منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - سيرة عمر بن الخطاب الجزء 21 -25
عرض مشاركة واحدة
قديم 2012-08-07, 07:01   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
إكرام ملاك
مشرف سابق
 
الصورة الرمزية إكرام ملاك
 

 

 
الأوسمة
المشرف المميز أحسن عضو لسنة 2013 المرتبة الاولى وسام المرتبة الثالثة 
إحصائية العضو










افتراضي

الجزء 24






فعبر النهر، واستوثق مُلك خراسان على يدي الأحنف بن قيس، واستخلف في كل بلدة أميراً ، ورجع الأحنف فنزل مرو الروذ، وكتب إلى عمر بما فتح الله عليه من بلاد خراسان بكاملها وكتب عمر إلى الأحنف ينهاه عن العبور إلى ما وراء النهر. وقال: احفظ ما بيدك من بلاد خراسان ولما وصل رسول يزدجرد إلى اللذين استنجد بهما لم يحتفلا بأمره، فلما عبر يزدجرد النهر ودخل في بلادهما تعين عليهما إنجاده في شرع الملوك، فسار معه خاقان ، فوصل إلى بَلْخ حتى نزلوا على الأحنف بمرو الروذ فتبرز الأحنف بمن معه من أهل البصرة وأهل الكوفة والجميع عشرون ألفاً فسمع رجلاً يقول لآخر: إن كان الأمير ذا رأي فإنه يقف دون هذا الجبل فيجعله وراء ظهره، ويبقى هذا النهر خندقاً حوله فلا يأتيه العدو إلا من جهة واحدة فلما أصبح الأحنف أمر المسلمين فوقفوا في ذلك الموقف بعينه، وكان أمارة النصر والرشد وجاءت الأتراك والفرس في جمع عظيم هائل مزعج، فقام الأحنف في الناس خطيباً فقال: إنكم قليل وعدوكم كثير فلا يهولُنّكم  كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ(249)  (سورة البقرة ، آية:249)، فكان الترك يقاتلون بالنهار ولا يدري الأحنف أين يذهبون في الليل ، فصار ليلة مع طليعة من أصحابه نحو خاقان ، فلما كان قريب الصبح خرج فارس من الترك طليعة وعليه طوق وضرب بطبلة فتقدم إليه الأحنف فاختلفا طعنتين فطعنه الأحنف فقتله وهو يرتجز:

إنّ على كُل رئيس حقا
إنّ لها شيخا بها مُلَقىّ
أن يخضِبَ الصّعْدة أو تَنْدَقّا
سَيفَ أبي حفص الذي تبقَّى



ثم استلب التركيَّ طوقه ووقف موضعه، فخرج آخر عليه طوق ومعه طبل فجعل يضرب بطبلة ، فتقدم إليه الأحنف فقتله أيضاً واستلبه طوقه ووقف موضعه، فخرج ثالث فقتله وأخذ طوقه، ثم أسرع الأحنف الرجوع إلى جيشه ولا يعلم بذلك أحد من الترك بالكلية، وكان من عادة الترك أنهم لا يخرجون حتى تخرج ثلاثة من كهولهم بين أيديهم يضرب الأول بطبلة ثم الثاني، ثم الثالث . فلما خرجت الترك فأتوا على فرسانهم مقتولين، تشاءم بذلك الملك خاقان وتطير ، وقال لعسكره: قد طال مقامنا وقد أصيب هؤلاء القوم بمكان لم نصب بمثله ، مالنا في قتال هؤلاء القوم من خير فانصرفوا بنا فرجعوا إلى بلادهم( ) وقد قال المسلمون للأحنف: ما ترى في اتباعهم؟ فقال: أقيموا بمكانكم ودعوهم. وقد أصاب الأحنف في ذلك، فقد جاء في الحديث: اتركوا الترك ما تركوكم( ) ،  وَرَدَّ الله الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرَاً وَكَفَى الله الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ الله قَوِيَّاً عَزِيزَاً (الأحزاب،آية:25) ، ورجع كسرى خاسر الصفقة لم يشف له غليل، ولا حصل على خير ، ولا انتصر كما كان في زعمه، بل تخلى عنه من كان يرجو النصر منه، وتنحى عنه وتبرأ منه أحوج ما كان إليه، وبقى مذبذباً لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء:  وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً(88)  (النساء،آية:88).
وتحير في أمره ماذا يصنع؟ وإلى أين يذهب ؟ ثم بعث إلى ملك الصين يستغيث به ويستنجده فجعل ملك الصين يسأل الرسول عن صفة هؤلاء القوم الذي قد فتحوا البلاد وقهروا رقاب العباد، فجعل يخبره عن صفتهم، وكيف يركبون الخيل والإبل، وماذا يضعون؟ وكيف يُصَلُّون؟ فكتب معه إلى يزدجرد: إنه لم يمنعني أن أبعث إليك بجيش أوله بمرو وآخره بالصين الجهالة بما يحق عليّ، ولكن هؤلاء القوم الذين وصف لي رسولك صفتهم لو يحاولون الجبال لهدوها، ولو جئت لنصرك أزالوني ما داموا على ما وصف لي رسولك فسالمهم وأرضَ منهم بالمسالمة ، فأقام كسرى وآل كسرى في بعض البلاد مقهورين ولم يزال ذلك دأبه حتى قتل في إمارة عثمان( )، ولما بعث الأحنف بكتاب الفتح وما أفاء الله عليهم من أموال الترك ومن كان معهم، وأنهم قتلوا منهم مع ذلك مقتلة عظيمة، ثم ردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيراً ، فقام عمر على المنبر وقُرِئَ الكتاب بين يديه، ثم قال عمر: إن الله بعث محمداً بالهدى ووعد على ابتاعه من عاجل الثواب وآجله خير الدنيا والآخرة فقال: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ(33)  (التوبة،آية:33).
فالحمد لله الذي أنجز وعده، ونصر جنده . ألا وإن الله قد أهلك مُلْك المجوسية وفرق شملهم، فليس يملكون من بلادهم شبراً يضير بمسلم، ألا وإن الله قد أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأبناءهم لينظر كيف تعملون، فقوموا في أمره على وجل ، يُوفِ لكم بعهده ويؤتكم وعده، ولا تغيروا فيستبدل قوماً غيركم، فإني لا أخاف على هذه الأمة أن تؤتى إلا من قبلكم( ).

ثامناً: فتح اصطخر سنة 23هـ :
افتتح المسلمون اصطخر ـ للمرة الثانية ـ في سنة ثلاث وعشرين وكان أهلها قد نقضوا العهد بعدما كان جند العلاء بن الحضري افتتحوها حين جاز في البحر ـ في أرض البحرين ـ والتقوا هم والفرس في مكان يقال له طاوس، ثم صالحه الهِرْبذة على الجزية ، وأن يضرب لهم الذمة ، ثم إن شهرك خلع العهد، ونقض الذمة، ونشّط الفرس ، فنقضوا العهد، فبعث إليهم عثمان بن أبي العاص ، ابنه وأخاه الحكم ، فاقتتلوا مع الفرس فهزم الله جيوش المشركين ، وقتل الحكمُ بن أبي العاص شهَرك( ).
تاسعاً: فتح فساودار بجرد سنة 23هـ:
قصد سارية بن زُنَيم فساودارا بجرد، فاجتمع له جموع من الفرس والأكراد عظيمة ودهم المسلمين منهم أمر عظيم ، رأى عمر في تلك الليلة فيما يرى النائم معركتهم وعددهم في وقت من النهار، وأنهم في صحراء ، وهناك جبل إن أسندوا إليه لم يؤتوا إلا من وجه واحد، فنادى في الغد الصلاة جامعة حتى إذا كانت الساعة التي رأي أنهم اجتمعوا فيها ـ خرج إلى الناس وصعد المنبر ـ فخطب الناس وأخبرهم بصفة ما رأى ـ ثم قال: يا سارية الجبل ـ ثم أقبل عليهم وقال: إن لله جنوداً ولعل بعضها أن يبلغهم. قال: ففعلوا ما قال عمر ـ فنصرهم الله على عدوهم ـ وفتحوا البلد( ) .

عاشراً: فتح كَرْمان وسجستان سنة 23هـ :
قام سهيل بن عدي في سنة 23 بفتح كرمان ( )، وقيل فتحت على يدي عبدالله بن بُدَيل بن ورقاء الخزاعي( )، وذكر بعض المؤرخين فتح سجستان على يدي عاصم بن عمرو، بعد قتال شديد ، وكانت ثغورها متسعة ، وبلادها متنائية ما بين السد إلى نهر بلخ، وكانوا يقاتلون القُندهار والترك من ثغورها وفروجها( )

الحادي عشر: فتح مُكرَان سنة 23هـ:
في السنة 23هـ فتحت مكران على يدي الحكم بن عمرو، وأمده شهاب بن المخارق، ولحق به سهيل بن عدي ، وعبدالله بن عبدالله بن عتبان واقتتلوا مع ملك السند فهزم الله جموع السند وغنم المسلمون منهم غنيمة كثيرة ، وكتب الحكم بن عمرو بالفتح وبعث بالأخماس مع صُحار العبدي فلما قدم على عمر سأله عن أرض مُكْران فقال: يا أمير المؤمنين أرض سهلها جبل ، وماؤها وشل( )، وتمرها دقل( )، وعدوها بطل ، وخيرها قليل ، وشرها طويل والكثير بها قليل والقليل بها ضائع ، وما وراءها شر منها فقال عمر: أسجاع أنت أم مخبر؟ فقال: لا ، بل خبر، فكتب عمر إلى الحكم بن عمرو، أن لا يجوزون مكران، وليقتصروا على ما دون النهر( ).

الثاني عشر: غزوة الأكراد :
ذكر ابن جرير بسنده عن سيف عن شيوخه: أن جماعة من الأكراد والتف إليهم طائفة من الفرس، اجتمعوا فلقيهم أبو موسى بمكان من أرض بيرُوذ قريب من نهر تِيرَى( )، ثم سار عنهم أبو موسى إلى أصبهان وقد ا ستخلف على حربهم الربيع بن زياد بعد مقتل أخيه المهاجر بن زياد ـ فتسلم الحرب وخنق عليهم، فهزم الله العدو وله الحمد والمنة كما هي عادته المستمرة وسنته المستقرة، في عباده المؤمنين ، وحزبه المفلحين من أتباع سيد المرسلين ثم خمست الغنيمة وبعث بالفتح والخمس إلى عمر رضي الله عنه( ).
وهكذا تم فتح العراق وبلاد إيران في عهد عمر رضي الله عنه وأقام المسلمون المسالح في شتى أرجائها متوقعين انتقاض الفرس في هذه الديار ـ لقد كانت فتوح المشرق عنيفة اقتضت من المسلمين تضحيات جسيمة بسبب اختلاف الدم، فسكان إيران فرس لا تربطهم بالعرب لغة ولا جنس ولا ثقافة وكان الشعور القومي عند الإيرانييين يزكيه التاريخ الطويل والثقافة المتأصلة، كما أن القتال كان يدور في صميم الوطن الإيراني ويشترك رجال الدين المجوسي في تأليب السكان على المقاومة يضاف إلى ذلك بعد هذه المناطق عن مراكز الجيش في البصرة والكوفة ، وطبيعة الأرض الجبلية التي تمكن السكان من المقاومة ـ ولذلك فقد انتقضت معظم هذه المراكز، وأعيد فتحها في عهد الفاروق أو في خلافة عثمان رضي الله عنهما( ).


المبحث الخامس: أهم الدروس والعبر والفوائد من فتوحات العراق والمشرق:

أولاً: أثر الآيات والأحاديث في نفوس المجاهدين:
كان للآيات والأحاديث التي تتحدث عن فضل الجهاد أثرها في نفوس المجاهدين ، فقد بين المولى عز وجل أن حركات المجاهدين كلها يثاب عليها قال تعالى: مَا كَانَ لأِهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ(120) وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ(121)  (التوبة،آية:120-121) ، وقد أيقن المسلمون الأوائل أن الجهاد تجارة رابحة قال تعالى:  يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ(10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ  (الصف،آية:10-13).
وقد تعلموا أن الجهاد أفضل من عمارة المسجد الحرام وسقاية الحجاج فيه قال تعالى:  أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ
دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ(20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ
وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ(21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ
أَجْرٌ عَظِيمٌ(22)  (التوبة،آية:19-21)، واعتقدوا أن الجهاد فوز على كل حال قال تعالى: قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ(52)  (التوبة،آية:52)، وأن الشهيد لا تنقطع حياته بل هو حي قال تعالى: وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ(169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ(170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ(171)  (آل عمران:169-171) وكانوا يشعرون بسمو هدفهم الذي يقاتلون من أجله قال تعالى:  فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالأخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا(74) وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا(75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا(76)  (النساء، آية: 74-76).
وقد بين الرسول  للمسلمين فضل الجهاد فألهبت تلك الأحاديث مشاعرهم وفجّرت طاقاتهم ومن هذه الأحاديث ما ورد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله أي الناس أفضل؟ فقال رسول الله  : (مؤمن يجاهد بنفسه وماله)( ) ، وقد بين رسول الله  درجات المجاهدين قال : إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة( )، وقد وضح  فضل الشهداء وكرامتهم فقال: (انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يُخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلفْ سرَّية ولوددتُ أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل)( ) وقال : (ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شئ إلا الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة)( )، وغير ذلك من الأحاديث وقد تأثر المسلمون الأوائل ومن سار على نهجهم بهذه الآيات والأحاديث ـ فكان كبار الصحابة رضي الله عنهم يغزون وقد شاخوا فيشفق عليهم الناس وينصحونهم بالقعود عن الغزو لأنهم معذورون فيجيبونهم أن سورة التوبة تأبى عليهم القعود ويخافون على أنفسهم من النفاق إذا ما تخلفوا عن الغزو( ).

1- من ثمرات الجهاد في سبيل الله:
كان الصحابة والتابعون بإحسان في العهد الراشدي يرون أن الجهاد في سبيل الله ضرورة من ضرورات بقاء الأمة الإسلامية فقاموا بهذه الفريضة في فتوحات العراق وبلاد المشرق والشام ومصر والشمال الأفريقي وترتب على قيامهم لهذه الفريضة ثمرات كثيرة منها: تأهيل الأمة الإسلامية لقيادة البشرية ،القضاء على شوكة الكفار وإذلالهم وإنزال الرعب في قلوبهم ، ظهور صدق الدعوة للناس الأمر الذي جعلهم يدخلون في دين الله أفواجا فيزداد المسلمون بذلك عزاً والكفار ذلاً، وتوحدت صفوف المسلمين ضد أعدائهم واسعدوا الناس بنور الإسلام وعدله ورحمته( ).

ثالثاً: من سنن الله في فتوحات العراق وبلاد المشرق:
يلاحظ الباحث في دراسته لفتوحات العراق وبلاد المشرق بعض سنن الله في المجتمعات والشعوب والدول ومن هذه السنن :

1- سنة الأخذ بالأسباب:
قال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ(60)  (الأنفال،آية:60).
وقد طبق الفاروق رضي الله عنه في عهده هذه الآية وأخذ بالأسباب المادية والمعنوية كما مرّ معنا.

2- سنة التدافع:
قال تعالى: وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ(251)  (البقرة،آية:251).
وقد تحققت هذه السنة في حركة الفتوحات عموماً وسنة التدافع من أهم سنن الله تعالى في كونه وخلقه وهي من أهم السنن المتعلقة بالتمكين للأمة الإسلامية ، وقد استوعب المسلمون الأوائل هذه السنة وعملوا بها وعلموا: أن الحق يحتاج إلى عزائم تنهض به وسواعد تمضي به وقلوب تحنو عليه وأعصاب ترتبط به ـ إنه يحتاج إلى جهد بشرى لأن هذه سنة الله في الحياة الدنيا وهي ماضية( ).
3- سنة الابتلاء:
قال تعالى:  أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ(214)  (البقرة،آية:214).
وقد وقع البلاء في فتوحات العراق في معركة جسر أبي عبيد على الخصوص حيث قتل الآلاف من المسلمين وهزم جيشهم ثم أعادوا صفوفهم وحققوا انتصارات عظيمة على الفرس وقد قال تعالى:  لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ...
(آل عمران،آية:186).
ومن الملاحظ من خلال الآيات الكريمة أن تقرير سنة الإبتلاء على الأمة الإسلامية جاء في أقوى صورة من الجزم والتأكيد( )، وهذه سنة الله تعالى في العقائد والدعوات لا بد من بلاء ، ولا بد من أذى في الأموال والأنفس ولا بد من صبر ومقاومة واعتزام( ).

4- سنة الله في الظلم والظالمين:
قال تعالى:  ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ(100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ(101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ(102) 
(هود،آية:100-102).
وسنة الله مطردة في هلاك الأمم الظالمة وقد مارست الدولة الفارسية الظلم على رعاياها وتمردت على منهج الله فمضت فيها سنة الله وسلط الله عليها المسلمين فأزالوها من الوجود( ).

5- سنة الله في المترفين:
قال تعالى:  وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا(16)  (الإسراء،آية:16).
وجاء في تفسيرها: وإذا دنا وقت هلاكها أمرنا بالطاعة مترفيها أي متنعميها
وجبّاريها وملوكها ففسقوا فيها فحق عليها القول فأهلكناها وإنما خص الله تعالى المترفين بالذكر مع توجه الأمر بالطاعة إلى الجميع لأنهم أئمة الفسق ورؤساء الضلال وما وقع من سواهم إنما وقع باتباعهم وإغوائهم ، فكان توجه الأمر إليهم آكد( )، وقد مضت هذه السنة في زعماء الفرس وأئمتهم.

6- سنة الله في الطغيان والطغاة:
قال تعالى:  إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ(14) (الفجر،آية:14). والآية وعيد للعصاة مطلقاً وقيل وعيد للكفرة وقيل وعيد للعصاة ووعيد لغيرهم( ).
وفي تفسير القرطبي: أي يرصد كل إنسان حتى يجازيه به( ).
وواضح من أقوال المفسرين في الآيات التي ذكرناها في الفقرة السابقة أن سنة الله في الطغاة إنزال العقاب بهم في الدنيا فهي سنة ماضية لا تتخلف جرت على الطغاة السابقين وستجري على الحاضرين والقادمين فلن يفلت أحد منهم من عقاب الله في الدنيا كما لا يفلت أحد منهم من عقاب الآخرة( ).
وسنة الله في الطغاة وما ينزله الله بهم من عقاب في الدنيا إنما يعتبر بها من يخشى الله جلّ جلاله ويخاف عقابه ويعلم أن سنة الله قانون ثابت لايحابي أحداً قال تعالى في بيان المعتبرين بسنته في الطغاة بعد أن ذكر ما حلّ بفرعون من سوء العقاب
 فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الأخِرَةِ وَالأولَى(25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى(26)  (النازعات،آية:25،26)، فهؤلاء الطغاة من زعماء الفرس مضت فيهم سنة الله.

7- سنة التدرج:
خضعت فتوح العراق وبلاد المشرق لسنة التدرج ـ فكانت المرحلة الأولى في عهد الصديق حيث تم فتح الحيرة بقيادة خالد بن الوليد ، وأما المرحلة الثانية فتبدأ من تولي أبي عبيد الثقفي قيادة لجيوش العراق حتى معركة البويب ـ وأما المرحلة الثالثة فتبدأ منذ تأمير سعد بن أبي وقاص على الجهاد في العراق إلى ما قبل وقعة نهاوند ، وتبدأ المرحلة الرابعة من وقعة نهاوند وأما المرحلة الخامسة فهي مرحلة الإنسياح في بلاد الأعاجم.
إن حركة الفتوحات يتعلم منها أبناء المسلمين أهمية مراعاة سنة التدرج في العمل للتمكين لدين الله ، ومنطلق هذه السنة أن الطريق طويل ولذلك لا بد من فهم واستيعاب هذه السنة بالنسبة للعاملين في مجال الدعوة الإسلامية ، فالتمكين لدين الله في العراق وبلاد المشرق لم يتحقق بين عشية وضحاها ولكنه خضع بإرادة الله لهذه السنة.

8- سنة تغيير النفوس:
قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ... (الرعد،آية:11)
وقد قام الصحابة الكرام رضوان الله عليهم في فتوحات العراق وبلاد المشرق بالعمل بهذه السنة الربانية مع الشعوب التي أرادت أن تدخل في دين الله
ـ فشرعوا في تربية الناس على كتاب الله وسنة رسوله  ـ فغرسوا في نفوسهم العقائد الصحيحة والأفكار السليمة والأخلاق الرفيعة.

9- سنة الله في الذنوب والسيئات:
قال تعالى:  أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ(6)  (الأنعام،آية: 6).
وقد أهلك الله تعالى أمة الفرس بسبب ذنوبهم التي اقترفوها والتي من أعظمها الكفر والشرك بالله وفي هذه الآية حقيقة ثابتة وسنة مطردة: أن الذنوب تهلك أصحابها وأن الله تعالى هو الذي يهلك المذنبين بذنوبهم( )، وقد سلط الله أمة الإسلام على الفرس عندما حققت شروط التمكين وعملت بسننه وأخذت بأسبابه .

رابعاً: الأحنف بن قيس يغير مجرى التاريخ:
كان عمر متمسكاً برأيه في الاقتصار على ما فتح من فارس ومنع جيوشه من التوغل في المشرق ولا سيما بعد أن انكسر الهرمزان وفتح المسلمون الأهواز.
فقال عمر: حسبنا لأهل البصرة سوادهم والأهواز، وددت أن بيننا وبين فارس جبلاً من نار لا يصلون إلينا ولا نصل إليهم ،وقال لأهل الكوفة: وددت أن بينهم وبين الجبل جبلاً من نار لا يصلون إلينا ولا نصل إليهم .
وفاوض عمر الوفد في هذا الأمر فقال له الأحنف: يا أمير المؤمنين أخبرك إنك نهيتنا عن الإنسياح في البلاد وأمرتنا بالاقتصار على ما في أيدينا وإن ملك فارس حيَّ بين أظهرهم وإنهم لا يزالون يساحلوننا مادام ملكهم فيهم ولم يجتمع ملكان فاتفقا - أي التقيا - حتى يخرج أحدهما صاحبه ـ وقد رأيت أنا لم نأخذ شيئاً إلا بانبعاثهم وإن ملكهم هو الذي يبعثهم ولا يزال هذا دأبهم حتى تأذن لنا فلنسح في بلادهم حتى نزيله عن فارس ونخرجه من مملكته وغرامته ، فهنالك ينقطع رجاء أهل فارس ويُضربون جأشاً( ) .
فقال عمر للأحنف: صدقتني والله وشرحت لي الأمر على حقه.
وأذن عمر بالانسياح في بلاد فارس وانتهى في ذلك إلى رأي الأحنف،وعرف فضله وصدقه فساحوا في تلك البلاد ودفع لواء خراسان إلى الأحنف ، ووزع بقية الألوية إلى الأبطال من قادة المجاهدين ، ورسم لهم خطة الحرب والتقدم ، ثم جعل يمدهم بالجيوش من ورائهم( ).





الفصل السابع
فتوح الشام ومصر وليبيا

المبحث الأول: فتوحات الشام:

كان أول خطاب وصل إلى الشام من الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحمل نبأ وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وتولية أبي عبيدة على الشام وقد جاء فيه: أما بعد فإن أبا بكر الصديق خليفة رسول الله  قد توفي فإنا لله وإنا إليه راجعون، ورحمة الله وبركاته على أبي بكر الصديق العامل بالحق، والآخذ بالعرف، اللين الستير الوادع، السهل القريب الحكيم، ونحتسب مصيبتنا فيه ومصيبة المسلمين عامة عند الله تعالى، وأرغب إلى الله في العصمة بالتقى في مرحمته، والعمل بطاعته ما أحيانا، والحلول في جنته إذا توفانا، فإنه على كل شيء قدير، وقد بلغنا حصاركم لأهل دمشق، وقد وليتك جماعة المسلمين، فابثث سراياك في نواحي أهل حمص ودمشق وما سواها من أرض الشام، وانظر في ذلك برأيك ومن حضرك من المسلمين ولا يحملنك قولي هذا على أن تعري عسكرك فيطمع فيك عدوك ولكن من استغنيت عنه فسيره، ومن احتجت إليه في حصارك فاحتبسه، وليكن فيمن تحتبس خالد بن الوليد فإنه لا غنى بك عنه( )، وعند وصول الكتاب دعا أبو عبيدة معاذ بن جبل، فأقرأه الكتاب، وقال حامل الرسالة: يا أبا عبيدة، إن عمر يقول لك أخبرني عن حال الناس، وعن خالد بن الوليد أي رجل هو؟ وأخبرني عن يزيد بن أبي سفيان، وعن عمرو بن العاص، وكيف هما في حالهما وهيئتهما ونصحهما للمسلمين وأجاب أبو عبيدة رسول عمر وكتب
أبو عبيدة ومعاذ بن جبل كتاباً واحداً إلى عمر جاء فيه: … من أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل إلى عمر بن الخطاب، سلام عليكم، فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإنا عهدناك وأمر نفسك لك مهم، وإنك يا عمر، أصبحت وقد وليت أمر أمة محمد، أحمرها وأسودها، يقعد بين يديك العدو والصديق، والشريف والوضيع، والشديد والضعيف، ولكل عليك حق وحقّه من العدل فانظر كيف تكون يا عمر، وإنا نذكِّرك يوماً تُبلى فيه السرائر، وتكشف فيه العورات، وتظهر فيه المُخبَّات، وتَعْنُو فيه الوجوه لملك قاهر، قهرهم بجبروته، والناس له داخرون، ينتظرون قضاءه، ويخافون عقابه، ويرجون رحمته، وإنه بلغنا أنه يكون في هذه الأمة رجال إخوان العلانية أعداء السريرة، وإنا نعوذ بالله من ذلك، فلا ينزل كتابنا من قلبك بغير المنزلة التي أنزلناها من أنفسنا والسلام عليك ورحمة الله( ).

• حوار بين خالد وأبي عبيدة رضي الله عنهما:
علم خالد بأمر عزله فأقبل حتى دخل على أبي عبيدة فقال: يغفر الله لك، أتاك كتاب أمير المؤمنين بالولاية فلم تعلمني وأنت تصلي خلفي والسلطان سلطانك؟ فقال أبو عبيدة: وأنت يغفر الله لك ما كنت لأعلمك ذلك حتى تعلمه من عند غيري، وما كنت لأكسر عليك حربك حتى ينقضي ذلك كله، ثم قد كنت أعلمك إن شاء الله وما سلطان الدنيا أريد، وما للدنيا أعمل، وإن ما ترى سيصير إلى زوال وانقطاع وإنما نحن إخوان وُقوَّام بأمر الله عز وجل، وما يضر الرجل أن يلي عليه أخوه، في دينه ولا دنياه، بل يعلم الوالي أنه يكاد أن يكون أدناهما إلى الفتنة وأوقعهما في الخطيئة لما يعرض له من الهلكة، إلا من عصم الله عز وجل وقليل
ما هم ودفع أبو عبيدة كتاب عمر إلى خالد( ).

• عمر رضي الله عنه يرد على رسالة أبي عبيدة ومعاذ رضي الله عنهما:
عندما وصل كتاب أبي عبيدة ومعاذ بواسطة شداد بن أوس بن ثابت بن أخي حسان بن ثابت الأنصاري ردّ عمر رضي الله عنه على كتابهما وجاء فيه: … فإني أحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإني أوصيكما بتقوى الله، فإنه رضاء ربكما، وحظ أنفسكما، وغنيمة الأكياس( ) لأنفسهم عند تفريط العجزة، وقد بلغني كتابكما تذكران أنكما عهدتماني وأمر نفسي لي مُهمّ، فما يدريكما، وهذه تزكية منكما لي، وتذكران أني وليت أمر هذه الأمة، يقعد بين يديّ الشريف والوضيع والعدوّ والصديق، والقوي والضعيف، ولكلِّ حصته من العدل، وتسألانني كيف أنا عند ذلك، وإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وكتبتما تخوفاني يوماً هو آت، وذلك باختلاف الليل والنهار، فإنهما يبليان كل جديد، ويقربان كل بعيد، ويأتيان بكل موعود، حتى يأتيا بيوم القيامة، يوم تُبلى السرائر، وتكشف العورات، وتعنو فيه الوجوه لعزة ملك قهرهم بجبروته، فالناس له داخرون، يخافون عقابه، وينتظرون قضاءه، يرجون رحمته. وذكرتما أنه بلغكما أنه يكون في هذا الأمة رجال يكونون إخوان العلانية، أعداء السريرة، فليس هذا بزمان ذلك، فإن ذلك يكون في آخر الزمان إذا كانت الرغبة والرهبة، رغبة الناس ورهبتهم، بعضهم إلى بعض. والله عز وجل قد ولاني أمركم، وإني أسأل الله أن يعينني عليه وأن يحرسني عنه كما حرسني عن غيره، وإني امرؤ مسلم وعبد ضعيف، إلا ما أعان الله عز وجل، ولن يغير الذي وَليت من خلافتكم من خُلُقي شيئاً إن شاء الله، وإنما العظة لله عز وجل، وليس للعباد منها شيء، فلا يقولن أحد منكم إن عمر قد تغير منذ وَلي، وإني أعقلُ الحق من نفسي وأتقدم، وأُبيِّن لكم أمري، فأيما رجل كانت له حاجة، أو ظُلم مظلمة، ليس بيني وبين أحد من المسلمين هوادة، وأنا حبيب إليّ صلاحكم عزيز عليّ عتبكم، وأنا مسؤول عن أمانتي وما أنا فيه، ومطلع على
ما يضيرني بنفسي إن شاء الله لا أكله إلى أحد، ولا أستطيع ما بعد ذلك إلا بالأمناء، وأهل النصح منكم للعامة، ولست أجعل أمانتي إلى أحد سواهم، إن شاء الله وأما سلطان الدنيا وإمارتها؛ فإن كل ما تريان يصير إلى زوال، وإنما نحن إخوان، فأينا أمَّ أخاه، أو كان عليه أميراً لم يَضُره ذلك في دينه ولا في دنياه، بل لعل الوالي أن يكون أقربهما إلى الفتنة وأوقعهما بالخطيئة إلا من عصم الله، وقليل ما هم( ).

أولاً: فتح دمشق:
تمثل الفتوحات في بلاد الشام في عهد عمر بن الخطاب المرحلة الثانية من الفتوحات في هذه الجبهة بعد الفتوح في عهد الصديق فبعد أن انتهت معركة اليرموك وانهزمت جموع الروم استخلف أبو عبيدة بن الجراح على اليرموك بشير بن كعب الحميري، وأتاه الخبر أن المنهزمين من الروم اجتمعوا بفحل، وأن المدد قد أتى أهل دمشق من حمص، فأصبح لا يدري أبدمشق يبدأ أم بفحل في بلاد الأردن، فكتب القائد أبو عبيدة بن الجراح إلى الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستأمره فأجابه: أما بعد، فابدأوا بدمشق فانهدوا لها، فإنها حصن الشام وبيت مملكتهم، واشغلوا عنكم أهل فحل، بخيل تكون بإزائهم في نحورهم وأهل فلسطين وأهل حمص، فإن فتحها الله قبل دمشق فذاك الذي نحب، وإن تأخر فتحها حتى يفتح الله دمشق، فلينزل في دمشق من يمسك بها ودعوها، وانطلق أنت وسائر الأمراء حتى تغيروا على فحل فإن تم فتحها، فانصرف أنت وخالد إلى حمص وأمير كل بلد على جند حتى يخرجوا من أمارته( ).
ومن خلال أوامر الفاروق نلاحظ: أنه حدد مسؤولية قيادة العمليات، وبموجبه تم تطبيق مبدأ الاقتصاد بالجهد، فضلاً عن المرونة في التصرف إزاء الأهداف المطلوبة، كما يستنتج من هذه الأوامر أن الهدف الرئيس الأول هو دمشق مع توجيه قوة صغيرة لفحل، والهدف الرئيس الثاني هو فحل، لتوجيه الجيش كله لفتحها والهدف الثالث مدينة حمص، واستناداً إلى هذه التوجيهات أرسل أبو عبيدة بن الجراح وحدات قتالية إلى فحل وعلى قيادتها: أبو الأعور السلمي عامر بن حتمة، وعمرو بن كليب وعبد عمر بن يزيد بن عامر، وعمارة بن الصعق بن كعب، وصفي بن علية بن شامل، وعمر بن الحبيب بن عمر، ولبدة بن عامر، وبشير بن عصمة، عمارة بن مخشن وهو القائد لهذه المجموعات، وتوجهت إلى فحل( )، وانطلق أبو عبيدة نحو دمشق، ولم يلق أية مقاومة ذات أهمية تذكر، إذ أن الروم قد اعتمدوا على أهل البلاد في المنطقة قبل دمشق لإعاقة تقدم قوات المسلمين، إلا أن هؤلاء لم تكن لهم الحماسة والاستماتة للدفاع ويعود ذلك لسوء معاملة الروم لهم وخاصة لأهل القرى الصغيرة( )، ووصلت قوات المسلمين إلى (غوطة دمشق) التي فيها قصور الروم ومنازلهم، وشاهدوها خالية لأن أهلها هجروها إلى دمشق، وأرسل هرقل قوة من حمص لإمداد دمشق، وكانت تقدر بـ(500) خمسمائة مقاتل( )، وهي قوة قليلة مقارنة بما يتطلبه الموقف، إلا أن القوة الإسلامية التي وضعها أبو عبيدة بن الجراح شمال دمشق بقيادة (ذي الكلاع) تصدت لها، وجرى قتال عنيف بين الجانبين، انهزم فيه الروم( )، وناشد أهل دمشق هرقل الخلاص، فأرسل إليهم كتاباً يدعوهم إلى الثبات ويحرضهم على القتال
والمقاومة، ويعدهم بالمدد، فتقوت عزائمهم وجعلهم ذلك يصمدون للحصار وحركات القوات الإسلامية( ).

1- قوات الطرفين:

• القوات الرومية:
- القائد العام، هرقل.
- أمير دمشق، نسطاس بن نسطورس.
- قائد قوات دمشق، باهان الذي اشترك باليرموك وهرب منها واسمه ورديان.
- القوات العمومية للقوات الرومية في دمشق (60000) ستون ألف مقاتل، مع احتمال وصول تعزيزات إضافية من حمص (20000) عشرين ألف مقاتل لخط الدفاع و(40000) وأربعين ألف مقاتل للتعرض فالروم أقاموا في دمشق للاستفادة من الأبنية وحصونها وسورها وربما كانوا ينتظرون المدد ليقوموا بالتعرض.
- القوة الرومية في (فحل) تتألف من حاميتها ومن فلول جيش اليرموك الذي أثرت على معنوياتهم معركتها وفشلهم وهروبهم منها، فهم في فزع آخذ بنفوسهم.

• قوات المسلمين:
- القائد العام للقوات الإسلامية، عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
- قائد مسارح العمليات في بلاد الشام، أبو عبيدة بن الجراح.
- بعث القائد أبو عبيدة بن الجراح بعشرة من قواده وفي مقدمتهم أبو الأعور السلمي مع حجم مناسب من القوات الإسلامية – لم تذكر المصادر تعداد هذه القوة – للسيطرة على طريق دمشق وحتى بيسان ومحلها معروف اليوم بخربة فحل( ).
- أرسل أبو عبيدة بن الجراح قوات بقيادة (علقمة بن حكيم ومسروق) كل واحد بمحل الآخر باتجاه فلسطين، فأمن محور الحركات من الغرب والجنوب( ).
- أرسل أبو عبيدة بن الجراح قوة بقيادة (ذي الكلاع) إلى شمال دمشق ليرابط على الطريق الذي يربطها مع حمص لحماية هذا الاتجاه ومنع وصول التعزيزات الرومية إلى دمشق( ).
- كان حجم القوات الإسلامية بعد اليرموك بحدود (40000) أربعين ألف مقاتل، وهذه القوات متماسكة التنظيم، وتمتاز بالروح المعنوية العالية بعد النصر في اليرموك( ).
- بلغ حجم القوات الإسلامية التي ضربت الحصار على دمشق بحدود (20000) عشرين ألف مقاتل، وباقي القوات أرسلت إلى فحل لتثبيت الجبهة هناك وبالإمكان عند الضرورة سحبها من فحل لتعزز قوة الحصار( ).

2- وصف مدينة دمشق:
كانت دمشق مدينة عظيمة سميت باسم بانيها (دمشاق بن كنعان) وقد خضعت لحكم مصر، الأسرة الثامنة عشر فهي أقدم المدن في التاريخ وكانت مركز عبادة الأوثان، ولما دخلت المسيحية جعلت من معبدها الوثني كنيسة لا يضاهيها بجمالها وجلالها إلا كنيسة إنطاكية وفي جنوب دمشق تقع أراضي البلقاء وشمالها الجولان، وهي أرض جبلية وأراضيها كلها زروع وغدران مياه، وهي مركز تجاري مهم يسكنها العرب، وكان المسلمون يعرفونها لأنهم يتاجرون معها، وقد كانت مدينة دمشق، مدينة محصنة، تمتاز بالمناعة، فلها سور يحيطها مبنى من الحجارة وارتفاعه ستة أمتار، وفيه أبواب منيعة، وعرض المبنى ثلاثة أمتار، وقد زاد هرقل من مناعته بعد الغزو الفارسي لها، والأبواب يحكم إغلاقها، ويحيط بالسور خندق عرضه ثلاثة أمتار، ونهر بردى يؤثر على الخندق بمياهه وطينه، فأصبحت دمشق قلعة حصينة ليس من السهل اقتحامها( )، وبذلك تظهر لنا الدفاعات الرومية ذات المتانة، والقوة، لحماية مدينة دمشق، إذ أن هذه الاستحكامات تعطينا الدلائل الآتية:

- لم تنشأ الدفاعات الميدانية حول دمشق على عجل، فهي دفاعات كانت مهيأة منذ مدة ليست بالقصيرة، لما لدمشق من أهمية استراتيجية، وخوف الروم من فقدانها واستيلاء الفرس عليها، وهذا يعني أن الجهد الهندسي الميداني الرومي قد عمل في ترتيب وتنظيم هذه الدفاعات بحرية مطلقة وبموارد هندسية مناسبة غير مطلوبة باتجاهات أخرى فضلاً عن تيسر الإمكانيات الهندسية لدى جيش الروم في هذا المجال.









رد مع اقتباس