إن أشرف ما في الانسان قلبه، فإنه العالِم بالله، و العامِل له، و الساعي إليه، و إنما الجوارح أتباع و خُدّام له يستخدمها القلب استخدام الملوك للعبيد.
و من عرف قلبه عرف ربّه، و أكثر الناس جاهلون بقلوبهم و نفوسهم، و الله يحُول بين المرء و قلبه، و حيلولته أن يمنعه من معرفته و مراقبته، فمعرفة القلب و صفاته أصل الدين، و أساس طريق السالكين.
و قد ورد في الحديث أن النبي
كان يقول: " يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، و يا مصرف القلوب اصرف قلبنا إلى طاعتك".[2]
و في حديث آخر: " مَثَلُ القلب كمثل ريشة بأرض فلاة تقلبها الرياح".[3]
و اعلم: أن القلوب في الثبات على الخير و الشر و التردد بينهما ثلاثة:
القلب الأول: قلب عُمِّر بالتقوى، و زُكِّي بالرياضة، و طُهِّر عن خبائث الأخلاق، فتنفرج فيه خواطر الخير من خزائن الغيب، فيمده المَلَكُ بالهُدى.
القلب الثاني: قلب مخذول، مشحون بالهوى، مندس بالخبائث، ملوث بالأخلاق الذميمة، فيقوى فيه سلطان الشيطان لإتساع مكانه، و يضعف سلطان الأيمان، و يمتلئ القلب بدخان الهوى فيعدم النور، ويصير كالعين الممتلئة بالدخان، و لا يمكنها النظر، و لا يؤثر عنده زجر و لا واعظ.
القلب الثالث: قلب يبتدئ فيه خاطر الهوى، فيدعوه إلى الشر، فيلحقه خاطر الإيمان، فيدعوه إلى الخير. و يقع التردد بين الجندين، إلى أن يغلب على القلب ما هو أولى به، فمن خُلق للخير يُسِّر له، و من خُلق للشر يُسِّر له: ( فمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ) [ الأنعام: 125] اللهم وفقنا لما تحبه و ترضاه.
------------------------------------------
[1]ابن قدامة المقدسي، مختصر منهاج القاصدين، مكتبة الصفا، القاهرة، مصر، 1423 هـ - 2002 م ، ص 147 و ص 150، ص 151.
[2]صحيح، أخرجه ( مسلم / 2654 ) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
[3]أخرجه ابن ماجة (88)، و ابن أبي عاصم في السنة (227)، و قال العلامة الألباني رحمه الله في ظلال الجنة: إسناده صحيح رجاله ثقات على شرط مسلم.
جمع و ترتيب ابن القيم
09/08/2012