إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيرا …
أما بعد
أيها الناس اتقوا الله تعالى وقوموا بما أوجب الله عليكم من حقوقه وحقوق عباده وأعلموا أن من أعظم حقوق العباد عليكم حقوق الوالدين وحقوق الأقارب فقد جعل الله تعالى حق الوالدين في المرتبة الثانية التي تلي حق الله عز وجل حيث قال الله تعالى (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى)(النساء: من الآية36) وقال تعالى (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً )(الاسراء: من الآية23) وأوصى وصية خاصة بالوالدين فقال (وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ )(العنكبوت: من الآية8) وبين العلة في ذلك حثاً للأولاد على الإعتناء بهذه الوصيفة فقال (وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ )(لقمان: من الآية14) أي ضعفاً على ضعف ومشقة على مشقة في الحمل وعند الولادة ثم في حبله في حجرها وإرضاعها قبل انفصال قال الله تعالى (وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)(لقمان: من الآية14) ولقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم بر الوالدين مقدماً على الجهاد في سبيل الله ففي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله قال ( الصلاة على وقتها ) قلت ثم أي قال ( بر الوالدين ) قلت ثم أي قال ( الجهاد في سبيل الله ) وفي صحيح مسلم أن رجلاً أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( فهل من والديك أحد حي ) قال نعم كلاهما حي يا رسول الله قال
( فابتغي الأجر ) قال ( فابتغي الأجر ) قال ( أفتبتغي الأجر من الله ) قال نعم قال ( فأرجع إلى والديك فأحسن صحبتهما ) وفي حديث إسناده جيد أن رجلاً قال يا رسول الله إني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه فقال ( هل بقي من والديك أحد ) قال نعم أمي قال ( قابل الله في برها فإذا فعلت فأنت حاج ومعتمر ومجاهد ) ولقد أوصى الله تعالى بصحبة المعروف بالوالدين وإن كانا كافرين فقال جل وعلا (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيّ)(لقمان: من الآية15) وفي الصحيحين عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت قدمت علي أمي وهي مشركة وكان أبو بكر قد طلقها في الجاهلية فقدمت على ابنتها أسماء في المدينة بعد صلح الحديبية قالت أسماء فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله قدمت علي أمي وهي راغبة أي راغبة في أن أصلها بشئ أفأصل أمي يا رسول الله ( قال نعم صلي أمك ) فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تصل أمها مع أن أمها مشركة أيها المسلمون إن بر الوالدين يكون ببذل المعروف والإحسان إليهما بالقول والفعل والمال أما الإحسان بالقول فأن تخاطبهما باللين واللطف مستقطباً كل لفظ طيب يدل على اللين والتكريم وأما الإحسان بالفعل فأن تخدمهما ببدنك ما استطعت من قضاء الحوائج والمساعدة على شئونهما وتيسير أمورهما وطاعتهما في غير ما يضرك في دينك أو دنياك والله تعالى أعلم بما يضرك في دينك ودنياك فلا تؤذي نفسك في شئ لا يضرك بأنه يضرك ثم تعصهما في ذلك وأما الإحسان في المال فأن تبذل لهما من مالك كل ما يحتاجان إليه طيبة به نفسك منشرحاً به صدرك غير متبع له بمنة ولا أذى فلتبذله وأنت ترى أن المنة لهما في ذلك في قبوله والإنتفاع به وإن بر الوالدين كما يكون في حياتهما يكون أيضاً بعد وفاتهما فقد أتى رجل من بني سلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شئ أبرهما بعد موتهما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( نعم الصلاة عليهما ) يعني الدعاء لهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما أي إنفاذ وصيتهما من بعدهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما ) رواه أبو داود الدعاء لهما بأن تسأل الله لهما الرضا والجنة والاستغفار لهما بأن تقول اللهم أغفر لوالدي وإنفاذ عهدهما أي الوصية أن تنفذ وصيتهما على الوجه الذي نص عليه إلا إذا كان مخالفاً للشرع وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما أي صلة أقارب والدي وإكرام صديقهما أي صديقهما في حياتهما فالله أكبر ما أعظم بر الوالدين وأشمله حتى إكرام صديقهما وصلته من برهما وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يسير في طريق مكة راكباً على حمار يتروح إذا مل الركوب على الراحلة فمر بهم أعرابي فقال ألست فلان ابن فلان قال بلى فأعطاه ابن عمر الحمار وقال اركب هذا وأعطاه عمامة كانت عليه وقال اشدد بها رأسك فقالوا لابن عمر غفر الله لك أعطيته حماراً كنت تروح عليه وعمامة تشد بها رأسك فقال ابن عمر إن أبا هذا كان صديقاً لعمر وإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( إن من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه ) أيها المسلمون هذا بيان منزلة البر وعظيم مرتبته أما أثار البر فهي الثواب الجزيل في الآخرة والجزاء بمثله في الدنيا فإن من بر بوالديه بر به أولاده ومن ثوابه في الدنيا تفريج الكربات ففي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما في قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار فدخلوه فسقطت عليهم صخرة من الجبل فسدت الغار عليهم فتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم أن يفرج عنهم فقال أحدهم اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغدق قبلهما أهلاً ولا مالا فنأى بي طلب الشجر يوماً فلم أرح عليهما حتى ناما فحدقت غفوتهما فوجدتهما نائمين فلبست والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر فاستيقظا فشربا غفوقهما اللهم إن كنت فعلت ذلك لأجل ابتغاء وجه ربك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت قليلاً وتوسل صاحباه بصالح من أعمالهما فانفجرت كلها وخرجوا يمشون وإن في بر الوالدين سعة الرزق وطول العمل وحسن الخاتمة فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من سره أن يمد له في عمره ويوسع له في رزقه ويدفع عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه ) إسناده جيد وبر الوالدين أعلى صلة الرحم لأنهما أقرب الناس إليك رحماً أيها المسلمون إنه لا يليق بعاقل مؤمن أن يعلم بفضل بفضل بر الوالدين وأثاره الحميدة في الدنيا والآخرة ثم يعرض عنه ولا يقوم به أو يقوم على العكس من ذلك فيبادر والديه بالعقوق والقطيعة فلقد نهى الله تعالى عن عقوق الوالدين في أعظم حال يشق على الولد برهما فيها فقال (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً)(الاسراء: من الآية23) أي طيباً ليناً (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) (الاسراء:24) ففي حال بلوغ الوالدين كبر يكون منهما الضعف البدني والعقلي وربما وصلا إلى أرذل العمر الذي هو سبب للضجر والملل منهما وفي حال كهذه نهى الله الولد أن يتضجر أقل تضجر من والديه وأمره أن يقول لهما قولاً كريما وأن يخفض لهما جناح الذل من الرحمة فيخاطبهما مخاطبة من يستصغر نفسه أمامهما ويعاملهما معاملة الخادم الذي ذل أمام سيده رحمة بهما وإحساناً إليهما ويدعو الله لهما بالرحمة كما رحماه في صغره ووقت حاجته فربياه صغيراً أيها المؤمنون إن على المؤمن أن يقوم ببر والديه وأن لا ينسى إحسانهما إليه حين كان صغيراً لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرا أمه تسهر الليالي من أجل نومه وترهق بدنها من أجل راحته وأبوه يجوب البيات ويتعب فكره وعقله وجسمه من أجل حصوله على معاشه والإنفاق عليه ولكل منهما بر بجزاء عمله ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي أو صحبتي قال ( أمك ) قال ثم من قال
( أمك ) قال ثم من قال ( أمك ) قال ثم من قال ( أبوك ) اللهم وفقنا جميعاً لبر أمهاتنا وآبائنا اللهم وفقنا جميعاً لبر أمهاتنا وآبائنا في الحياة وبعد الممات اللهم ارزقنا في ذلك الإخلاص وحسن القصد والسداد إنك جواد كريم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم …
.................................للشيخ العثيمين..........................................