1- العلاقة بين الحضارة والاقتصاد:
لقد تم تعريف الحضارة في لسان العرب بأنها العملية التي تمكن من الإقامة بالأحياء والمدن. ويرى الكتامي بأن الحضارة تغير من حياة البدو.
وفي هذا المضمار، كتب ابن خلدون في " المقدمة" بأن " حضارة البدو" هي التي تؤدي إلى نشأة حضارة المدن .... فالحياة تتطور تدريجيا جاعلة العادات وحالات الثراء تتعمم أيضا. وهو ما يعطي للحضر وخاصة السلطان والحاشية الفرص للتمتع بالنعم من حيث التفاخر بالأكلات الشهية والأواني والألبسة الفاخرة و الأثاث والمفروشات الرفيعة، مع القدرة على تطوير التطبيقات التقنية. وهكذا تصبح الحضارة متمدنة لتبلغ ذروتها.
أما د. يوسف القرضاوي فلقد أثار مسألة الحضارة وعلاقتها بالإسلام، حيث استنتج بأن المفهوم يغطي مظاهر التطور المادي والعلمي والفني والأدبي والاجتماعي لأمة متكاملة، مع احترام الهوية أو الذات.
كما أنه استنتج اعتماد التصور الاسلامي للحضارة على ثلاثة مستويات وهي:
العقيدة أو المذهب،
التطبيقات الحضارية،
والبناء الحضاري.
وتجدر الإشارة إلى كون المفكرين المسلمين في العصر الحديث، قد عمدوا إلى تشخيص مشاكل الأمة الإسلامية ربطا بالعقيدة وبتعدد الأبعاد الحضارية. وهو ما ذهب إليه المفكر الإسلامي والجزائري مالك بن نبي.
ومن ثم، تتمثل المراحل الحضارية فيما يلي:
المرحلة الأولى التي تشمل المكونات التالية:
بزوغ فكرة دينية التي من شأنها تركيب عناصر الطاقة الحيوية للأفراد، يصبح هؤلاء يتمتعون بالحركة والنشاط بحيث يتحررون من هيمنة الغريزة.
لقد ربط المفكر الإسلامي مالك بن نبي بين النشاطات الحضارية ومنها البعد الاقتصادي وذلك دون التخلي عن الظاهرة الاجتماعية التي تعد بمثابة المحور الأساسي لتكوين الحضارة وتطورها، الكل في ظل الثقافة الإسلامية
ثم تنقل هذه الحرية على مستوى المجتمع لتبني وتكثف من العلاقات الاجتماعية. وهو ما عبرت عنه مرحلة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وكذا للخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم، حيث أصبح المجتمع اللإسلامي " كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا".
أما المرحلة الثانية فهي تتمحور حول المكونات الآتية:
تفاقم المشاكل المادية للأفراد والمجتمع بتقلص قدرات السيطرة الروحية على الغرائز،ومن ثم توسعت دائرة التحكم العقلي في الإلمام بالمشاكل الاجتماعية.
وتتجسد هذه المرحلة في العهد الأموي الذي أظهر " منعطف العقل" على الروح.
كما عبر ذلك عن حدوث تناقض بين الفكرة الدينية والغرائز حتى ولو أن العلوم والفنون شهدت ازدهارا والحضارة بلغت أوجها. وهو ما يفسر المواكبة مع فترة الحكم العباسي.
ثم تأتي المرحلة الثالثة التي تتلخص في تفاقم الفجوة بين القيم الروحية والعناصر المادية، بحيث أن الغرائز والعقل تواصل هيمنتها على التوجه الحضاري آخذا " منعطف الانحطاط"، الذي من خصوصياته انحلال المجتمع وتفكك " شبكة العلاقات الاجتماعية". وهكذا تكتمل " الدورة الحضارية".
من جهة أخرى، ينظر مالك بن نبي إلى الحضارة كونها حدث معقد يتأسس من ثلاثة عوامل، أي الإنسان والأرض والزمن. حيث أن الإنسان يمثل الكائن الاجتماعي، وحيث أن الأرض محددة بشروط عدة، ثم إن الزمن قابل للتكامل مع المعاملات الاقتصادية ومنها الصناعية، ثم الاجتماعية.
فهذه المكونات هي التي تساهم في إقامة الحضارة وهي بمثابة " ناتج حضاري = إنسان + تراب + وقت".
فالعناصر المذكورة هي التي تمكن وتساهم في بناء أو إقامة الحضارة مع العمل على تطويرها إذا ما اقترنت وتفاعلت وانسجمت مع الدين أو القيم الروحية.
ولكن الأمة الإسلامية أو " العالم الإسلامي" بعد الخضوع للانحطاط والاستعمار، اتضح بأنه " يعمل على جمع أكوام من منتجات الحضارة" الغربية، أكثر ما تنتجه وتساهم في توفير شروط النهضة. ويصبو مالك بن نبي إلى إعادة بناء الحضارة الإسلامية على أساس التخطيط لها والاقتصاد في الزمن، مع ضرورة توفير العناصر الأساسية لها، وخاصة الدين الذي يلعب الدور الأساسي والمهم والمحرك للحضارة، لأنه يعمل على تركيب عواملها.
من جهة أخرى، لقد تطرق المفكر الإسلامي مالك بن نبي للاقتصاد كعنصر من عناصر الحضارة عامة والإسلامية على وجه الخصوص. حيث أن هذا النشاط يمثل جزءا مهما من العمارة وهي رؤية كلية. كما أنه عامل أساسي يؤثر على حياة المسلم لتكوين معادلته الشخصية ومصير الأمة الإسلامية الباحثة عن المعادلة الاجتماعية.
يصبو مالك بن نبي إلى إعادة بناء الحضارة الإسلامية على أساس التخطيط لها والاقتصاد في الزمن، مع ضرورة توفير العناصر الأساسية لها، وخاصة الدين الذي يلعب الدور الأساسي والمهم والمحرك للحضارة
أكما يمكن ملاحظة المنهج المتبع والذي تركز على استقراء الوقائع الاقتصادية التي أدت إلى وضع تصور حضاري يشمل الاقتصاد بحيث أن النموذج الحضاري أصبح متداخلا فيما بين أوجه الحضارة المتنوعة ومنها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية إلخ... وبما أن الحضارة عند مالك بن نبي أخلاقية وإسلامية بالخصوص، تجدر الإشارة إلى ما يلي:
أن الدين هو الأساس والمحرك للتنمية الشاملة بحيث أن باقي النشاطات ما هي إلا تابعة وخادمة أو تدخل في دائرة الإسلام.
ثم أن الاقتصاد ما هو إلا عنصر مكمل رغم أهميته المعاصرة.
فكأن الأبعاد الحضارية مصممة ومرتبة وفق منظومة " مقاصد الشريعة" التي تضع الأولويات الحضارية بأنها تحفظ كليات الدين والعرض ( أو النسل) والحياة ( أو النفس) والعقل والمال، وذلك ضروريا وحاجيا وتحسينيا أو تكميليا.
فبالنسبة للمشكلة الاقتصادية المثارة من قبل المفكر، فهي منبثقة من كتابه " فكرة الإفريقية – الآسيوية" ثم تواصلت وهي مدونة أيضا في كتابه " المسلم في عالم الاقتصاد. ففي الكتاب الأول يؤكد مالك بن نبي على " مبادئ اقتصاد أفروآسيوي فعال"، حيث يستعرض مقولة " لكياونين وزير صناعة بورما : " إن هدفنا الأول هو أن نوفر لشعبنا الغذاء و الكساء". وهي مقولة تواكب المجهودات الفكرية لعلماء الاقتصاد المعاصرين مثل " فرانسو بيرو" الفرنسي الذي عرف الاقتصاد الإنساني بأنه يوفر للإنسان الغذاء واللباس والصحة والتعليم وصولا إلى التنمية الشاملة.