منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - البدع و أثرها السيئ في الأمة
عرض مشاركة واحدة
قديم 2012-09-15, 10:54   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
عبد العزيز الرستمي
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية عبد العزيز الرستمي
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الضابط الرابع: البدعة ما توافر دافعه وارتفع مانعه زمن النبوة:

لقد أشار الإمام الشاطبي في كتابه النفيس الموافقات إلى أمر دقيق جداً فيما يتعلق بسكوت الشارع عن تشريع أمرٍ ما، أو بيان شرعية العمل به مع قيام المعنى المقتضي له، حيث نبه إلى أن سكوت الشارع عن الحكم يكون على ضربين اثنين؛ أحدهما أن يسكت الشرع عن الحكم لأن الداعي إليه والمقتضي له لم يوجد زمن النبوة، وإنما حدثت النازلة المقتضية لهذا الحكم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا القسم تجري فروعه على أصول الشرع المقررة، فيعرف الحكم من جهتها بالنظر الصحيح والقياس ونحوه، والضرب الثاني هو ما سكت الشارع عنه مع وجود المقتضي له زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يقرر له حكماً زائداً على ما كان في زمانه صلى الله عليه وسلم، فهذا الضرب من السكوت فيه كالنص على أن قصد الشارع أن لا يزاد فيه ولا ينقص، لأنه لما كان هذا المعنى الموجب لتشريع الحكم العملي موجوداً ثم لم يشرع الحكم دلالةً عليه، كان ذلك صريحاً في أن الزائد على ما كان هنالك – أي زمن النبوة – بدعة زائدة ومخالفة لما قصده الشارع.[57]
وهذا الذي أشار إليه الإمام الشاطبي في غاية الحسن، ولعله يحتاج إلى تحرير بسيط فأقول والله المستعان إن هذه الشريعة شريعة كاملة تفي حاجة الناس إلى آخر الزمان، وإن النوازل المقتضية لحكم الشرع عليها لا تنتهي، فمنها ما قد حدث زمن الوحي ومنها ما يحدث بعد زمن الوحي، فأما ما يحدث بعد الزمن الوحي ولا سابق له في زمن الوحي فلا يخرج عن كونه جزئية أو فرعاً له أصلٌ في الشرع مقررٌ بحيث يمكن قياسه أو تخريجه عليه، ودليل ذلك نصوص الشرع الناطقة بكمال التشريع وبلزومه للناس إلى قيام الساعة، وهذا أمر مستفيض بل معلوم من الدين بالضرورة، وأما ما حدث زمن الوحي فهذا قد حكم الشرع عليه إما صراحةً أو ضمناً، فأما صراحة فببيان الحكم عليه كما حدث في مسألة الأسرى يوم بدر مثلاً، وأما ضمناً فبالسكوت عنه مع وجود ما يقتضيه وهذا السكوت على درجات هي:
1- إما أن يكون السكوت عن حدٍ زائد على ما قرره الشرع: ومثال ذلك التشريعات العملية المتعلقة بحب الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن المقتضي الشرعي والعقلي لحب الرسول صلى الله عليه وسلم موجود زمن الوحي، وقد أقر الشرع التشريعات العملية المتعلقة بالدلالة على هذا الحب كتفضيله صلى الله عليه وسلم على النفس وكالصلاة عليه وكعدم رفع الصوت بحضرته وعدم مناداته باسمه مجرداً، وسكت عما سوى ذلك كالاحتفال بيوم مولده ونهى عن صراحة عن بعض ذلك كالسجود له، فدل هذا السكوت على عدم مشروعية هذا الحد الزائد، لأنه لو كان مشروعاً لما سكت عنه الشارع كما أنه لم يسكت عن الصلاة عليه وعدم رفع الصوت بين يديه ونحو ذلك.
2- وإما أن يكون السكوت عن الأمر بالكلية ولربما كان الداعي والمقتضي له موجوداً ولكن ثمة موانع من تشريع العمل، ومثال ذلك جمع المصحف فإن الداعي له هو الحفظ وهذا الداعي لا شك أنه موجود زمن النبوة، ولكن منع من تقرير حكمه استمرار الوحي، فلما انقطع الوحي بموت النبي صلى الله عليه وسلم ارتفع المانع وبقي الدافع موجوداً، واحتاج الناس لأمر فوق ما كان مشروعاً زمن النبوة من حفظ وكتابة مفرقين في الصدور والسطور، فكان الأمر بجمع المصحف نوعاً من المصلحة المرسلة، ولا لعلاقة له بالبدعة البتة، وقل مثل هذا فيما أحدثه المسلمون من دواوين ووزارات وأنظمة للدولة ونحو ذلك.

ولعل البعض يقول بعد هذا كله ، وما الدليل على كل ما تقدم؟ والجواب أن الدليل قد تقدم حيث أشرنا إلى أن كمال الشريعة يقتضي هذا الذي قرره الإمام الشاطبي ، فلقد قال الله تعالى:" اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً"[58]، فكون الشريعة كاملة يستلزم ما ذكرناه من أن كل الأحكام التي يحتاجها المكلفون قد بينها الشرع إما صراحةً أو ضمناً ، وإما بذكر آحادها أو بتقرير الأصول التي تتفرع عليها هذه الآحاد والجزئيات، ويشهد لهذا أيضاً حديث النبي صلى الله عليه وسلم قال:" ما بقي شيء يُقرِّب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بُيِّن لكم"[59]، وذكره المنذري عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ليس من عمل يقرب من الجنة إلا قد أمرتكم به ولا عمل يقرب من النار إلا وقد نهيتكم عنه"[60]، قلت: وهذا يصلح أن يكون دليلاً عاماً على ما ذكرنا، ويدل عليه كلام الشاطبي رحمه الله حيث قال:" ودل على أن وجود المعنى المقتضي مع عدم التشريع دليل على قصد الشارع عدم الزيادة على ما كان موجوداً قبل، فإذا زاد الزائد ظهر أنه مخالفٌ لقصد الشارع فبطل"[61]، فإذا نظرنا إلى الداعي للتشريع عموماً وجدنا الرسول صلى الله عليه وسلم قد صرح به في الحديث ألا وهو القرب من الجنة والبعد من النار، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بكل ما حكم به الشرع من أحكام عملية تدل على ما يقتضيه هذا الدافع، وعليه فإن كل ما يأتي به أحد مما لم يَرِد عن طريق الشرع فإنه لا يحقق مقصود الشرع ولا يدل على مقتضاه، وإن من أتى ببدعة يزعم أنه تقرب إلى الله تعالى فقد كذَّب محمداً صلى الله عليه وسلم في قوله إنه بين لنا كل ما يقرب من الجنة ويبعد من النار حاشاه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، والذي يطالب بدليل بعد هذا فإنما هو مُكابرٌ جَحود لا شأن لنا به.

بهذا تجتمع لنا أربعة ضوابط تبين لنا حد البدعة بياناً شافياً يمكن أن نلخصه بقولنا : البدعة هي التعبد لله تعالى بما ليس له أو لصفته أصل في الشرع بالفعل أو الترك وكان الداعي إليه موجوداً والمانع مفقوداً زمن الوحي.
ولقد أطلت في هذا المطلب قليلاً لأن موضوع البحث كله مفرعٌ عليه، إذ لا يمكن المضي في بيان الأثر السيء للبدعة على الأمة قبل أن تتصور ماهية البدعة اصطلاحاً، ويستقر في الأذهان قبح هذه البدع شرعاً وعقلاً، وهنا مسألة وهي أنه لما أطلنا النفس في بيان وتحرير ضوابط البدعة فكذلك يجب أن يكون الدعاة إلى طريق السنة طويلي النفس مع من تلبسوا بالبدع، لا يأخذونهم بالشدة في موضع الرأفة ولا يحملونهم على الظن السيء ما وسعهم الظن الحسن، وليكن حال الداعي إلى السنة مع من خالف رسم النبوة كحال الطبيب مع المريض تلبسه المرض فجعل يترك الدواء تبرماً ويعرض عنه تسخطاً، ولكنه في قرارة نفسه محتاج لهذا الدواء لا غني له عنه – بعد الله – في صلاح نفسه وبدنه، فليتأمل.

المبحث الثاني: أثر البدعة في الأمة :

إذا علم أن البدعة ليست من الشرع فهي بالضرورة مضادة له، والدليل على ذلك أن الشرع قد حذر من هذه البدع ونهى عنها، ومعنى هذا أن البدعة ليست من أمور المباح التي يسع المرء فعلها أو تركها، بل هي من جنس المرض الذي لا بد من استئصاله لصلاح البدن، ولعل هذا المبحث الذي نستعرض فيه آثار البدع يؤكد لنا هذه الحقيقة بما لا يدع مجالاً للشك إن شاء الله تعالى. ولسوف أستهل هذا المبحث إن شاء الله ببيان الأثر العام المترتب على ظهور البدع والانتساب إليها والاجتماع عليها في مقابل منهج أهل الحق، ثم أستعرض بتفصيل مناسب بعض الآثار المترتبة على ظهور البدع في الأمة.

المطلب الأول: أثر البدعة في ظهور التفرق والاختلاف في الأمة:

لقد صح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" تفرقت اليهود على إحدى وسبعين أو اثنتين وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة"[62]، ولقد جاء هذا الحديث بروايات عدة خرجها الإمام الزيلعي رحمه الله حيث قال :" في الحديث (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة وهي الناجية وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين كلها في الهاوية إلا واحدة) قلت[63]: روي من حديث أبي هريرة ومن حديث أنس ومن حديث سعد بن أبي وقاص ومن حديث معاوية ومن حديث عمرو بن عوف المزني ومن حديث عوف بن مالك ومن حديث أبي أمامة ومن حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهم"[64] ثم أخذ يسرد هذه الطرق عن هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم، ولعلي أثبت هنا ما ذكره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة"[65]، قال الترمذي حديث حسن صحيح وزاد الترمذي كلهم في النار إلا ملة واحدة قالوا من هي يا رسول الله قال ما أنا عليه وأصحابي"[66]، وإنما أثبت هذه الزيادة لأهميتها في تحرير ضابط الفرقة كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
هذا الحديث هو حديث الباب كما يقال، ولقد اعتنى العلماء والمحققون به سنداً ومتناً بما لا مجال للخوض فيه في هذه العجالة، وموضع الشاهد في بحثنا هذا هو حصول الافتراق في أمة محمد صلى الله عليه وسلم مع تحرير ضابط هذا الافتراق ألا وهو مخالفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولعل هذا الضابط قد جاء صريحاً في حديث الصحيح عند مسلم من حديث حذيفة بن اليمان يقول: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شر؟ قال:"نعم". فقلت : هل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال:" نعم، وفيه دخن" قلت: وما دخنه؟ قال:"قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر" فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال:" نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها" فقلت: يا رسول الله صفهم لنا. قال:" نعم، قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا" قلت: يا رسول الله، فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال:" تلزم جماعة المسلمين وإمامهم". فقلت : فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال:" فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك" [67].
فهذان الحديثان يقرران لنا جملة من الأصول المهمة في مسألة الافتراق منها :
1- إن هذا الافتراق حاصل في الأمة قدراً لا أنه مرضي شرعاً، بل إن توطئة الخبر بذكر ما كان من الافتراق في بني إسرائيل دليل على أن سبب هذا الافتراق مخالفة الأمر الشرعي بلزوم السنة، وهذا ما عبر عنه الإمام الشاطبي رحمه الله بقوله إن الاختلاف المقصود في هذا الباب هو الاختلاف الكسبي [68]
2- إن البدعة التي تؤدي بأهلها إلى هذا النوع من الافتراق تكون مخالفتها للملة الناجية في معنى كلي في الدين وقاعدة من قواعده، لا في جزئي من الجزئيات اللهم إلا أن تكثر الجزئيات فإنها حينئذٍ تجري مجرى الكلي[69]، ويمكن الاستدلال على هذا باستدلال لطيف من حديث الافتراق المتقدم؛ فأنت ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر افتراق بني إسرائيل ثم ذكر افتراق النصارى وزادهم فرقة ثم ذكر افتراق أمة الإسلام وزادهم فرقة، فإذا اعتبرنا أن المقصود بأمته صلى الله عليه وسلم أمة الدعوة – وهو وجه في هذا الحديث – فإننا نرى أن اليهود افترقوا إحدى وسبعين فرقة إلى أن جاءهم عيسى عليه السلام فآمنت به طائفة وكفرت طائفة فكانت هذه التي كفرت به فرقة جديدة افترقت على أمر كلي في الدين يتعلق بالإيمان بنبي من أنبياء الله عز وجل هو عيسى عليه السلام، فأصبحوا ثنتين وسبعين فرقة، ثم جاء النبي محمد صلى الله عليه وسلم فآمنت به طائفة من النصارى وكفرت طائفة، فهذه التي كفرت بمحمد صلى الله عليه وسلم قد أحدثت أمراً في مسألة كلية من مسائل الدين وفارقت الجماعة بالكفر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم الذي يجدونه في كتابهم فزادت الفرق فرقة أخرى، ولست أقصد بهذا التأمل أن أثبت مفهوم عدد السبعين لأن الراجح فيه أنه لمطلق التكثير كما هو عند العرب، وإنما أردت أن أثبت أن ذكره صلى الله عليه وسلم فرقة زائدة في كل أمة إضافة إلى السبعين يقوي اعتبار مفهوم هذا العدد الزائد عن السبعين، ولا وجه لاعتباره إلا ما ذكرت من كفر طائفة من هذه الأمم بالنبي الذي بعث إليهم آخراً[70]، ووجه الدلالة هنا أن الافتراق إنما حصل بالاجتماع على أصل كلي بدعي فارقت به الفرقة منهج أهل الحق، والله تعالى أعلم.
3- إن ضابط الفرقة إذاً هو الاجتماع على أصل بدعي تفارق به جماعة المسلمين منهجاً أو حساً أو منهجاً وحساً، وهذا صريح في قوله صلى الله عليه وسلم :" قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر"[71]، وهو ما يشعر به قوله صلى الله عليه وسلم في بيان صفة الملة الناجية حيث قال:" ما أنا عليه وأصحابي"[72] فهذا يُفهم بالمخالفة أن ما ليس على نهجه صلى الله عليه وسلم ونهج صحابته فإنه ليس من الملة الناجية، وقد تقدم أن هذا الأصل البدعي إما أن يكون كلياً من الدين أو يكون اجتماع جزئيات كثيرة فينزل منزلة الكلي بسبب ما يؤول إليه من معارضة قسم كبير من الدين.









رد مع اقتباس