و في صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب و أبي هريرة أن جبرائيل سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن الإيمان فقال صلى الله عليه و سلم ((الإيمان أن تؤمن بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر و تؤمن بالقدر خيره و شره)) هذا لفظ عمر، و لفظ أبي هريرة: ((أن تؤمن بالله و ملائكته و كتابه و لقائه و رسله و تؤمن بالبعث و تؤمن بالقدر كله))
و في صحيح مسلم - أيضا - عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول: ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات و الأرض بخمسين ألف سنة قال و عرشه على الماء)) .
و الأحاديث في هذا المعنى كثيرة، و في هذه الآيات و الأحاديث الدلالة على أن الله سبحانه قد قدر الأشياء و علمها و كتبها، و أن الإيمان بذلك أصل من أصول الإيمان الستة التي يجب على كل مسلم الإيمان بها، و يدخل في ذلك أنه سبحانه، خلق الأشياء كلها، فما شاء كان و ما لم يشأ لم يكن، كما قال عز و جل:
اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَ هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ[35] و قال سبحانه:
وَ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ[36]
و قال سبحانه:
لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَ مَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ[37]
فعلمه سبحانه، محيط بكل شيء، و قدرته شاملة لكل شيء، كما قال سبحانه:
لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا[38]
و هو مع ذلك سبحانه قد أعطى العباد العقول و الأسماع و الأبصار و الأدوات التي يستطيعون بها أن يفعلوا ما ينفعهم، و يتركوا ما يضرهم، و أن يعرفوا بها الضار و النافع، و الخير و الشر، و الضلال و الهدى، و غير ذلك من الأمور التي مكن الله العباد من إدراكها بعقولهم و أسماعهم و أبصارهم و سائر حواسهم.
و جعل لهم سبحانه عملاً و اختياراً و مشيئة، و أمرهم بطاعته و نهاهم عن معصيته و أمرهم بالأسباب، و وعدهم على طاعته الثواب الجزيل في الدنيا و الآخرة، و على معاصيه العذاب الأليم، فهم يعملون و يكدحون، و تنسب إليهم أعمالهم و طاعاتهم و معاصيهم؛ لأنهم فعلوها بالمشيئة و الاختيار، كما قال عز وجل: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[39]
وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ[40]
إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ[41]
و قال سبحانه: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَ الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ[42] الآيات،
و قال سبحانه: وَ الْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ[43]
و قال سبحانه: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلًا[44]
و الآيات في هذا المعنى كثيرة، و في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم من ذلك ما لا يحصى و لكنهم مع ذلك لا يخرجون عن مشيئة الله بهذه الأعمال و إرادته الكونية، كما قال عز و جل: كَلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ[45]
و قال سبحانه: وَ مَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ[46]
و قال عز و جل: إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ الظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا[47]
و بما ذكرنا من هذه الآيات يتضح معنى قوله سبحانه: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا[48] و قوله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ[49]
نفس المنصدر.عبد العزيز بن عبد الله بن باز.