منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - الريف......اكثرُ انسانيةً من المدينة
عرض مشاركة واحدة
قديم 2012-08-31, 00:46   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
فوستر بيزيه
عضو مجتهـد
 
الصورة الرمزية فوستر بيزيه
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الفصل الرابع في أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر





و سببه أن النفس إذاكانت على الفطرة الأولى كانت متهيئة لقبول

ما يرد

عليها و ينطبع فيها من خير أوشر

قال صلى الله عليه و سلم: كل
مولود يولد على الفطرة فأبواه
يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه

و بقدر ما سبق إليها من أحد الخلقين تبعد عنالآخر و يصعب عليها اكتسابه فصاحب الخير إذا سبقت إلى نفسه عوائد الخير و حصلت لهاملكته بعد عن الشر و صعب عليه طريقة و كذا صاحب الشر إذا

سبقت إليه أيضاً عوائده و
أهل الحضر لكثرة ما يعانون من فنون الملاذ و عوائد الترف و الإقبال على الدنيا والعكوف على شهواتهم منها و قد تلونت أنفسهم بكثير من مذمومات الخلق و الشر و

بعدت
عليهم طرق الخير و مسالكه بقدر ما حصل لهم من ذلك حتى لقد ذهبت عنهم مذاهب الحشمةفي أحوالهم فتجد الكثير منهم يقذعون في أقوال الفحشاء في مجالسهم و بين كبرائهم وأهل محارمهم لا يصدهم

عنه و ازع الحشمة لما أخذتهم به عوائد السوء في التظاهر
بالفواحش قولاً و عملاً و أهل البدو و إن كانوا مقبلين على الدنيا مثلهم إلا أنه فيالمقدار الضروري في الترف و لا في شيء من أسباب الشهوات

و اللذات و دواعيها
فعوائدهم في معاملاتهم على نسبتها و ما يحصل فيهم من مذاهب السوء و مذمومات الخلقبالنسبة إلى أهل الحضر أقل بكثير فهم أقرب إلى الفطرة الأولى و أبعد عما ينطبع فيالنفس

من سوء الملكات بكثرة العوائد المذمومة و قبحها فيسهل علاجهم

عن علاج الحضر و
هو ظاهر و قد يتوضح فيما بعد أن الحضارة هي نهاية العمران و خروجه إلى الفساد ونهاية الشر و البعد عن الخير فقد تبين أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر والله يحب المتقين و لا يعترض على ذلك بما ورد فيصحيح البخاريمن قول الحجاج لسلمة بن الأكوع و قد بلغة أنه خرج إلى سكنى البادية

فقال له
ارتددت على عقبيك تعربت فقال لا و لكن رسول الله صلى الله عليه و سلم أذن لي فيالبدو فاعلم أن الهجرة افترضت أول الإسلام على أهل مكة ليكونوا مع النبي صلى اللهعليه و سلم حيث حل من المواطن ينصرونه و يظاهرونه على أمر و يحرسونه و لم تكن واجبةعلى الأعراب أهل البادية لأن أهل مكة يمسهم

من عصبية النبي صلى الله عليه و سلم في
المظاهرة و الحراسة مالا يمس غيرهم من بادية الأعراب و قد كان المهاجرون يستعيذون

بالله من التعرب و هو سكنى البادية حيث لا تجب الهجرة و قال صلى الله عليه و سلم في
حديث سعد بن أبي وقاص عند مرضه بمكةاللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم

و معناه أن يوفقهم لتلازمه المدينة و عدم التحول عنها
فلا يرجعوا عن هجرتهم التي ابتدأوا بها و هو من باب الرجوع على العقب في السعي إلىوجه من الوجوه و قيل أن ذلك كان خاصاً بما قبل الفتح حين كانت الحاجة داعية إلىالهجرة لقلة المسلمين و أما بعد الفتح

و حين كثر المسلمون و اعتزوا و تكفل الله
لنبيه بالعصمة من الناس فإن الهجرة ساقطة حينئذ لقوله صلى الله عليه و سلملا هجرة بعد الفتحو قيل سقط إنشاوها عمن يسلم بعد الفتح و قيلسقط وجوبها عمن أسلم و هاجر قبل الفتح و الكل مجمعون على أنها بعد الوفاة ساقطة لأنالصحابة افترقوا من يومئذ في الآفاق و انتشروا و لم يبق إلا فضل السكنى بالمدينة وهو هجرة فقول الحجاج لسلمة حين سكن البادية ارتددت على عقبيك تعربت نعى عليه في ترك السكنى


بالمدينة بالإشارة إلى الدعاء المأثور الذي فقدناه و هو قوله لا تردهم على
أعقابهم و قوله تعربت إشارة إلى أنة صار من الأعراب الذين لا يهاجرون و أجاب سلمةبإنكار ما ألزمه من الأمرين و أن النبي صلى الله عليه و سلم أذن له في البدر و يكونذلك خاصاً به كشهادة خزيمة و عناق أبي بردة أو يكون الحجاج إنما نعى عليه تركالسكنى بالمدينة فقط لعلمه بسقوط الهجرة بعد الوفاة و أجابه سلمة بأن اغتنامه


لإذن
النبي صلى الله عليه و سلم أولى و أفضل فما آثره به و اختصه إلا لمعنى علمه فيه وعلى كل تقدير فليس دليلاً على مذمة البدو الذي عبر عنه بالتعرب لأن مشروعية الهجرةإنما كانت كما علمت لمظاهرة النبي صلى الله عليه و سلم و حراسته لا لمذمة البدوفليس في النعي على ترك هذا الواجب دليل على مذمة التعرب و الله سبحانه أعلم و بهالتوفيق





ابن خلدون
(المقدمة)
.









رد مع اقتباس