم الأطفال فقد كان يذبحهم، فلم يرحمه جبريل، فجعل يدس الطين في فمه حتى يموت قبل أن تدركه رحمة الله تبارك وتعالى.
ولما أخذ المؤمنون برأس الأمر وهو الصبر جعلهم الله رءوساً.

(29/17)


تفسير قوله تعالى: (أولئك أصحاب الميمنة)
قال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [البلد:18].
فهم الميامين على أنفسهم وعلى ذويهم وعلى غيرهم، أي: أنهم خيرة على أنفسهم، وعلى أهليهم، وعلى الناس الذين بجانبهم، وهم الذين نزعوا من شق آدم الأيمن، وهم الذين يكونون يوم القيامة عن يمين العرش، وهم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم.

(29/18)


تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة)
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} [البلد:19] أصحاب المشأمة: هم المشائيم على أنفسهم وذويهم، يعني: النحس على أنفسهم وعلى ذويهم، وهم الذين يعطون كتبهم بشمائلهم يوم القيامة، وهم الذين يكونون عن يسار العرش، وهم الذين نزعوا من شق آدم الأيسر.
اللهم ارزقنا الرحمة، واملأ قلوبنا رقةً، رب اجعلنا لك بكائين، إليك أواهين مخبتين منيبين، وتقبل توبتنا، واغفر حوبتنا، واسلل سخائم صدورنا، وبك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تحرمنا، ولجنابك ننتسب فلا تبعدنا، وببابك نقف فلا تطردنا.
اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا.
إلهي! عميت عين لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم يجعل معه من حبك نصيباً.
إلهي! ما أضيق الطريق على من لم تكن دليله، فكن دليلنا.
إلهي! ما أوحش الطريق على من لم تكن أنيسه، فكن أنيسنا.
إلهي! أتينا أطباء عبادك ليداووا خطاينا، فكلهم عليك دلّنا.
اللهم داو أمراض قلوبنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والحمد لله رب العالمين.

(29/19)


رهبان الليل
لقد سطر التاريخ رجال من سلف هذه الأمة ملئوا الأرض سجوداً وركوعاً ودموعاً، فما عرفوا النوم، ولا تلذذوا بالفراش، ولا ركنوا إلى الدنيا وزخرفها، ليلهم قنوت وطاعة وبكاء، ونهارهم قتال ومجالدة لأعداء الدين، ففازوا بمرضاة ربهم، وسارعوا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فأصبح الحديث عنهم حلماً وخيالاً، واللحاق بهم عجزاً ومحالاً إلا من رحم الله من هذه الأمة في هذا العصر، وقليل ما هم.

(30/1)


فضل قيام الليل في القرآن
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]، ثم أما بعد: فشكر الله لكم مجيئكم، فقد تكلفتم مشقة المجيء إلى هنا، وشكر الله لكم أن سهلتم لي سبيل المجيء لأحدثكم اليوم، وقديماً قال شعبة: من سمعت منه حرفاً فأنا له عبد.
وابن مندة شيخ الحنابلة يقول: من استمع مني حرفاً فأنا له عبد.
وشكر الله لكم حسن ضيافتكم لنا في هذه الأيام، وينطبق فينا وفيكم قول الشاعر: ومن عجب أني أحن إليهم وأسأل شوقاً عنهم وهم معي وتبكيهم عيني وهم في سوادها ويشكو النوى قلبي وهم بين أضلعي موضوع اليوم هو: رهبان الليل.
تتجافى جنوبهم عن لذيذ المضاجع، كلهم بين خائف مستجير وطامع، تركوا لذة الكرى في العيون الهواجع، ورعوا أنجم الدجى طالعاً بعد طالع، واستهلت دموعهم بانفضاض المدامع.
يا إخوتاه! إنما قالوا التعبد فيه أسرار عجيبة في فؤاد المتعبد طعم أذواق غريبة وإذا طال التهجد هبت الريح الرطيبة وأذان لبلال ادخلوها آمنينا فاز من قام الليالي بصلاة الخاشعينا وكلام الملوك ملوك الكلام! ولا أطيب من كلام الله عز وجل، قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9].
وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:16 - 17].
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:64].
وقال تعالى: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا * إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل:1 - 8] أي: انقطع إليه انقطاعاً.
إن الذي يعيش لنفسه يعيش صغيراً، ويموت صغيراً، أما الذي يعيش لدين الله عز وجل فما له وللنوم! وما له وللرقود! وما له ولدفء الفراش! قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام معه الصحابة اثنا عشر شهراً، وأمسك الله خاتمة المزمل في السماء، قالت السيدة عائشة: فلما علم الله صدقهم نزل التخفيف في نهاية السورة.
وقال الله تبارك وتعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29]، قال محمد بن كعب القرظي: كنا نعرف قارئ القرآن بصفرة لونه من آثار القيام.
قيل للحسن البصري: ما بال القائمين بالليل من أحسن الناس وجوهاً؟ قال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره.
بكى الباكون للرحمن ليلاً وباتوا دمعهم لا يسأمونا بقاع الأرض من شوق إليهم تحن متى عليها يسجدونا قال الله تبارك وتعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7 - 8].
قال ابن مسعود: إذا فرغت من الفريضة فانصب لصلاة الليل.
وقال الله تبارك وتعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} [الإنسان:26].
وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس:38 - 39]، قال ابن عباس: نيرة من آثار القيام في دار الدنيا.

(30/2)


لماذا الحديث عن قيام الليل

(30/3)


الصلاة خير موضوع
لماذا قيام الليل؟ ولماذا الحديث عن قيام الليل؟ أولاً: لكونه صلاة، والصلاة خير موضوع، كما جاء في الحديث الذي حسنه شيخنا الألباني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الصلاة خير موضوع، فمن أراد أن يستكثر فليستكثر)، وإذا أردت أن تزلف إلى الله عز وجل فلا بد أن تدخل عليه من باب الاستقامة، ومكانها المحراب.
إذا توهم الدنيوي جناته في الدينار والدرهم، والقصر المنيف، والزوجة الحسناء، فإن جنة المؤمن في محرابه.
فهذا ثابت البناني تلميذ أنس بن مالك رضي الله عنه يقول فيه أنس: إن للخير مفاتيح، وإن ثابتاً مفتاح من مفاتيح الخير.
يقول ثابت: لو كان شيء أعز من الصلاة لما قال الله عز وجل: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} [آل عمران:39].
وقال: الصلاة خدمة الله في الأرض.
وقال: لا يسمى العابد عابداً -ولو كان فيه كل خصلة من خصائل الخير- حتى تكون فيه هاتان الخصلتان: الصوم والصلاة، لأنهما تأخذان من لحمه ودمه.
وقال رحمه الله: كابدت قيام الليل عشرين سنة، واستمتعت به عشرين سنة.
قال الله تبارك وتعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45]، قد يضعف الصبر على طول الطريق الشائك، وقلة الناصر، وقساوة القلوب، وأن ترى الشر منتفشاً، والخير منزوياً، ولا شعاع في الأفق، ولا معلم في الطريق، فهنا قد يضعف الصبر، فالله عز وجل أمر الصبر في الصلاة؛ لأنها انطلاقة من حدود الأرض إلى كون الله الفسيح.
إنها الروح والندى والظلال في الهاجرة! إنها اللمسة الحانية للقلب المتعب المكدود! وعلى أبواب المشقات العظام دائماً يوجه الله عز وجل المسلمين إلى الصلاة: (أرحنا بها يا بلال!) وقيام الليل زاد الدعاة إلى الله عز وجل في كل وقت وفي كل حين.

(30/4)


مدرسة الليل هي مدرسة الإخلاص
السبب الثاني: أن مدرسة الليل هي مدرسة الإخلاص، وخليج صاف خير من بحر كدر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة في الدين، والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا فليس له عند الله من نصيب).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما ينصر الله عز وجل هذه الأمة بضعيفها؛ بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم).
ولما اصطف الناس لفتح كابل قال قتيبة بن مسلم: أين محمد بن واسع شيخ القراء؟ قالوا: في أقصى الميمنة رافع إصبعه إلى السماء، قال: أبشروا قد جاءكم النصر، لهذه الإصبع أحب إلي من ألف سيف شهير، وشاب طرير، فلما جاءه قال له: ماذا كنت تصنع؟ قال: كنت آخذ لك بمجامع الطرق.
ومحمد بن واسع هذا ربما صلى الليل كله في محمله، ويأمر حاديه أن يصوت بالناس.
محمد بن واسع رحمه الله يقول: والله إني لأعرف رجالاً تبتل مخدة أحدهم من أثر دموعه، وزوجه معه في الفراش لا تشعر.
وهذا عبد الله بن المبارك كان في غزوة من الغزوات فتلثم وغطى وجهه، ودعا داعي الروم: من يبارز؟ فخرج عبد الله بن المبارك في لثامه، فقتل فارس الروم، ثم قتل الثاني والثالث والرابع، فتعجب الناس من بطولته، فأتى إليه رجل ورفع لثامه فإذا هو عبد الله بن المبارك وما كانوا يظنون أنه عبد الله المبارك، فقال لمن رفع لثامه: وأنت ممن يشنع علينا يا أبا عمرو! وكان محمد بن أعين رفيقاً لـ عبد الله بن المبارك في غزواته كلها، وكان كريماً عليه، قال محمد بن أعين: فذهب ليرني أنه ينام، قال: فوضعت رأسي على رمح، وذهبت أريه أني نائم، فلما ظن أني قد نمت قام فصلى إلى قبل طلوع الفجر، ثم أيقظني عند الفجر، فقلت له: إني لم أنم الليلة، فعرفت الغضب في وجهه، وما زال مجافياً لي إلى الممات.
واليوم أصيبت الأمة بالرياء، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (غير الدجال أخاف عليكم شرك الصغائر، قالوا: وما شرك الصغائر يا رسول الله؟ قال: أن يقوم الرجل فيصلي فيطيل في صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه).
قال قتادة: كان يقال: قلما سهر الليل منافق لم يرد الجاه عند الناس، ومدح الناس إياه.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قام الليل بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام الليل بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام الليل بمائتي آية كتب من القانتين المخلصين) صححه الحاكم وافقه الذهبي وتابعه الألباني.

(30/5)


علو الهمة وترك الأماني
السبب الثالث: علو الهمة وترك الأماني، ومن لا أمنية له من الدعاة تجده على ريٍّ دائماً، وتجده سباقاً إلى الخير دائماً، فإن كان قوياً استسقى لنفسه واستسقى لغيره، وإن كان ضعيفاً وجد وريثاً لموسى يسقي له، ويزاحم عنه الرعاع.
سيروا مع الهمم العالية، فلا يزال العبد مقيماً على التواني ما دام مقروناً بوعد الأماني.
التواني والكسل والعجز من المصائب التي تصاب بها الأمة، وعلى الطرف الآخر يبعث قيام الليل على علو الهمة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (علم ربك -وفي رواية: ضحك ربك- إلى رجل ثار عن لحافه وفراشه من بين حبه وأهله، ولو شاء أن يرقد لرقد).
وكان هشام الدستوائي إذا أتى إلى فراشه يقول: والله إنك لطيب، والله إنك لبارد، والله لا علوتك الليلة، فراش الجنة خير منك.
وكان عبد الله بن ثوب سيد من سادات التابعين، وكان له سوط يعلقه في مصلاه، فإذا فتر عن القيام يضرب رجله بالسوط ويقول لها: قومي يا مأوى كل سوء، أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يسبقونا عليك، والله لأزاحمنهم عليها حتى يعلموا أنهم خلفوا بعدهم رجالاً.
وهذا الإمام العظيم مسروق بن عبد الرحمن وهو المعروف بـ مسروق بن الأجدع تقول عنه زوجه: ما كان يأتي لصلاته إلا زحفاً كما يزحف البعير، وإن قدميه لمنتفختان من أثر القيام.
تقول عنه زوجه: وكنت أجلس خلفه أبكي له رحمة مما يصنع بنفسه، وإن قدميه لمنتفختان من أثر القيام.
وجارية خالد الوراق كانت شديدة الاجتهاد في الطاعة والعبادة؛ فأخبرها خالد برفق الله وقبوله ليسير العمل، فقالت: يا خالد! إني لأؤمل من الله آمالاً لو حملتها الجبال لعجزت عن حملها كما عجزت عن حمل الأمانة، وإني لأعلم أن في كرم الله مستغاثاً لكل مسلم، ولكن قل لي يا خالد: كيف لي بحسرة السباق؟! فقال: وما حسرة السباق؟ قالت: غداة الحشر إذا ركب الأبرار نجائب الأعمال، وطاروا إلى مولاهم، وخلفت مع المسيئين المذنبين، ثم قالت: وعزة سيدي لا يسبق مقصر مجتهداً أبداً ولو حبا المجد حبواً، ثم قالت: يا خالد! انظر لا يقطعك عن الله قاطع، فإنه ليس بين الدارين دار يدرك فيها الخدام ما فاتهم من الخدمة مع مولاهم، فويل لمن قصر عن خدمة سيده ومعه الآمال، فهلا كانت الأعمال توقظه إذا نام البطالون.
إن قيام الليل باب التزكية الأعظم، والتزكية وضعت للرسالة المحمدية، وقد أقسم الله عز وجل بأحد عشر قسماً متتالية أن فلاح النفوس معلق على التزكية.
والذي يتخرج من مدرسة الليل رقيق، تطيب القلوب وترق من النظر إليه، وقد ذكر شيخنا الألباني حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أولياء الله الذين إذا رءوا ذكر الله تعالى لرؤيتهم)، فكيف بمن عاشرهم؟! كيف بمن تربى على أيديهم؟ فمجرد الرؤية تجعل الرجل يذكر الله، بل والله مجرد سماع كلام بعضهم، فأينا يقرأ كلام ابن القيم ولا يرق قلبه.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله آنية في الأرض، وآنية ربكم في الأرض قلوب عباده الصالحين، وأحبها إليه ألينها وأرقها).
فكم من أناس موتى تحيا القلوب بذكرهم! وأناس أحياء تموت القلوب برؤيتهم! إن كانوا وهم موتى يحيي الله بهم الفئات العظيمة من الناس بكلامهم، فكيف برؤية وجوههم ومعاشرتهم؟! وكان محمد بن سيرين يبحث في النهار ويقول: من يدلني على رجل بسام بالنهار بكاء بالليل؟ قالت جاريته: كان إذا آواه الليل فكأنه قتل أهل القرية جميعاً.
وكان الناس إذا رأوا وجه محمد بن سيرين سبحوا وعظموا الله من آثار النور الذي على وجهه.
وهذا الحافظ عبد الغني المقدسي رفيق الإمام ابن قدامة في العلم وابن خالته، كان إذا خرج من بيته اصطف الناس لرؤية وجهه، وبات معه رجل شمسي -ممن يعبد الشمس- فلما رأى نحيبه طيلة الليل وتهجده زفر الرجل زفرة خرج الكفر بها من صدره.
والذي لا يتخرج من هذه المدرسة تقسو قلوب الناس في النظر إليه، وأدلكم على واقع عملي، هذا سيدنا الشيخ أبو بكر الجزائري أتحدى أي رجل يقول: إنه لا يرق قلبه لرؤية الشيخ الجزائري، ولقد عاشرته شهراً بمصر أقسم بالله ما كان ينام طيلة اليوم والليلة إلا أربع ساعات فقط، وهو شيخ طاعن في السن.
فالمتهجدون بالليل من أحسن الناس وجوهاً؛ لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره، وسيماهم في كلامهم مثلما هي في وجوههم.
وكلام السلف قليل كثير البركة، وكلام غيرهم كثير قليل البركة، فقد قالوا لـ يوسف بن عبيد: هل رأيت من يعمل بعمل الحسن؟ قال: يا سبحان الله! والله ما رأيت من يتكلم بكلامه حتى أرى من يعمل بعمله! إن الحسن كان إذا تكلم أدمى القلوب، ووعظ غيره لا يبكي العيون.
والجهاد يا إخوتاه يسقى بدمع التهجد، وما عرف الإسلام رجاله إلا كذلك: في الليل رهبان وعند قتالهم لعدوهم من أشجع الشجعان والذي لا ينتصر على نفسه لا ينتصر على عدوه، قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ} [التوبة:123]، وأعدى عدو لك نفسك التي بين جنبيك، والذي لا يستطيع أن يصلي ركعتين لله تهجداً بالليل كيف يستطيع أن يقابل عدوه؟! لا والله لا يستطيع.
وهذا سيدنا عباد بن بشر في غزوة ذات الرقاع تناوب هو وعمار بن ياسر الحراسة، وكانت النوبة على عباد بن بشر، فأتى رجل من المشركين فضربه بسهم من الخلف وهو يصلي، فنزع السهم وأقبل على صلاته، فضربه بالسهم الثاني، فنزع السهم وأقبل على صلاته، فلما ضربه بالسهم الثالث استيقظ عمار وولى الرجل هارباً، فعاتب عمار رضي الله عباداً وقال: يرحمك الله! ما الذي منعك من أول سهم أن توقظني؟ قال: إني كنت في سورة فكرهت أن أقطعها.
وأسلمت هند زوج أبي سفيان صبيحة الفتح، ولما سألها أبو سفيان قال: قد كنت أراك تكرهين الرجل فما الذي دفعك إلى الإسلام؟ قالت: والله ما رأيت الله عبد قبل هذا اليوم في هذا البيت، لقد رأيت صحابة رسول الله يراوحون بين جباههم وأقدامهم تبتلاً إلى الله عز وجل، فقيام الصحابة بعد فتح مكة أثر في قلبها.
وسيدنا علي يقول: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، وما كان فينا أحد إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تحت شجرة يصلي ويبكي ويدعو إلى الصباح، وبهذا يتنزل النصر.
وفي غزوة الأحزاب قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرط لنسائه، ولقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على قيام الليل، فقال صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت: (من تعار من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد الله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي -أربعاً- استجيب له، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته).
وقبول الصلاة قدر زائد على صحة الصلاة، فقد قال الداودي: من قبل الله له حسنة واحدة لم يعذبه، ولهذا قال الحسن: وددت أني أعلم أن الله قبل لي سجدة واحدة، فصلاة الليل مقبولة على الدوام، وهذه البشارة الأولى من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى الإمام البخاري عن سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل).
قال سالم: فما كان عبد الله ينام من الليل إلا قليلاً، وفي رواية: (إن عبد الله رجل صالح لو كان يكثر من صلاة الليل).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد، فإذا استيقظ فذكر الله تعالى انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده كلها، فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان) وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل نام حتى أصبح، فقال: (ذاك رجل بال الشيطان في أذنه)، قال الحسن البصري: إنه والله بول ثقيل.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصيام بعد رمضان صيام شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فقال لي: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس).
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقال: سبحان الله! ماذا أنزل الليلة من الفتن؟! ماذا أنزل الليلة من الخزائن؟! من يوقظ صواحب الحجرات؟! يا رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة).
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة ليلة، فقال: ألا تصليان؟ قال علي: قلت: يا رسول الله! أنفسنا بيد الله إذا شاء أن يبعثنا ابتعثنا، قال علي: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مولٍ يضرب فخذه ويقول: {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54]).
يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني والطبري: لولا ما علم النبي صلى الله عليه وسلم من عظم فضل الصلاة في الليل ما كان ليزعج ابنته وابن عمه في وقت جعله الله لخلق

(30/6)


اجتهاد رسول الله في قيام الليل
ثم نأتي إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عبد الله بن رواحة: وفينا رسول الله يتلو كتابه إذا انشق معروف من الفجر ساطع يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع وقال أحمد شوقي: محيي الليالي صلاة لا يقطعها إلا بدمع من الإشفاق منسجم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام الليل يقول في دعاء الاستفتاح: (اللهم لك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق).
وكان أيضاً إذا قام من الليل افتتح صلاته بهذا الدعاء: (اللهم رب جبرائيل وميكائل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم).
وجبريل هو ملك الوحي، وهو الروح، وميكائيل: هو ملك القطر، وبه حياة الأرض، وإسرافيل: هو الذي ينفخ في الصور، فيدعو بهذا الدعاء ليعلم أن صلاة الليل حياة للقلب.
واعجباً للناس يبكون على من مات جسده، ولا يبكون على من مات قلبه.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، فتقول: يا رسول الله! أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً).
وعن عبد الله بن عمير قال: (دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت: حدثينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكت، فقالت: قام ليلة من الليالي فقال: يا عائشة! ذريني أتعبد لربي، قلت: والله إني لأحب قربك، وأحب ما يسرك، ثم قام فتطهر فقام يصلي، فلم يزل يبكي حتى بل حجره، ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، وجاء بلال يؤذنه للصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله! تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: أفلا أكون عبداً شكوراً، لقد نزلت علي الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة:164]).
رواه أبو الشيخ في أخلاق النبي، وابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نام ثلث الليل قام فقال: (أيها الناس! اذكروا الله، جاءت الراجفة، من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) يذكر الناس بالموت وبالقيامة لعلهم يقومون لصلاة الليل، وربما قام الليل كله بآية يرددها إلى الصباح: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118].

(30/7)


اجتهاد السلف في قيام الليل
نأخذ نماذج من الصحابة ومن التابعين ومن المجاهدين ومن النساء.
أما من الصحابة فقد كان عثمان بن أبي العاص جاراً لـ عمر بن الخطاب، فلما مات عمر تزوج عثمان بإحدى زوجاته، فقال: والله ما تزوجتها رغبة في نكاح ولا ولد، وإنما تزوجتها لتخبرني عن ليل عمر.
أي: أنه تزوج أرملة سيدنا عمر لكي تخبره ماذا كان يفعل سيدنا عمر في الليل! وسيدنا عمر ربما مر بالآية في الليل فيمرض منها حتى يعوده الصحابة شهراً، وحفرت الدموع خطين أسودين في وجهه، فلو أتيت الآن بصنبور ماء وجعلته يقطر على جبينك سنة، فهل سيحفر خط أسود؟ لا؛ لأن الدمع ينزل بحرقة.
من لم يبت والحب حشو فؤاده لم يدر كيف تفتت الأكبادِ وسيدنا عمر بعد توليه الخلافة كان ينعس وهو قاعد، فقيل له: يا أمير المؤمنين! ألا ترقد؟! ألا تنام؟! قال: إن نمت بالنهار ضيعت مصالح الرعية، وإن نمت بالليل ضيعت حظي مع الله.
ولسان حاله يقول: لست أدري أطال ليلي أم لا كيف يدري بذاك من يتقلى لو تفرغت لاستطالة ليلي ولرعي النجوم كنت مخلا روى الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني في الإصابة بإسناد حسنه الشيخ الألباني: (أن رسول الله طلق السيدة حفصة ذات يوم؛ فنثر عمر التراب على وجهه وعلى رأسه، فقال: ما يفعل الله بـ عمر وابنة عمر، فنزل جبريل وقال: يا رسول الله! إن الله يأمرك أن تراجع حفصة؛ لأنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة).
وهل ينبت الخطي إلا وشيجة ويزرع إلا في منابته النخلُ وسيدنا عثمان بن عفان الذي نزل فيه قول الله عز وجل: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} [الزمر:9].
انظر إلى هذه الآية فهي طيبة كشأن من أنزلت فيه، لما قتل الثوار المصريون سيدنا عثمان دخلت عليهم نائلة بنت الأحوص بن الفرافصة الكلبية زوجته، وقالت: قتلتموه، وإنه كان يحيي الليل كله بالقرآن كله في ركعة واحدة.
قال الشيخ شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط وغيرهما من المحدثين: إسناده جيد، والعلماء بوبوا باب: من أوتر بركعة واحدة ختم فيها القرآن.
وسيسألني أحدكم ويقول: أين أنت من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث).
قال العلامة ابن رجب الحنبلي في كتابه (لطائف المعارف) هذا إذا كان فعله على الدوام، أما في الأيام التي يرجى فيها الخير، ويستحب فيها كثرة الدعاء فيجوز الختم في أقل من ثلاث، بل ويستحب، وعليه عمل الشافعي وقول أحمد وإسحاق بن راهويه.
ويأتي الآن شخص يقول لك: أنا سلفي، وأنا مشغول عن قيام الليل بالأسانيد والمتون والعلل، أقول له: لا، لا تكون سلفياً أبداً، نام عند الإمام أحمد أحد طلاب العلم فوضع أحمد له ماءً، فلما قام الصباح وجد الماء كما هو، فقال الإمام: بئس طالب العلم لا يكون له ورد بالليل! وسيدنا أبو هريرة قسم الليل أثلاثاً هو وزوجه وخادمه، فإذا قام هذا نام هذا، وكانت له في النهار اثنتا عشرة ألف تسبيحة، ويقول: إنما أسبح بقدر ذنوبي! وفي الصحابة كثيرون منهم: معاذ بن جبل وأبو الدرداء وشداد بن أوس وكان عبد الله بن الزبير إذا سجد يأتي حمام المسجد فيحط على ظهره.
وهذا تميم الداري يقول أبناء الصحابة: أدركنا تميماً الداري فما قمنا ولا قعدنا إلا وهو في صلاة.
وهذا الإمام أحمد كان يحيي الليل هو وغلامه، والإمام الشافعي قسم الليل أثلاثاً، وأبو حنيفة كان يصلي عامة الليل.
ويزيد بن هارون شيخ الإمام أحمد قيل له: ما فعلت العينان الجميلتان يا أبا خالد؟ قال: ذهب بهما بكاء الأسحار.
وهذا شعبة يبس جلده على عظمه من قيام الليل.
وهذا سفيان الثوري يقول عنه عبد الرحمن بن مهدي: ما صاحبت رجلاً من الناس أرق من سفيان الثوري، كنت أرقبه في الليل يقوم فزعاً مرعوباً ويقول: النار النار! ويقول: اللهم إنك تعلم أنه لو كان لي عذر في التخلي ما أقمت مع الناس طرفة عين، اللهم إن كلاً في حاجته وإن حاجة سفيان أن تغفر له.
وهذا نور الدين محمود زنكي وصفه ابن كثير وابن الأثير أنه كان مدمناً على قيام الليل، والناس اليوم يدمنون الآن على (الهيروين) و (الكوكايين) وهذا كان مدمناً على قيام الليل، وكذلك كانت زوجته عصمت الدين بنت الأتابك، فهي كانت زوجة ملك، يقول عنها: هبت ذات ليلة غاضبة من نومها، فسألها عن سر غضبها، قالت: فاتني وردي البارحة فلم أصل من الليل شيئاً.
وهذه المرأة لما مات عنها نور الدين محمود زنكي تزوجها صلاح الدين الأيوبي.
ونور الدين محمود زنكي قال عنه العلامة ابن كثير: إن أحد المسلمين دخل بيت المقدس أيام أخذ الفرنجة فقالوا: نور الدين محمود زنكي لا ينصر علينا بكثرة عتاده وجنده، لأنه قتل منهم في موقعة حلب ثلاثين ألف، وكان يعد العدة لفتح بيت المقدس قالوا: نور الدين لا ينصر علينا بكثرة عتاده وجنده، وإنما لأنه يصف قدمه ليلاً بين يدي مولاه، فلا بد أن ربه ناصره علينا.
قال ابن كثير وابن الأثير: فهذه شهادة الكفار فيه.
وصلاح الدين الأيوبي يقول عنه ابن شداد: كان يطوف الأمصار وعيناه تذرفان الدموع يقول: يا للإسلام يا لعكا، يا للإسلام فإذا آواه الليل يأتي إلى سجادته وتتقاطر دموعه على جبينه وفي مصلاه، وأسمعه يقول في سجوده: إلهي! قد انقطعت الأسباب الأرضية عن نصرة دينك، وليس لي إلا الإخلاف إلى جلالك، يقول: فوالله ما ينبثق الفجر إلا ومعه خبر النصر على الأعداء الجراحات تستغيث وتشكو ملء سمع الوجود قم يا صلاح وبعد: يا داعية الإسلام! من جد وجد، وليس من سهر كمن رقد، أين رجال الليل؟ أين ابن أدهم والفضيل؟ ذهب الأبطال وبقي كل بطال، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من قام الليل بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام الليل بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام الليل بألف آية كتب من المقنطرين) والمقنطرون: من لهم قنطار من الأجر، والقنطار من الأجر خير من الدنيا وما فيها، إما أن يكون من المقنطرين، وإما أن يكون من الذين يحملون الطين.
أنت القتيل بكل من أحببته فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني: عدد آيات جزء تبارك وجزء عم ألف آية.
اللهم اكفنا من النوم باليسير، وارزقنا سهراً في طاعتك، وبغض إلينا ساعات أكلنا وشربنا ونومنا، واكفنا من النوم باليسير، وسهرنا على ما نامت عنه أعين الغافلين، وارزقنا حبك وحب من أحبك، وحب كل عمل يقربنا إلى حبك.
اللهم بك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نرجو فلا تحرمنا، وببابك نغدو فلا تطردنا، اللهم أنت أصلحت الصالحين، فاجعلنا من الصالحين.
اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام! اللهم صل على عبدك ونبيك، اللهم وحد صفوفنا على منهاج نبيك، اللهم لا تشمت بنا أعداءنا، ولا تسئ بنا إخواننا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

(30/8)









رد مع اقتباس